حيدر الناصري - أرملةُ القَشّ..

" لا أدري أنها عاهرة وقدّيسة في ذات الوقت...تكتب شِعرها مابين الملاءة والسرير". - جلّاد (آنا آخمانوفا)-


هذه الكتب، تكاثرت دون أن أشعر، كتكاثر قطط المزابل، بعد أن ازدحمت بها أرفف المكتبة، والعلّية وبطن خزانة الملابس وعتبات السلم وسطوح الطاولات.. وصل الأمر إلى غرفة المنام، أفضل عنوان يتماهى مع هذا المشهد الأليف:
"النوم إلى جوار الكتب".
: "ضُرّة"، هذا ما كانت تطلقه زوجتي على الكتب، لايهم!
أصدق ما تقوله النساء: الكذب. حتى وإن سلّمتُ أمري لها وبعتها، أو أضرمت فيها النيران، كما فعل الشرطيّ "مونتاغ" في رواية (451) فهرنهايت، لن تستقرّ سفينة اهتمامها على جوديّ، ولن أرى سوى قفاها المتخشّب، على مدى الليالي التالية في الفراش.
طقسي المفضل السعي إلى المكتبات... صرت ضليعًا باقتناء الكتب ذات العناوين والمضامين الجيّدة، الكُتبيّون صاروا من أعزّ الأصحاب، ما أن أدلف إلى مكتبة أحدهم؛ حتى يبتشر في وجهي قائلا:
"نسختك جيّدة وساخنة، دوّنتُ سعرها في صفحة ديونك".
أوّل كتاب قرأتْهُ زوجتي بشغف كان رواية "كيف تقتلين رجلا"، بهرتني رؤية الكتاب وهو لا يغادر يدها: في المطبخ، في غرفة المعيشة، وفي السرير.
قالتْ بثقة: "هذه الكتب الجيّدة!"
ضحكتُ وعرّفتُها أن هناك رواية أخرى سأشتريها حالما تصل عنوانها : "كيف تقتل أُنثى" .
استعاذت بالله وتجهّمت بوجهي.
لخبرتي الطويلة: العناوين لها أثر في جرّ القارئ، وكذلك جودة الأغلفة... أكثر المرّات يغريك الغلاف والعنوان، ولا تصيب من المضمون شيئا.
أنتظر منذ أيام اتّصالاً من الكُتبيّ، وها هو يتّصل:
"كتابك وصل، عليك الإسراع، لم يتبقّ سوى نسخةٌ واحدة".
حزمت أمري وانطلقت.... كانت في المكتبة امرأة تقبض على الكتاب... حين أبصرني الكُتبيّ صاح:
"وصل صاحبه".
لم أعرف ما دار. كان الكتاب: رواية (شتاءات ربَّة الأَشعار)، مقتبسة عن أحداث حقيقيّة، مرّت بها الشاعرة الروسيّة (آنا آخمانوفا).
فضّ الموقف بكلمة: "تفاوضا".
سعّر نفسي الموقف المخجل، ولذتُ بصمتي.
شرحتْ المرأة مبتغاها من الكتاب، ودفعت حسابه.
أنظار الكُتبيّ شعّت سعادة، فالبيع نقدًا لا يضارعه بيعُ النسيئة، مؤكد أن هذه العبارة، لاحت في مخيّلة صاحبي... غادرتُ المكتبة وفي نفسي حسرة.
المرأة تجاوزت الثلاثين، ملامحها لم تهزّها الأيام:
نَظِرة ومتأنّقة.
فهمتُ أن ابنتها تقدّم بحثا عن الشاعرة الروسيّة... استعطفتني بعد أن عرفت تولّعي بالكتب:
"تتفضل عليَّ إن وفّرت لي كتبًا، عن شعراء "قبو الكلب الضّال".
أنا لم أعتد المناورات من قبل، سؤالها صدمني، قلت لها على عجل:
"اعطني وقتا..."
بعد يومين، اتصل بي الكُتبيّ:
"السيّدة تقول: لاتنسَ الأمانة، سأحضر في مساء".
ارتقيت السلم نحو العلّية، كانت باردة ومتربة ومظلمة، لم أحتمل، رجعت ثانية، يجلّلنا دثارٌ وزوجين من جوارب القطن الثخين في قدميّ.
شعراء روس هاجعين في (كراتين) مغبرّة، لم يروا النور منذ انتهاء زمن الشعر، وحلول زمن الرواية:
آنا آخمانوفا، زينائيدا غيبوس، نيكولاي غوميليف، ماياكوفسكي، أوسيب ماندلشتام، أندريه بيلي، خليبنيكوف، كونستانتين بالمونت، ايغور سيفيريانين، وآخرهم المنتحر: فسيفولد كنيازوف.
رصفتهم وهبطت معهم المراق.

تأنّقتُ بأبهى الملابس. (رجل الأمن) كانت تراقب بعينيها الثعلبيتين، ربّما أضمرت في دخيلتها:
"إلى أين تطوى خطاك، أيَّها القارئ النهم!".
بكّرتُ في القدوم، صاحب المكتبة همس في أذني:
"لا تنسَني، عندي مجاميع شعرية، عليك أن تفرضها عليها".
نقر على دفتر الديون وقال محرّضًا:
"سيخفّف عليك أعباء بعض الأرقام".
على حياء هززتُ رأسي له.
كان اللقاء حذرًا من جانبي، سلّمتُ لها الكتب، وبعض الكليشيهات والمساود، من قراءاتي القديمة للشعر. أعطتني رقم هاتفها؛ تمنّعت خوفًا من (نقطة التفتيش) المزوعة في بيتي، فخبايا المعاطف وجيوب السترات والبناطيل، موضع إغارتها اليوميّ.
شكرتني، وأبلغتني أنّها ستتصل بي ثانية إن لزم الأمر.
المرأة التي التقيتها بالأمس القريب صدفة عند الكُتبيّ، هذا كلّ ما أعرفه عنها، تدعوني اليوم لزيارتها، هذا ما أبلغني به وشجّعني على ذلك الكُتبيّ.
البيت في حيٍّ أعرفه، نُسجت عنه قصص الترف والبذخ.
تأبطت بعض رزم الأوراق... هذا العنوان وما مدون على الورقة المدسوسة في جوربي يصرّح بذلك. بيت رغم عمرانه القديم، إلا أنه بقي محتفظا بهيبته وجماله، ومن وراء سياجه الخفيض، لمعت برتقالات الأشجار كأنّها مصابيح.
نقرتان خفيفتان على جرس، فتحت ضلفة الباب، بصوت عذب: تفضّل.
كانت ثيابها مختارة بحرفية عالية، لم تضع ألوانا، ووجهها مشرق، كمن تحدّى غضون الأيام ببسالة!
اجتزتُ رواقًا، برد الشارع ودفء البيت ذابا فيه، كما تذوب مكعّبات السُكّر مع سخونة الشراب. من إحدى النوافذ، لمحت مكتبة مهيبة، تمتدّ على طول الجدار.
أخذت طريقها إلى المطبخ بعد أن جلست، وعادت بكأس العصير.
رواية "شتاءات ربَّة الأَشعار" كأنّها لم تمسّ على إحدى الطاولات، كتبي بشريطها الذي عقدته قبل أيام تحت الكرسيّ!
يا إلهيّ!!
أمرٌ سيحلّ على هامتي وأخسر سمعتي، وأجرّم من قبل تلك المشؤومة زوجتي مدى الدهر... فنحن في الأيام الخالية متلصقان وجها بوجه، وهي لاتملّ من التلميح:
"الرجال لا يخلون من الخيانة، وإن كانت بالعيون".
فكيف الآن!
سلّمتها الأوراق، وعلّمت على بعض التفاصيل، أبحتُ لها التعديل والإضافة.
كان زهد شفتيها يشي بشيء أجهله، ماذا يدور في هاتين العينين الزائغتين! لستُ من أهل المال ولا ذاك الرجل الوسيم جدّا، من يا ترى ترغب في ملاطفتي والسعي ورائي، عبر حياكة قصّة بتواطؤ مع صاحب المكتبة! هذا ما اعتمل في صدري ساعتها.
لم أسألها عن سرّ بقاء الكتب، بشريطها خوف حرجها، ظلّ فكري كزورق واهن تلطمه أمواج عاتية... غارتْ أُلفتُها بين نظرة الخجل، حين أهديتها الكتب...
عدتُ من محطّتها تائهًا، أرمي أحجار الشوارع بمقدّمة حذائي، وقع اصطدام الأحجار في الإسفلت وفي الرصيف لم يغير من شدّة سكون الليل، حتى الكلاب الضالّة بعيونها اللامعة في الظلام، شيّعتني بصمت غريب.
انتظرت طويلاً أمام بيتي؛ كي لا تلمح هذه المخلوقة ملامح وجهي الشاردة، دخلت المنزل، كانت منتصبة تنتظر، كوقفة ضبّاط الجيش أمام جنود تخلّفوا عن واجبهم اليوميّ. استعدت بعض فنون الشباب وراوغتها بالكلام، حتى أغلقت فمها الذي يشبه مرأبًا كبيرًا، تخرج منه سيّارات حِملٍ قديمة لا تنتهي.
آه يا (آنا) بعض صقيع سيبيريا تحت عباءته الموحشة، يلفّني الآن.
بعدة مدّة، حين هاتفني الكُتبيّ: "كتبك أرجعتها السيّدة ومعها مغلفًا، وحسابكَ دفعته بالكامل". لم أدّخر جهدًا، في الوصول إليه، فهذا الوضع أشبه بكفّتي ميزان متعادلتين، لا يلمح منه أيّ بادرة... الكتب أبقيتها عنده، والمظروف تأبّطته وقصدتُ أقرب مقهى، فتحته كانت الرواية ذاتها، على الصفحة الأوّلى مهرتْ:
"يانجمة الشمال المتلألئة، ياهادية القباطنة والتائهين والقوافل، اهديه لي، صقيع الوحدة لا يغتفر"، التوقيع: (أسمهان).
بحتُ لنفسي ربّما هي شاعرة مرهفة، سدّت عليها النوائبُ منافذ الحياة... فَتُحُها لا يكون إلا برجل شرس، لا أنا!
خلّفَ أمس البعيد مني جنديًّا متسمّرًا على مربّعة وحيدة سوداء باردة، ما أن رفعت هامتي (أسمهان) بأنملتيها الطريتين، ونقلتني تلك النقلة الطائشة؛ حتى دبّت في ساقيّ الحركة، لأطوى ما تبقّى من المربّعات حتى النهاية. أيُّ نقلة غير محسوبة تقتلني، ويموت ملك الوصال؛ فتنهدّ اللعبة!
لملمت شجاعتي وقصدت بيتها... ألقت على وجهي ابتسامة طافحة بالأنوثة، وتبعتها كنهر يلحق مجراه، إلى غرفة معزولة في نهاية البيت، بخجل لذيذ، قالت: تفضّل هذا مشغلي.
المشغل: أريكة، وطاولة عليها زجاجة وكأسين مذهّبين وعلبة سجائر (مارلبورو)، مكتب صغير عليه الآلة (المِرْقَنَة) وبعض دواوين الشعر، يعلوه شريط ملوّن ممدود، مثبّت عليه أوراق بمشابك. على الجدار صورتان: رجلٌ عسكريّ برتبة ضابط، وأخرى: شاب يافع وسيم، تتوسطهما لوحة لـ(آنا آخمانوفا)، ترتدي تنّورة سوداء ضيّقة، يطوّق خصرها حزام جلدي عريض، تستأنس بنار الموقد، بيدها فنجان قهوة وتنفث دخان سجارتها الرقيقة بانتشاء، تجالسها سيّدات يعتمرن قبعات عريضة الحواف، ويحيط بهن جمهور يلبسون بدلات "السموكن".
أخذت بيدي إلى الأريكة، وهيّأتْ نفسها كمن سيلقي قصيدة قالت:
"سيذوب الغموض الساعة، لا أخيفك، رقت لي منذ زمن ليس ببعيد، في كلّ مرّة ألقاك فيها، يخضرّ في داخلي شعور أنها لم تكن صدفة:
في مكتبات المدينة، عند بائعي الكتب القديمة على أرصفة الجادات، في قاعة القراءة في المكتبة الوطنيّة، في معارض الكتب... كانت انحناءة ظهرك على الكتاب أبهى من كلّ قامات الرجال، ما تمدّ له يدك وتختاره هو ذاته ما أبتغيه... كأنك أنا... رَسَمَ وجهُك في نفسي صورة القارئ الذي تقتُ إلى لقياه ومصاحبته والانصات لحديثه... لم يترك لي تجاهلك أنظاري أيّ خيار، سوى موقف الرواية، كان عتبة الوصال... ضربة حظٍّ، علّي أفلح في جرّك إلى عريني...
الكُتبيّ حدّثني عن حياتك، فارتسمت في مخيلتي أننا في الشتاءات ذاتها... في صمت عميق ولذيذ، كنت أرقبك وأنت تتأبط الكتب... ياااااه كم تمنيت أن أقتسم الكتب معك وأعينك، ونقضي دروب المدينة كلها بالكلام، أرضنا عطشى والسماء تتغافلنا عن قصد.
قالت بعد أن تأكّدت من ترويضي:
"تسمع بعض الأشعار؟"
انطفأت حواسي بعد هذا الهجوم الشرس، بلعت ريقي بعسر، قلت: "أنا ضيفك".
نزعتْ بعض الأوراق من المِشبك، وبصوت كأنه خيوط الصبح تنقر بهدوء نوافذ مهجورة، عرجتْ بي إلى سدرة الأفراح والهيام واللذائذ.
في تلك الليلة، عرفتُ أني كنت كتابًا مطمورًا في أحد الأقبية، عثرت عليّ صاحبة العينين الشغوفتين، نفضت عني غبار الإهمال، وقرأت ما مخبوء تحت أسطر أوراقي الخرساء.
ملأت كأسينا، وأعادت الكَرّة بعد أن نضبا، قالت بانتشاء:
الحواس تريد أن تنشد على طريقتها الخاصة، أحلى القصائد تلك التي تبوح بها الأجساد، كأسانا فارغان: الشعر و!
سكتت ثم أردفت:
هما من سيطفحان ويسيلان، سيمحيان مافات، ويدوّنان سطور حياتنا المهدورة، لن نترك الأيدي الباردة ترصفنا مرّة ثانية وثالثة... على أررف الحرمان.
ما نفع الكتب بعد الآن.. ما نفع الكتب بعد الآن...
اللهاث والآهات والوجع الكامن في أوصال الروح أطلقنا سراحه، ذبنا كم تذوب سقطة الثمار في صخب الغابة.
توسّلتْ بالليل أن يطيل ساعاته، وعقارب الساعة أن تكفّ عن المسير، انطفأنا بعد نار عظيمة التهمت نفسها...
استعادتْ بعض وعيها:
"هذه أولى قصائدي، أنتَ في أوّل صفحة من ديواني، أروع أشعاري لم أسمعك إيّاها بعد، أيّها التائه الضّال، رتّب وقتك وسترى ربَّة الأشعار كيف تزيل شتاءاتك، وتُحيلها إلى ربيع".
بعد هدوئي بانت آثامي واضحة، لم أعرف أن في داخل نفسي حيوان ضارٍ مقيد، أطلقته (أسمهان)، كان أليفا وشبه ميّت، كيف لي أن أرجعه عرينه، وأُشذّب مخالبه.

أول القصائد ذقتها، وسرت لذتها في لهاتي الضامئة، لا أدري كم بقي من الأوراق لم يلقها عليّ جسدها المشتعل، الذي أحرق في نفسي لذّة القراءة، ورماد الكتب أحسّ به يتطاير في فضاءات البيت.
عبثًا أن أرجع إلى تلك العلّية الباردة المظلمة المغبرة، أرزم نفسي مع النائمين في (الكراتين)، ريثما يأتي من يودعني رصيف الحياة.
سأعود ثانية وثالثة... دفتر أشعارها لا نهاية له.
استمرّت الكؤوس طافحة والقصائد وروائح الجسد، كنّا ثملين في أوصال هذه الليالي الحرّاقة، التي لا تحتمل أي خشب رطب.
زوجتي تأكدت من خياناتي... وإن يكن:
"لكِ كلّ شيءٍ في هذا البيت، حتى كتبي"، فنهري خلع بوّابات السدّ وفاض.

كبرى الخيانات: أن ترصف كتابًا حتى يبلى، دون معرفة محتواه، شائهٌ ومرّ أن يكون الهمّ الوحيد، هو دفع التلف عنه والضياع.
كان الخيار سهلاً لدي بين ثكنة الجيش، وبين مساقط الثمار... الآن أنظر بوضوح إلى ألوان أقواس قزح، في عتمات المكان.
انتهت الأيام، وانقضت معها ظلال عرائش الكروم، ونبيذها الأحمر البريّ، وانقطع هديل الحمائم وفوران المياه، أيام أعادت فيها خلقي من طين جديد... ولم أتوقّع أنها ختام القوافي.
رمتني، كما يُرمى كتابٌ مُلَّ من تصفّحه، وصارت أوراقه باهتة باردة، لا طعم فيها ولا تغري...

أنا الآن، منبوذ وخائن، هل أعود إلى نقطة البداية لبيت العائلة الكبير؟ مستحيل، شبحُ وجوه عائلتي ونظراتهم التي تتراءي لي كشفرات تلمع ولاترحم، وهم يطلقون تهمهم:
"نزق، متهوّر، مراهق، غبيّ".
لم يعد عندي أوراق أراهن عليها، سوى ورقة صاحبي الكُتبيّ... حتما سيذكر أني كنت معه متبضّعًا جيّدًا ذات يوم.
قال لي بإشفاق بعد أن لامني:
"يوجد حجرة صغيرة فوق المكتبة، تتبّع السُلّم وستجدها".
ودّعني بعد أن دسَّ مبلغا زهيدا في جيبي... أقفلت عليَّ باب المكتبة وصعدت، كانت الحجرة مظلمة باردة، وفيها سريرٌ مترب، وكتب قديمة وبعض الأجهزة التالفة، وكتبي بشريطها المعقود.

____________
* "النوم إلى جوار الكتب" عنوان كتاب للكاتب العراقيّ (لؤي حمزة عبّاس).
* "أُمنيتي أن أقتل رجلا" عنوان رواية للكاتبة الإماراتيّة (سعاد سلطان الشامسيّ).
* "كيف تقتل أُنثى" عنوان رواية للكاتب (عبدالعزيز بن حسين).
* رواية (شتاءات ربَّة الأَشعار) افتراضيّة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى