حسن مدن - طيف "محجوب"

الذي مات أمس الأول هو الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري، لكن يحضر في الذهن الآن طيف واسم رجل آخر من السودان اسمه عبدالخالق محجوب، علقه النميري على المشنقة منذ نحو أربعين عاماً، هو والشفيع أحمد الشيخ زوج القائدة النسوية فاطمة إبراهيم .

محجوب هو أكثر وجوه السياسة والوطنية في السودان إشراقاً، والشفيع خرج من صفوف عمال سكك الحديد ليؤسس للسودانيين نقاباتهم ويُدربهم على النضال المطلبي، والتف حبل المشنقة إياها على أعناق رفاق آخرين لهما .
يومها كتب الشهيد الكبير كمال جنبلاط مقالاً مطولاً في “النهار” البيروتية، قرأه اللبنانيون والعرب، استفظع فيه هول ما حدث: كيف تجرأ النميري على أن يعلق على المشنقة عبدالخالق محجوب، وهو رجل الحوار والوعي المتقد، الذي أعطى السودان واحداً من أهم تياراتها السياسية .
ما زلت أذكر أن الشاعر محمد الفيتوري أتى البحرين بعد تلك الفاجعة بسنوات قليلة جداً، وأقام فيها أمسيات شعرية، في المنامة العاصمة وفي المحرق، وكذلك في القرى، وفي كل تلك الأمسيات ألقى قصيدته الرائعة في رثاء محجوب .
واحدة من هذه الأمسيات أقيمت في قرية بعيدة، لم تكن شوارعها مضاءة بعد، وفي ليلة ممطرة، لكن المطر لم يمنع الناس من الحضور الكثيف . حين همّ الفيتوري بالنزول عن المنصة في ختام الأمسية من دون أن يلقي القصيدة، فاجأه الجمهور المحتشد في الصالة بإلحاح ألا يبارح مكانه قبل إلقائها .
وبصوتٍ متهدج خاطب الفيتوري محجوباً: “قادماً من بعيد على صهوة الفرس/ الفارس الحلم ذو الحربة الذهبية / يا فارس الحزن مرّغ حوافر خيلك/ فوق مقابرنا الهمجية” .
وعلى لسان محجوب قال: “لا تحفروا لي قبراً/ سأرقد في كل شبر من الأرض/ أرقد كالماء في جسد النيل / أرقد كالشمس فوق حقول بلادي / مثلي أنا ليس يسكن قبرا (000) لا تحفروا لي قبرا / سأصعد مشنقتي / وأغسل بالدم رأسي/ وأقطع كفي/ وأطبعها نجمة فوق واجهة العصر / فوق حوائط تاريخه المائلة / وأبذر قمحي للطير والسابلة” .
صعد عبد الخالق محجوب مشنقته بإباء الرجال وهو لما يزل شاباً، أما النميري فقد عاش عمراً مديداً تقلب فيه بين السلطة، التي قلبت أهوائه يمنة ويسرة، وبين المنفى قبل أن يعود في سنواته الأخيرة إلى الخرطوم .
رحل النميري، أما محجوب فيبقى .
أعلى