د. محمود المهدى - سقف العلاقات ودستورها

عندما تنعقد العلاقة مع الآخر دائما على الصدفة، فهي إفاقة بعد إغمائة- تطول أو تقصر- فلا يًُلتفت لحالٍ قامت بك إلا عرضا، ولا يتأتى منها وصلٌ إلا اتفاقًا، فهي على شفا جرفٍ هارٍ، ولابد يوما أن يعقب وهمَ الوصل مختتمُ العلاقة ونفوقها، وفق قانون القصور الذاتي، المتردي في خلفية زمنية، تغور في سحيق، كلما انطلق سهم الأيام صوبَ المستقبل، وعند كل إفاقة تمتد يدٌ بزهرات، ولكنها زهور القرطم أو الحسك يتأتَّى منها الوخز؛ إذْ تشرع نصالها صوب يدٍ صافحت في ود، فتعود دامية، قد غار بها الجرحُ وتقاطر منها النزف، وقد كان مظنة تَعَلُّقِ الطِّيبِ بها؛ فحياتنا كهذا " السديم" تحتاج دائما مراجعةَ قائمة الصداقات، وجُل العلاقات وفلترتها؛ لتحتجز الطالح منها، كما يحتجز المرشح خلفه الشوائب والنفايات، وسرعان ما يكون التخلص من أشباههم، وأن تمتد الصلة على قدر الود؛ حتى لا تهون النفسُ لدى الآخر؛ ويصعب علينا رتق ما طاول الحياة من فتق.
والحياة في مجملها سوق كبيرة( هايبر ماركت) فيها ما فيها، كما في السوق ما فيها؛ فهناك بشر لا حراك لعقولهم ولا حركة لألبابهم، كتلك السلعة الراكدة التي يعافها الناس، يشغل منا حيزا أحق به من يحرك حِلَق الحياة؛ فأمسى وجودهم عالة على غيرهم كما السلعة رابضةً على الرِّفافِ، وبعض الناس انتهوا من حياتك، فهم مجرد بطارية فرغت من الطاقة، وإن استبقيت عليها استحالت فزيقيتها إلى مركبات أخر يتأتى منها الضرر، فهو منتج تجاوز تاريخ الصلاحية، في وجوده خطر وفي تعاطيه ضرر، أمسي فاسدا في ذاته، مفسدا لما جاور؛ فيجدُّ الواقعُ في إحالته إلى صندوق النفايات، وإلا عاقب على علاقته القانون الاجتماعي ولام، كما يعاقب على التمسك بالسلعة قد فسدت؛ فالمرء على دين خليله، وفساد أحدهما بفساد الآخر، وفي كلٍّ قد يكون المنتج محليَّا؛ فما يصدر عنك من سلوك وفعالٍ، لا تتجاوزك عاقبته؛ فعليك وزرها إن أخطأت فيها الجادة، ولَك أجرها إن أصابتْ سهامُ الحق منها المحز، وقد يكون المنتج من إرفاد الآخر وصنع غيرك، وهنا يجب أن تتخير سلعتك التي تعرض على الناس، أو تمتد إليها يد استعمالك، وفي كلٍّ يستوجب ألا تدور في فلك الآخر، فتحاكي سلوكه وتسلك دربه، وتختط منهجه، فما أهلَّ منك- حينئذٍ- إلا مسخٌ، وما حاجتنا لغيرنا إن كنّا كالألف مشرعةً في كل حالها، وليس كالتاء معقودةً، لا تنبسط إلا عند اتصالها ! وقد يتلصص على حياتنا الآخر؛ فيخترمها بعضُ الذرات المسومة، من تلك الثقوب التي تعتريها؛ لتنغص علينا الحياة، بفضول مقيت وولاء مفروض عنوةً، كما يرسل فاسد البضاعة خبثها.
أما ما كان من صحيح العلاقة فهو كالشجر، إن عدمت من بعضه الثمر فلن يفوتك من كله الظل، وإن كان الظل مرده إلى غصن تأكله النار، أو تأتي عليه الأرضة، أو يمحو أثره الظلمةُ؛ فإن الثمر قوتٌ وعلى مثله تقوم الحياة، وممتد أثره غير منقطع جنسه، بما يتوالد عن البذور من أجيال متعاقبة، في متوالية مشهودة ما بقي الليل والنهار؛ فالغصن منقطع، والثمر متصل؛ كذلك العلاقات بين البشر، ما بين متصلة لا تدوم، وقائمة لا تنقطع، وإن غادر الحياةَ أحدهما أو كلاهما؛ ففي حديث عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما، أن النبي ﷺ قال: إن أبر البر صلة الولد أهل ودّ أبيه" أخرجه مسلم.
من هنا يجب أن نتوقف عن التفاعل قليلا، ونتزود من الحياة، كما يتزود "العداد الرقمي" بأسباب الطاقة؛ فينطلق تيار الخبرة ليحيي فينا مواتا؛ فالمواقف-كما قال صديقنا: -كواشف، والحمد لله أن ابتعث في حاضرنا ما يستقيم به مستقبلنا من خلال منظومة "التعلم بالمواقف" كلمة قليلة الحروف بسيطة المعنى؛ تدخر في طواياها ما يقدح زند المستقبل بما يضيء جوانب الدروب!
وإذا اتسع بِنَا مدى العمر، وصافحنا منه سنين علت، توجَّبَ أن نتوغَّلَ في معرفة الآخر، وإلا أصابنا تشوُّه الخِلقة؛ حيث تباينُ حجومِ الأعضاء وعدم اتساقها، كفاقد العقل ينمو جسمه ويتقهقر عقله، فيبدو لنا فطْحَلا، وواقعه قليل العقل!


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى