حيدر غراس - ملحمة القميص

١
نكايةً بالليل أخلع قمصان حيائي
أرفع أكفَّ قمصاني عالياً
أمتشقُ صهوة خبائي وأُباهي بطولكِ نفسي ...
ليتَ لي بمكائد النساء
لا عُذرَ لي إن فعلتُ هذا لكن متى كانَ لقميصكِ سترُ حياء ...؟!
٢
يا شُحَّ تصبُّري عن وجدِ لهفةٍ
للشوقِ همهمةٌ عشواء...
وما أنا بسابقٍ للدُنا حيثُ العناء
لفلسفةِ القميص شرعةٌ كبرى وكأنها تهابُ قُدَ دُبرٍ
ذات صباحٍ ... ذات مساء
٣
يا حادي الروح....
عرّج حيثُ فتائل عطرها
انتشي حدَّ الثمالة بسُكر خمرةِ الأثداء...
واعتصر جُلنار رماناتها ولا ترفق ...
ليسَ للرفق موضعاً حيث قيام قيامةِ حُلمة الماء ...
لا ذنبَ للقمصان حين تكورها
(يدان)
٤
حوقلتُ ولم أستعذ ...
بسملتُ ..
فرّت كعادتها نقطةُ الباء
هللّتُ..
زر القميص أبى انفكاكاً
قطّعتُ ..
خيوط تصبُّري كذبةٌ بلهاء
لا لومَ على زهرةٍ
حين بلَّ الندى صدأ مقابض الرمضاء
٥
وما زلتُ بفحوى القميص أزهو ...
زهوَّ السنابل في موسمِ العطاء
المنجلُ يقسو عليها فتنحني كبرةً وخيلاء
من أجل قميصكِ هذا تركتُ العمر خلفي وهجرتُ حرفي
طلّقتُ من بعدهِ النساء
يا قميصاً ...
سرُّ تيهي .. سرُّ جنوني ومنتهى الخيلاء
كم ارتديتهُ في خيالي وكم عانقتهُ محموماً باشتهاءِ !!
ادخلني جنّةَ خُلدك
اخرجني من جنّةِ الشُعَراء
٦
وكم كنتُ في حضرة الليل
اتلو آياتٍ من نفحةِ القُمصان ...
أيَّ عطرٍ من أردانه يسري في حنايا مسرتي ...
يغازل وشوشةَ الأشياء ؟!!
يسابقني..ألاحقه
يلحقني .. أسابقه
وكأنا نعيدها ثانيةً داحس والغبراء
أكان لقميصكِ سيوفٌ لا نراها ..
تشهر في الليلةِ الرمضاء !!
٧
كم معتركٍ بين الأناملِ والأزرار ...!!
عصيّةُ البوحِ تأبى التثقل عنفواناً و إباء
مهابةٌ كبرى تتماسكُ بغفوة دهشة...
ولكأن بها حبلُ مشيمٍ يتغذى من سُرّةٍ بيضاء ... !!
تمده بألبان بياضها فيرتوي العطشان
٨
وتُعيبني بذاتِ القميص أياه
بشكلهِ .. بلونهِ ..
بثقلهِ .. بعطرهِ ..
ربّاهُ رحماك ربّاهُ
أيَّ نظرةٍ هذه وازدراء !!
ما ذنبُ الربيع بتساقطِ أوراقِ المُنى قبل مواسمِ الشتاء ..!!
أليس بعد السقوط خضرةٌ ونماء ..؟؟
ما كان عيبُ القميصِ حين تكورَ محموماً بساخن الماء.
٩
آه...
يا ذلّة القمصان حين التفاف الساقِ بالساق
تُرمى عسافاً وتُجَرُ بازدراء
تنوحُ على الأسرّةِ خيبتها بصمتٍ
كأنها لم تكن فيضَ رؤيا ذاتَ سقاء !!
كأن العطشَ لم يكوي سُرتها ذات مساء !!

