الدكتور محمد محجوب عثمان - عبد الخالق محجوب: اسم وضئ فى سماء الوطن

هذه وريقات قصدت أن أبحر فيها قدر المستطاع بعيدا عن بحور السياسة ، رغم غرابة ‏هذا فى سيرة رجل كرس حياته فى هذا الميدان . الا أن عذرى أن المهمة أضخم من ‏قدراتى ، ولهذا آثرت أن تجىء كلماتى عفو الخاطر وأكثر تلقائية علها تضىء بعض ‏جوانب شخصية عبد الخالق محجوب .‏

فى مدارج طفولته ، عاش عبد الخالق عالمه الصغير كواحد من أقرانه سواء بسواء فى ‏لعبهم ولهوهم وحيويتهم الدافقة . وصادف أن قامت عبر هذا روابط مع بعضهم امتدت ‏حقب من الزمن. فى حى العرب ، فى تلك الفترة ، حيث استقر المقام بجدته آمنة بت ‏على ، كان عبد الخالق يتوجه مع شقيقه الأكبر عثمان لقضاء نهاية الاسبوع معها .‏

وكان بين جيران جدته فى حى العرب ، العم صافى الدين ، والعم عبدالعزيز ، والد ‏الشاعر سيد عبدالعزيز . لعب عبدالخالق كرة "الشراب" مع الجنيد صافى الدين ، الذى ‏أصبح فيما بعد لاعبا مشهورا فى فريق المريخ فى الخمسينات (القرن الماضى) . وظلت ‏علاقتهما متينة لأمد من الزمن . وربما يكون ذلك سببا فى أن عبدالخالق كان مريخى ‏الميول ، رغم أنه لم يكن يرتاد دور الرياضة . ومن الطريف أن والده ، محجوب عثمان ‏، كان من الأعضاء المؤسسين لنادى الهلال . ولم يبتعد عن النادى الا فى منتصف ‏الخمسينات . ‏

فى منتصف الستينات ، أيام الحكم العسكرى للفريق عبود ، تم اعتقال زعماء المعارضة ‏السودانية وابعادهم الى الى جوبا ، حيث وضعوا رهن الاعتقال فى احدى ثكنات ‏الجيش. وقد قرأت فى جريدة الزمان فى سنى مابعد انتفاضة مارس/أبريل مع العم ‏عبدالرحمن شاخور ، قطب المريخ المعروف . ذكر فيه أن الراديو الوحيد داخل المعتقل ‏كان بحوزة السيد اسماعيل الأزهرى . وقد أسر عبدالخالق للعم شاخور ذات مرة بأن ‏هنالك مبارة ستقام مساء نفس اليوم بين فريقى الهلال والمريخ . وقد تمكن شاخور ‏بطريقة ما من الاستحواز على جهاز الراديو من الزعيم الأزهرى لمتابعة المباراة ‏بصحبة عبدالخالق . واكتملت سعادتهم بفوز المريخ . وعلق شاخور بأن عبد الخالق لو ‏لم تشغله السياسة لكان مريخيا "على السكين" .‏

فى حلى السيد المكى، حيث تسكن الأسرة ، كانت طبول الطائفة الاسماعيلية تملىء ‏الآفاق أمسية كل خميس , ةتزدحم حلقات الذكر ، وتقام فى حلقتهم كل عام ، حولية ‏العارف بالله ، الشيخ اسماعيل الولى . وقد استأثرت تلك المناسبات بقلوب المريدين . ‏وكان أطفال الحى ومن بينهم عبدالخالق أسعد الناس بهذه الأمسيات الروحية العامرة . ‏كذلك كانت احتفالات المولدالنبوى ، التى تمتد لاحد عشر يوما ، بجامع الخليفة عبدالله . ‏ولنا أن نتساءل عن مدى التأثير التى خلفته النشأة الباكرة فى مثل تلك الأجواء الروحية ‏والاجتماعية على شخصية عبدالخالق فى مستقبل أيامه حيث انبرى لفهم مشكلات الوطن ‏المستعصية وتقديم بعض الحلول لها . ‏

فى احدى المناسبات سألنى صديق لنا ، ان كانت تسمية عبد الخالق قد تمت تيمنا ‏بعبدالخالق ثروت ، رئيس وزراء مصر عام 1922 ، بعد نفى سعد زغلول وبعض ‏أعضاء حزب الوفد فى عام 1919 . وكان عبدالخالق ثروت من كبار الباشوات فى ‏مصر وضمن أكثر اقطاعييها ثراءا وعسفا بفلاحيها . ولكن فى حقيقة الأمر ، أن والدنا ‏قد سماه تمجيدا لأحد المآمير المصريين العاملين فى السودان فى تلك الفترة . وكان ‏شجاعا، شهما ، ووطنيا غيورا . وفى عهده خرجت أول مظاهرة سودانية ضد ‏الاستعمار الانجليزى فى مدينة أمدرمان . وقد أبدى المأمور عبدالخالق حسن حسين ‏تعاطفا وتأييدا للحركة الوطنية السودانية الناهضة . وكان لموقفه دلالة على عمق مشاعر ‏الصلة والتضامن بين نضال شعبى مصر والسودان . وبنفس القدر الذى قصد به والدنا ‏تمجيد المأمور المصرى ، كان عبد الخالق محجوب شديد الوفاء للمناضل عرفات محمد ‏عبد الله حيث أسس بعد ثورة اكتوبر مجلة اسبوعية أطلق عليها اسم "الفجر الجديد" ‏تخليدا للمبادرة الوطنية الكبرى التى استهلها عرفات بتأسيس مجلة "الفجر" ، التى ‏تحولت الى منبر للحركة الفكرية والسياسية فى منتصف الثلاثينات . وكان الموات ‏الثقافى ةالسياسى قد خيم على البلاد منذ هزيمة حركة 1924 . ‏

وعلى ذكر عرفات محمد عبدالله ، فقد كان كثير التردد على بيتنا طلبا للاختفاء من ‏ملاحقة قلم الاستخبارات ، أى جهاز الأمن فى عهد الاستعمار . غير أنى غير متأكد من ‏ان شيئا من ذلك قد علق بذهن عبدالخالق وهو لم يزل فى ميعة الصبى . ‏

ولد عبد الخالق فى يوم 23 سبتمبر 1927 . وبدأ مسيرته التعليمية بخلوة الشيخ اسماعيل ‏بجوار منزلنا فى حى المكى . حفظ القرآن وتعلم مبادىء اللغة والنحو الواضح . ومن ثم ‏انتقل الى مدرسة الهداية الأولية وقد أسسها المربى الجليل الشيخ الطاهر الشبلى (والد ‏نقيب المحامين الأسبق أمين الشبلى) . ومنها انتقل الى مدرسة أمدرمان الوسطى، ‏المعروفة بالمدرسة الأميرية .‏

حدثنى شقيقى ، على محجوب الذى سار فى خطى عبدالخالق فى المراحل التعليمية وهو ‏أصغر منه سنا ببضعة أعوام أن عبدالخالق منذ نعومة أظفاره ، حباه الله بذكاء ملحوظ ، ‏وهكذا ظل متفوقا فى كل مراحل دراسته . وفى المرحلة الثانوية شهد له أساتذته بنبوغ ‏مبكر . وفى تلك المرحلة أيضا كان له أستاذ أسمه مستر كرايتون ، متخصص فى اللغة ‏والأدب الانجليزي . وقد كرر مرارا أمام طلابه أن عبد الخالق من الكفاءة وامتلاك ‏ناصية اللغة والأدب الأنجليزى التى تمكنه من تدريسها . فقد انهمك عبدالخالق فى ‏دراسة روائع الأدب والشعر الانجليزى التى تضمنت روايات شكسبير وأشعار شيلى ‏وأليوت وكيتس وغيرهم من العمالقة . ومثل هذه الشهادة والتقدير جاءت على لسان ‏آخرين منهم أستاذ التاريخ هولت المعروف لمعظم السودانيين . وعلى ذكرتفوقه ‏الأكاديمى وسعة اطلاعه ، لا بأس من الاشارة الى أن عبد الخالق قد بعد اكمال المرحلة ‏الثانوية ، جلس لامتحان شهادة كمبردج فى سنة 1945 وأحرز درجة الامتياز فى كل ‏المواد التى أداها وهى اللغة العربية والرياضيات واللغة الانجليزية والكيمياء والفيزياء ‏والأحياء والجغرافيا والتاريخ .‏

كذلك حدثنى شقيقى على محجوب أن موضوع الانشاء الانجليزية كان ‏

‏ وقد تناول عبدالخالق الموضوع متنقلا من طفولته وصباه ‏ The Changing Sky ‏ ‏

ومطلع شبابه والتغيرات التى طرأت على حياته وأفكاره ومايترجاه فى مستقبل أيامه . ‏هذه الواقعة على بساطتها قصدت ايرادها لالقاء الضوء على شخصية عبدالخالق ‏وملكاتها العالية في تلك المرحلة المبكرة واطلاقه العنان لخواطره التى لاتحدها آفاق .‏

وفى هذا السياق أستصحب ماكتبه الدكتور محمد سعيد القدال فى كتيبه "ذكريات معتقل ‏فى سجون السودان" حيث يقول : سألت عبد الخالق محجوب عن الطريقة التى اتبعها ‏فى تحمل وطأة الحبس الانفرادى التى تعرض لها ، حيث يتم عزل المعتقل عزلا تاما ‏عن كل مظاهر الحياة ، فلا مذياع ولا كتاب ولا أدوات للكتابة . فقال بأنه كان يستلقى ‏على ظهره ويأخذ فى كتابة مقال أو قصة فى ذهنه ويعود المرة تلو المرة لمراجعة ‏فقراتها وتجويدها. ومن ثم ينتقل الى مهمة مماثلة كرياضة لصون الذهن والبدن من ‏أهوال الحبس الانفرادى . ولشدة انغماسه فى ينابيع الأدب الأنجليزى أكاد أجزم بأن ‏عبدالخالق لو لم يكرس حياته لخدمة الاشتراكية وبناء الحزب الشيوعى فى السودان ‏لأصبح أديبا يتعدى أسهامه حدود السودان . فقد تلازمت ملكته فى اللغة والأدب ‏الانجليزى مع عناية فائقة باللغة العربية ودراسة الشعر العربى . ‏

كان والدنا ، كما هو حال كل الأباء ، يتطلع الى أن يلتحق عبد الخالق بالخدمة العامة فى ‏جهاز الدولة ، وهو آنذاك أقصى مايطمح اليه المرء حيث الأمتيازات والسطوة التى تأتى ‏فى طيات مناصب الخدمة المدنية . غير أن صديق والدنا الشاعر المعروف أحمد محمد ‏صالح ، الذى عمل آنذاك كمدير بوزارة المعارف ، كأول سودانى يحتل ذلك المنصب ‏الرفيع فى ظل الادارة اليريطانية. وقد أختير فيما يعد عضوا بأول مجلس للسيادة . كان ‏للعم أحمد محمد صالح الفضل فى اقناع والدى بايفاد عبدالخالق لمواصلة دراسته فى ‏المملكة المتحدة نظرا لما أظهره عبدالخالق من تفوق علمى . وقبل ذلك كان عبدالخالق ‏قد التحق بكلية الخرطوم الجامعية وغادرها لضعف الامكانات المتاحة لها آنذاك . ومن ‏ثم سافر للقاهرة والتحق بجامعة فؤاد الأول ، التى تحول اسمها لاحقا الى جامعة القاهرة ‏‏. مكث عبدالخالق لمدة ثلاثة أعوام قبل أن يضطره المرض من العودة مبكرا الى ‏السودان . وخلال سنى دراسته فى القاهرة قام بترجمة كتاب "الأدب فى عصر العلم" ‏للكاتب الانجليزى هيمان ليفى . وسنعود فى سياق لاحق لتناول فترة دراسته واقامته فى ‏الخرطوم نسبة لتأثيرها العظيم فى مسار حياته السياسية . عاد عبدالخالق الى السودان ‏وقد توثقت صلته السياسية والفكرية مع أبر قادة الحركة الشيوعية المصرية . وأهم من ‏ذلك تعززت صلته مع نفر من الطلاب السودانيين الذين وفدوا القاهرة للدراسة . ومن ‏بين هذه الكوكبة تكونت النواة الأساسية للحركة السودانية للتحرر ، المعروفة اختصارا ‏باسم "حستو" . وقد تحول اسمها فيما بعد الى "الحزب الشيوعى السودانى" . ويجدر هنا ‏أن نذكر بأن عبدالخالق بعد أن قفل راجعا من القاهرة ، حل ضيفا على عمال السكك ‏الحديدية فى عطبرة . وكان لتواجده بينهم أثر عظيم على مستقبل الحركة الوطنية فى ‏السودان ، حيث تمكن من جذب طلائع العمال ومن بينهم قاسم أمين والشفيع والحاج ‏عبدالرحمن والجزولى سعيد وابراهيم زكريا وغيرهم ممن تولووا قيادة الحركة العمالية ‏والسياسية لحقب قادمة . ‏

وأعود ثانية لصلتى بشقيقى عبدالخالق ، فالحق يقال بأننى لم أتلق توجيها عقائديا لحملى ‏على تتبع خطاه . وقد حددت مسارى وانتمائى للحزب الشيوعى لاحقا طواعية ‏واختيارا . وكان حفيا ، ودودا ، شديد العناية باحترام حقى فى التطور كانسان مستقل . ‏وامتدادا للحديث عن بعض جوانب صلتى بعبد الخالق ، أذكر بأنه عند عودته من مصر ‏فى عام 1947 قام عبدالخالق بالحاقى بمدرسة حى العرب الابتدائية التى ضمت آنذاك ‏أساتذة أفذاذ أذكر من بينهم آدم أبوسنينة ، الذى عمل فى أول جمعية للسلام فى السودان . ‏وخرج مطاردا الى باريس نتيجة لنشاطه الواسع الذى أقض مضجع المخابرات ‏البريطانية . ومن بين أولئك الأساتذة أيضا أحمد محمد خير الذى عمل لفترة من الزمن ‏كمندوب للحزب فى مقر مجلس السلم العالمى فى فيينا .‏

فى تلك الأيام ، أذكر تماما بأننى كنت كثيرا عند بزوغ الشمس أحمل أوراقا من ‏عبدالخالق الى المناضل الراحل جعفر أبوجبل فى منزلهم بحى بيت المال . وكنت شديد ‏الاعتزاز والزهو بأداء تلك المهمة المحفوفة بالمخاطر ، وأنا أعلم بأن تلك الأوراق ‏على قدر كبير من الأهمية . وبعد انجاز كل مهمة كنت أشعر بأننى قد أحرزت نصرا ‏على جهاز المخابرات الانجليزية . ‏

غير أن الأثر الباقى على مر الأيام ، هى الرابطة الثقافية التى نشأت بينى وأخى عبد ‏الخالق . وقد كانت أخصب مراحل تلك الصلة عندما كنا سجينين ، (كنت أقضى ‏فترة السجن مدى الحياة لاشتراكى فى انقلاب الشهيد البكباشى على حامد فى عام ‏‏1959 وكان عبدالخالق آنذاك معتقلا بالسجن المركزى وهو واحد من عدة ‏اعتقالات قضاها متنقلا بين سجون السودان من كوبر الى زالنجى وجوبا ) . ‏كانت رسائل عبد الخالق لى ، والكتب التى يوصى أهلى بارسالها لى من مكتبته ‏الخاصة ، حبل وثيق للتواصل لم ينقطع . وطوال فترة سجنى التى امتدت الى ‏خمس سنوات قبل اندلاع ثورة اكتوبر واطلاق سراحنا ، بعث الى ببعض من ‏أمهات الكتب أذكر منها البيان والتبيين ، والحيوان ، والبخلاء للجاحظ ، شرح ‏ابن عقيل (النحو وقواعد اللغة العربية) ، مقدمة ابن خلدون ، مجموعة قصص ‏تشيكوف ومكسيم جوركى ، ايليا اهدنبرج ودوريث لسينج ، سومرت موم ‏ومجموعة كتاب أمريكيين منهم وولت ويتمان (شاعر أمريكى) وكذلك كتاب ‏فرانس فانون "المعذبون فى الأرض".‏

ومن الناحية الاجتماعية كانت لعبد الخالق وشائج اجتماعية وثيقة مع اناس من مختلف ‏الطوائف والأحزاب والطبقات . وأذكر من بين أعز أصدقائه المرحوم أحمد داؤود ، ‏وكانت له صيدلية قرب نادى الخريجيين . وقد تأثر أيما تأثر لاغتيال عبدالخالق . ‏وكذلك من بين أصدقائه عبدالله محمد فرح ، الذى مازال يحتفظ بأطيب المشاعر نحو ‏عبدالخالق . وكذلك أصدقاؤه عبد الله عبدالوهاب ، من أبناء دفعته فى المرحلة الثانوية ، ‏والمهندس أحمد عمر خلف الله الذى يعمل فى الأمارات والدكتور أحمد حسن آدم (شقيق ‏النقابى المناضل السر حسن آدم من عطبرة) وفى هذا الصدد نشير الى الصداقة الحميمة ‏بين عبدالخالق والأستاذ عبدالكريم ميرغنى ومحمود بابكر بدرى والأستاذ محمد داؤود ‏الذى لازم عبدالخالق خلال سنى الدراسة والنضال فى مصر وتولى فيما بعد مناصب ‏رفيعة فى مصلحة التعاون . كذلك أذكر الدكتور عبدالغفار عبدالرحيم وهو صديق عبد ‏الخالق فى الحى والدراسة . ومن بين أصدقائه ‎ ‎ الأقربين وجيرانه أيضا مولانا ميرغنى ‏مبروك الذى أصبح رئيسا للقضاء أبان فترة الانتفاضة . ومن أبناء دفعته وأصدقائه ‏العديدين أذكر فاروق ميرغنى شكاك وأحمد اسماعيل النضيف والمرحوم د. ابراهيم ‏الشبلى والقائمة طويلة لايتسع الحيز لحصرها. ‏

ومما يذكره شقيقى على محجوب أن الأستاذ أبراهيم نور وكان من أصدقاء عبدالخالق ‏الأثيرين حكى فى جلسة بمنزل الأستاذ عبدالكريم ميرغنى – طيب الله ثراه – ذكر ‏الأستاذ نور أنه فى احدى زياراته لانجلترا ، التقى بمستر كرايتون وهو من أساتذة ‏عبدالخالق الذين أوردنا ذكرهم آنفا ، سأل عن عبدالخالق – بعد يوليو 1971 – وقد هزه ‏هول ماذكر بأن السفاح نميرى قد دفع بعبدالخالق الى حبل المشنقة – وعلق على ذلك ‏‏"ألم يكن من الأجدر الأبقاء على حياة رجل فى قامة عبدالخالق وعلمه و فكره الثاقب ‏لدفع عجلة التطور فى بلدكم " .ومثل هذه كثير ما سمعناها من أساتذته السابقين وكل ‏الذين تعرفوا عليه من كثب . ويجمعون جل هؤلاء بأن عبدالخاق لم يكن فقدا لأسرته ‏وعائلته بل كان فقدا عظيما للوطن . ونذكر من بين هؤلاء صديق والدنا الأستاذ الراحل ‏أحمد محمد صالح ، والأستاذ بشير عبادى ، والأستاذ خالد موسى ، والأستاذ أمين زيدان ‏أستاذ الرياضيات المعروف ، وكذلك الأستاذ الطيب شبيكة الذى درس عبدالخالق فى ‏المرحلة الوسطى وكذلك معلم الأجيال الأستاذ الصائم محمد ابراهيم .‏

ويواصل شقيقنا على أنه فى أبريل 1970 قام بزيارة عبدالخالق حيث كان مبعدا فى ‏القاهرة ، وقضى معه نحو عشرين يوما ويذكر بأن من بين الذين قاموا بزيارة عبدالخالق ‏فى منفاه ، الأستاذ أمين الشبلى المحامى . وكان يتردد عليه الكاتب المصرى المعروف ‏عبدالرحمن الشرقاوى كما لازمه طوال فترة منفاه الأستاذ الصحفى والكاتب المعروف ‏أحمد حمروش . كذلك لم ينقطع عن زيارت العديد من رفقاء نضاله فى مصر أمثال ‏زكى مراد والأستاذ محمود أمين العالم . ويجدر هنا الى أن صلة سياسية وشخصية متينة ‏قد ألفت بين عبدالخالق والرئيس الراحل جمال عبدالناصر . وقد توثقت هذه الصلة ‏بواسطة المناضل المصرى ، أحمد فؤاد وكان عضوا فى منظمة "حدتو" الشيوعية وكان ‏قاضيا ، وهو الذى أسس لعبد الناصر صلة بحدتو قبل قيام ثورة يوليو وتولى تنسيق ‏المساعدة لحركة الضباط الأحرار بطبع بياناتهم السرية وتوزيعها ، وكان اسم ‏عبدالناصر الحركى هو "موريس" ، وقد درج على على الحضور بسياره ليتسلم ‏المطبوعات السرية وتوصيلها الى خلايا تنظيم الضباط الأحرار . ‏

كان الرئيس عبدالناصر يسارع الى دعوة عبدالخالق فى كل مرة يحل فيها على القاهرة ‏، ويتبادل الرجلان الآراء فى شئون السياسة وخاصة العلاقات المصرية - السوفيتية ‏التى توطدت آنذاك ، خاصة الجوانب المتعلقة بالعمران الاقتصادى والعسكرى لمصر.‏

لقد كانت تجربة العمل الحزبى الشيوعى شديدة الوطأة على طلائع الشباب الذين ‏انخرطوا فيه بتضحيات عالية . فالفكرة فى حد ذاتها كانت جديدة وعصية بمعنى ما فى ‏مجتمع تقليدى تتحكمه النزعات الدينية وقوة العادات التليدة ، وكل ماينجم عن التخلف ‏والجهل المتفشى فى المجتمع طولا وعرضا ، مما سهل من مهمة الادارة البريطانية فى ‏رسم صورة شيطانية وكالحة عن الفكر الشيوعى ، لاستثارة المشاعر الدينية المتأصلة ‏ووصم الشيوعية بأنها تسعى الى الغاء الدين ونشر التحلل الخلقى ونسف القيم الفاضلة . ‏

سئل الفريق ابراهيم عبود مرة عن سر معاداته للشيوعية . فكان رده لأن هؤلاء يعملون ‏فى الظلام ، وهذه عينة من الانطباعات التى تصم الشيوعين أنهم أشباح تتحرك فى ‏الظلام . وبالرغم من أن مثل هذه الأفكار تبدو على قدر من السذاجة والابتزال الا أنها ‏كانت من بين الصعوبات التى دفع الشيوعيون ولازالوا جهدا وتضحية عالية لدحضها ‏وكشف خوائها وسوء قصدها . وعبدالخالق ، على سبيل المثال كان متيقظا ومفرطا فى ‏احترام مشاعر عامة الناس ومثابرا فى الكتابة والحديث عن تجربته وكثيرين ممن ‏تبنوا الأفكار الشيوعية . (أرجو أن يجد القارىء سبيلا الى قراءة مقالته الرصينة بعنوان ‏‏"كيف أصبحت شيوعيا" ومقالته عن الشيوعية والدين) وخلاصة ماذكره بأنهم اهتدوا ‏للفكر الشيوعى بعد عناء وكد فى البحث عن أكثر الأفكار مضاءا فى فهم طبيعة ‏الاستعمار وسبل مكافحته وفيما بعد أجدى النظريات العلمية لحل معضلات التنمية ‏والحكم . ‏

‏ لقد عاش عبدالخالق حياة حافلة بالعمل والتجرد وكان أخا كريما لنا ، رقيق الحواشى ، ‏حفيا بنا وأسرته وأصدقائه العديدين . وكان مهموما بهموم الوطن ينام ويستيقظ عليه . ‏‏ أرجو أن يوفيه الوطن حقه بحسبانه واحدا من أبر أبنائه به . وفى استشهاده العظيم كتب ‏الشاعر محمد الفيتورى :‏

لا تحفروا لى قبرا
سأرقد فى كل شبر من الأرض
أرقد كالماء فى جسد النيل
أرقد كالشمس فى حقول بلادى
فمثلى لا سكن قبرا ‏
أعلى