١٠
أتممتُ عشراً والمسيرُ طويلٌ جداً...
من أين لي حبرٌ يكفي
كي أتمم حياكة قمصانك السوداء ...؟!!
مغزلٌ يغوص في محبرة الورد
يتشرنقُ صاغراً يأبى انفكاكاً
شباكُ صيدٍ حيكت على عنق ظباء ...
يأسرها الخيط وتحدو بقافلةِ حتفها ...
آه من ختمٍ فُضَّ بإمضاء
.
١١
هذه الليلة...
سأجلس مع قميصك على سرير واحد
سنشرب عصير القصب المثلج معاً وأخبره عن كل شيئ..
عن أصابعي المرتعشة كلما هممت أن ادسها بين طياته...
عن الخلافات التي خضتها مراراً وتكراراً بين أكون أو لا أكون ...
سأخبره عن بخلك المتكرر كلما شعرتي باقترابي منك...
سأحكي له حكايا العطور والألوان التي أصبغ بها سحنتي قبل قدومك نحوي...

١٢
أقف على مقربة من الحلم بمسافة شبرين او أكثر
أتناول فرشاة الأسنان ارسم جسداً قمحياً بقميص ابيض
ارسم على مقربة منه ساعة رملية يقف جانبها رجل وحيد مثلي
ارسم ظلاً لي ..احيطنا بدائرة سوداء
ثم ارسم عربة للموسيقى فينتشي القميص ويغادرني
اركض خلفه حيث الأبواب الموصدة فيحلق حيث النوافذ
تلحقه سرب من الفراشات ... يصير غيمة
أعود ثانية لفرشاة الأسنان ارسم قارورة عطر مشظاة
ادوس على نثارها ...تغرق الفرشاة بالدم
فأرسم قميصاً احمر

١٣
لغة القميص تكتب الأبجدية
تُرضع القواميس لبن المعاني فينتشي حبواً حتى آخر قطاف..
الشيخ المخصي يأتزر بعمامة ليشذب جدائل الوقت
الشيخ المخصي يعتصر أثداء النور ليقطعها عند الفجر السيّاف
هذه المرة لم أكن وحدي
الشيخ ..الساحر .. السيّال
جدائلك ..قميصك ..بخير العرّاف
وسباق محموم حيث حلبات الذكرى
نسقط جميعاً في بئر الصحو الملتاث ..
ترقبنا عينا أنثى القميص منزوع الأكتاف

١٤
عربات الليل المنسية تجرها عربات خيول الذكريات
تغوص برمل الساعات الصخرية
أقف حيث أنا... بين اجداث الحال العابرة
أمشط شعر القنافذ بأصابع خشبية
أدرب أجنحة الطيران لدببة الثلوج القطبية
أفك جدائل أحجية المجاز
أقلم مخالب الضباع في غابات الجوع الوحشية
أتسكع بين فراغات الأصابع
أدون خيط اللحن الفكري في ربابات البدو المنسية
ارتق قطع الغيم بخيوط شبكة النت العنكبوتية
أفعل كل هذا ... لكن
لم اقوى على فك أزرار قميصك الفضية

١٥
ذات مساء جنوبي...
عدت مسرعاً أحث الخطى
اتعثر بخطواتي عند عتبة الباب
تسابقني اللهفات والشهقات وأنا أفتش هنا وهناك
أين قميصي الذي نزعته ليل البارحة وعلاقته حيث مشجب الاحلام
أمي أشارت لي...ذاك هو المعلق على حبل الغسيل
رحت إليه أركض..وجدته يقطر رسائلي دمعة..دمعة

١٦
ادخل في متاهات الدروب الكبرى لعلِّ أخرج من أنفاق العهن المنقوش
وسائد الريح المحشوة بريش الغيم تحلق عالياً بأجنحة الصافات ..
وتستقطر دمع الكحل في عيون النايات
تعوي بي ريح الغابات القطبية علها توقظ آخر قطرة زيت في فوانيس الاكواخ المنسية
كتف الذكرى المتاكل بحواف ياقات القمصان المالحة...
تعلن عن قيام ثورة كبرى للقمصان الوردية على سبورة الليل
الطباشير السوداء تكتب
( اخلع قميصك .. ارتدي وطن )

١٧
اتسلل خلسة من خرمٍ في ذاكرتي
ارقب طفح الدوائر البيضاء وهي تفوح بعبق الصابون
تمتص آخر رغوات العمر المضني
أبصر من خلف زجاج الذات بخار ماء يتكاثف سحب بيضاء
وقع أقدامك يهز جذع مسرتي فيرتد طرفي...
اهرب كهر طريد واختبئ بين طيات فستانك المعلق في مشاجب خزانة ذاكرتي
هذا القميص الأبيض ذو الأكمام القصيرة يتصدر قائمة جدول أعمال مخيلتي... لا ينافسه إلا ذاك الفيروزي الذي تصري على ارتدائه كلما لاحت عن بعد مراكب اشرعتي
اختلاط العطور بحدتها وقساوتها تزاحم أنفاسي وتداعب شعيراتها
فأغدو بنوبة عطاس كبرى..اكتمها... فتفضحين سري وخيفتي

١٨
ليل البارحة لم يكن ليلاً عادياً ...
فقد أشارت صحف الصباح وكذلك في نشرة أخبار السادسة أنه شوهد قميص فضي يسبح في الهواء
يلتف على اسلاك التيار مما تسبب في انقطاعه في مدن كثيرة
شوهد القميص فاتحاً زره العلوي ويتسكع بين الطرقات
ما زالت دوائر الصحة لم تُعلمنا عدد الضحايا
شبكات التواصل وبرامج السناب شات وآخر المنشورات كانت جميعها تُشير وبفلاتر كونية لفتيات يرتدين شيئاً شبيه لهذا القميص
ولتفاقم الأمر أوقفت المحاكم المدنية عملها بسبب تفاقم حالات الطلاق التي انتشرت بسرعة البرق حينما شاهد الجميع هذا القميص ...
الأنكى من هذا وذاك ..أصدر مفتي الديار بحُرمة ارتداء القمصان الفضية
وهذا احزنني جداً حينما شاهدت شيخ الجامع مطرقاً يفرك خرزات مسبحته التي كانت حباتها أزرار هذا القميص

١٩
البحارة التائهون في عرض البحر ..
فوانيس الفنارات ..
القوافل التي ضلّت طريقها والدعوات التي لم تهتدي..
سنابل القمح الفارغة..
مراكز العقم و مصحات المجانين..
بنوك التسليف ومكاتب الهجرة والمهجّرين ..
خيام النازحين ..
شعارات الثوار في ساحة التحرير..
قدور الجياع الصارخة ..
حجر الرحى وطواحين الهواء وثقوب النايات ..
عويل الثكالى ..احجية المجاز ..طلاسم السحر
(جميعها ) كانت تهذي بياقة قميصك الفاتنة

٢٠
يا ترى أي حماقة كبرى امضي بها في كتابة حروف ومفردات قميص
أي خبال ..أي خيال هذا الذي ينتابني كلما شعرت أن هناك من سيقرأ هذا ؟؟؟
ما ذنبه الآخر أن يقرأ ما يُسمّى أدباً عن دورة حياة خرق بالية يكتبها معتوه في لحظات فراغه
ليثبت لذاته قبل الآخر أنه أتى بالفتح المبين
سؤال يراودني ويراودكم كما أعتقد...
ما فائدة البحث والجري والتقصي من أجل قميص يستر سوءه ولا يقي زمهرير شتاء ؟؟
مع ذلك تكبر هذه الانا الداخلية وتتطاول و تتلبلب فتغدو عرشة كبرى تلتف على أصابعي كلما هممت أن أمسك القلم...
فأغدو أسير ذاك الوعدالذي قطعته بأني سأكتب القميص حتى آخر قطرة دم في محبرة حرفي
لا استميحكم عذراً ولا أطلب مغفرتكم ولا ألزمكم بشيئ من العرفان...
لا استرجي مطر شفقتكم بل أني في أحيان كثيرة أشفق بوقاحة كبيرة عليكم
كونكم تمضون معي في إتمام ما كنت قد بدأت به..


. حيدر غراس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى