حيدر الناصري - آخر معاقل الرجولة

في كلّ مرّة أتغافله، لكنه يجدّد في نفسي حالة الاستغراب (ضيّ) زميلي في مكتب البريد؛ فهو يسرف في الاعتناء بشاربيه المشكّلين كحدوة الحصان، يشذّبهما بانتظام، ويحرص دائما على إبقائهما ثخينين لامعين بسواد طاغٍ، ويتباهى بشرائه الصبغ والدهان من أفخر المناشئ.

لا يملّ!

فحديثه المزمن عن الفحولة لا ينتهي، اليوم كان أكثر حماسة من ذي قبل؛ لوى نهاية شاربه بإصبعيه، واستشهد بعبارة "الشوارب آخر معاقل الرجولة" وأكمل " لا أريد أن أكون ناعما أملسا كامرأة؛ سيقول الناس عنّي: مخنّث"

أحرص على عدم استثارته، فأخفي ابتسامتي عن عينيه المتّسعتين الصافيتين، فهما تتربصان بملامح وجهي، فما أن يلمح ابتسامة منّي، ولو كانت خفيفة جدّا؛ سيظلّ وجهه عابسا طيلة الوقت، فأنا خبرته وعرفته خلال السنتين اللتين شاركنا فيهما غرفة تنظيم دفاتر التوفير، يوم جاء منقولا من وزارة الاتّصالات في العاصمة، أثر عقوبة - حسب قوله- صدرت بحقّه، من رئيس قسم تصميم الطوابع، الذي أمره بحلق شاربه أو تخفيف حدّة شكله المقزّز؛ فزمن التغنّي بهكذا أمور بات صفة ذميمة تليق ببلطجيّ لا بشاب موظّف يعيش حياة العاصمة العصريّة؛ لكنّه تمنّع... هذه القصّة، سمعتها وكرّرها عليّ أكثر من مرّة، يعتزّ بها، ويتفاخر، فهي بالنسبة له سيرة لفارس شجاع.

أسرّ لنفسي: يالبساطتك يا (ضيّ)، ويالسذاجتك، اهتماماتك لا تعدو كومة شعر، ومرآة تتطلّع فيها كلّما خلت الغرفة من موظّفي باقي الأقسام... لكنني سرعان ما أتدارك هذا الحديث الداخليّ فألغيه؛ فليس من عادتي الاهتمام بتصرّفات الأصدقاء وميولهم.

أما شريكي الثالث في الغرفة (نجيب) فله رأي مختلف، فهو يتندّر على شكل شارب (ضيّ) فيصفه مرّة بـ "نعل الحصان" ومرّة بـ "مكنسة الخوص"، ويصرّ على أن تحت شاربه شابا تافها يعاني أزمة نفسيّة، ويراهن بأن موسى الأيام كفيلة بحلق الكذب وإظهار جلد الحقيقة الناصع، مجرّد وقت لا أكثر!

أغاضتني طريقة كلامه ولم أحتمل؛ فاعترضتُ عليه، بأن لكلّ إنسان منّا هوسه وشغفه، فتكون أنتَ بهذه الظنون قد ظلمتَ الرجل يا صاحبي، فما نراه سفيه وقميء يراه الآخرون مهمّ ويعزّز ذواتهم وحضورهم؛ لتترك الرجل يشذّب ويصبغ ويلمّع، هو حرّ في ما يريد!، فيأتي جواب (نجيب) قاطعا بأنه لن ينتظر الأيام، بل سيكشف حقيقة ما يوجد تحت "نعل الحصان".

لمستُ إصراره الكبير؛ فتركته يفعل ما يريد، فزاد على استغرابي الأول استغرابا، فالأوّل كلّ شاغله إظهار شاربه بشكل مميّز ولافت، والثاني كلّ همّه معرفة حقيقة صاحب الشارب، وأنا أجلس وراء مكتبي، كمتفرّج جاء بالخطأ لمشاهدة لعبة لا يحبّها، لا ينتظر ما تسفر نهايتها، ولا يدري كم ستدوم مدّتها!

انتهى الدوام، وغادر الموظفون، (نجيب) انتظر (ضيّ) حتى غادر فلحقه، وقبل أن أرى قفاه أشار إليّ بتحريك إصبعيه ففهمت من إشارته أنه سيمشي خلفه؛ عبست في وجهه، وأظهرت له تذمّري من فعله بحركة من قبضة كفّي، وتفارقنا.

أحاطتني دوّامة ما حصل، فطول الطريق إلى البيت وأنا أحاول أن أفلتَ منها بإلهاء نفسي بأي شيء لكني فشلتُ، فتضخّمتْ واستسلمتُ لها، وراح فكري يؤلّف ويبدع القصص التي سيكتشفها (نجيب) عن حقيقة (ضيّ)، ربّما سيكتشف أن شارب (ضيّ) مستعار، يلصقه بإتقان متى ما جاء إلى مكتب البريد، وأن كلّ هذا الذي نشاهده يوميّا هو مجرّد مسرحيّة يضحك فيها علينا ويتسلّى بخداعنا، أو هو مجرّد شخص جبان يرتعد من رؤية خياله؛ فيحاول أن يبدو أكثر مهابة بهذا المظهر، ومحتمل لا هذا ولا ذاك؛ يفعل هذا لاجتذاب أنظار إحدى الموظّفات التي ما تزال تستهويها صورة رجل بشارب أسود غليظ لامع، فهذه الهيئة تشعرها بأنها مع رجل حقيقيّ.

وصلتُ إلى البيت فخفّ رأسي عن التفكير فيما سيعثر عليه المحقّق (شارلوك هولمز)، وتلاشى نهائيّا بعد انشغالي مع الأطفال، وتذمّر زوجتي من عراكهم الذي لا ينتهي، وعبثهم المستمرّ بأثاث البيت والمكتبة وإغاضة الجيران... تناولنا الغداء وخلدتُ بعدها للنوم، ما نهضتُ إلا على صوت الهاتف الأرضيّ يرنّ، فسمعتُ زوجتي تقول للمتّصل بأني نائم، وتعيد عليه الجواب مرّة أخرى، حتى جاءتني متأفّفة:

- صديقكَ في الدائرة يريدكَ.

- مَن؟

- لا أعرف، قال أنه معك في الدائرة.

(نجيب) لا غيره، اكتشف الحقيقة ولم يصبر ليوم غد ليخبرني!!

- ألوو،!!

إنّه (ضيّ)!، يريدني أن ألتقيه في نادي الموظّفين في الساعة الثامنة مساء لأمر ضروري، سألته ما هو، فردّ عليّ ستعرفه متى ما التقينا؛ فعادت الدوّامة مرّة أخرى لتبتلعني مياه ظنونها، وأضيع في تصوّر الأمر الجلل الذي جعله يتّصل بي؛ ربّما اكتشف سعيَ (نجيب) وراءه وتطفّله الزائد، فأثبت له أنه رجل بمعنى الكلمة وقام بتلقينه درسا قاسيا، وربّما عرف أنّ (نجيب) اكتشف حقيقيته، فأراد أن يشرح لي الموقف بطريقته الخاصّة؛ فيفوّت عليه لذّة سماعي الخبر من فمه، فطلب لقائي، وربّما، وربّما، ... يا إلهيّ، كلّ هذا بسبب كومة شعر!، يالسخافتي وتفاهتي وضحالتي.

غيّرتُ ملابسي، فتنبّهت زوجتي لي، سألتني عن وجهتي، فأجبتها أني سألتقي المتّصل في نادي الموظّفين، سأجد هناك جوابا لأكبر مشكلة في الكون حيّرت البشريّة، وسنعيش بعدها سعداء، دون أزمات ولا محن، انتظري مجيئي.

رفعتْ كتفيها وأنزلتهما معبّرة عن حيرتها، وبرطمت مع نظرة استغراب. معها حقّ؛ فجوابي محيّر لم تفهم منه شيئا، رميتُها في دوّامة الظنون وغادرتُ.

أسرعتُ إلى الشارع، واستأجرتُ تكسيّ، وانطلق بي سائقها إلى نادي الموظّفين، السائق بدى لي ظريفا جدّا، سألني عن مزاجي في الأغاني، لكني لم أتنبّه له، حتى أعاد عليّ السؤال مرّة أخرى، شكرتُه، وتركتُ لذائقته الحريّة في الاختيار؛ فأدخل شريط الكاست وعلا صوت أغنية (ثورة الشكّ)، تبسّمتُ وقلتُ لنفسي حقيقة أنا الآن في ثورة شكّ. غبتُ عن تتبّع الأغنية، أخمّن عما يسفر لقائي بـ(ضيّ)، فانتبه السائق لشرودي، فاعتذر عن تطفّله وسألني محرجا عن سرحاني وعدم تفاعلي، فحرتُ في إجابتي؛ فكيف لي أن أسرد له قصّة الشارب الأسود الثخين اللامع وهو حليق الوجه؛ خفتُ أن أزعجه، أو تكون ردّة فعله غير محمودة، فالناس أحرار في أطلاق لحاهم وشواربهم وحلاقتها، فقلتُ له أن لي صديق سألتقيه واقع في مشكلة، فأومأ لي برأسه، ولم يكلّمني بعدها حتى وصلتُ.

دخلتُ النادي وفتّشت في وجوه الجالسين حول الطاولات، حتى لمحتُ في آخر القاعة كفّا تلوّح لي، فنقلتُ خطواتي إليها، تصافحنا وجلسنا، سألني (ضيّ) عن مشروبي المفضّل، فأجبته أي مشروب بارد.

بدى مهموما منزعجا،هذا الأمر لا يحتاج إلى فراسة، واضح من وجهه الكئيب وحمرة عينيه وحقيبته الكبيرة أسفل رجله، كأنّه على سفر، ربّما بكى طويلا بحرقة!، فأستبقته لاستيضاح سبب اللقاء، وما يشغله، متوقّعا في نفسي بادئ الأمر أن (نجيب) هو سرّ وجودنا هنا في النادي لا غيره.

أكملتُ مشروبي، و(ضيّ) لم يجب، ظلّ ساكتا، تأخذه نوبة الشرود ويعاود النظر في وجهي، ويرسم على فمه ابتسامة مفتعلة باهتة.

أسأل نفسي متى يفقس بيض الكلام يا صاحبي، متى تخرجني من هذه المسرحيّة الهزيلة، التي حشرتني على كرسيّ فرجتها أنتَ و(نجيب) في هذا اليوم، ما دخلي أنا بما تفعلانه!

فاض بي سكوته؛ فأعدتُ عليه السؤال:

- ما بك؟، واقع في ورطة؟، آذاك شخص؟ تحدّث يا أخي، فريتَ مرارتي بسكوتك!

دمعت عيناه، وطأطأ رأسه، محاولا كتم بكائه بشدّة، تداركت الموقف وقدّمت له منديلا، وقلتُ له لنذهب إلى مكان آخر، فامتثل سريعا. أمسكتُ بيده، وتمشّينا حاملا حقيبته عنه قاصدين النهر، نزلنا على درجات الضفّة، وجلسنا قريب الماء، قلتُ له:

- أرحني وأرح نفسكَ يا (ضيّ).

قبل أن يشرع في الكلام، ذكّرني بقوّة علاقتنا، وأني الصديق الوحيد المقرّب له، يلجأ لي في همومه ومشاكله، ثم آمّنني على كلامه، فرددتُ عليه أنا حافظ سرّك كما عهدتني، لا تخف.

فتكلّم وهو ينشج كالطفل!

ليته لم يتكلم ولم يصارحني، ليتني لم أحضر وألتقِ بِه، كلّ حساباتي وتوقّعاتي كانت ساذجة، صحيح من قال أن الإنسان بئر عميقة لا تستطيع النفاذ إلى قعرها، وملامسة ما هو مستكين هناك!

انتهى (ضيّ) وهدأ، فألقى بنظره على صفحة الماء الساكنة، لكنه تركني كزورق ضعيف في قلب عاصفة شرسة، عاصفة من الأسئلة تعصف بي وتمزّقني، فكيف لهذا الرجل أن يصبر ويتصالح مع خيانة زوجته المتكرّرة ويعيش معها تحت سقف واحد، وعلى دراية أن طفلته لا تنتسب لدمه، والأفظع من هذا كلّه أن الموقف ما كان ليتفجّر لولا طرده من البيت من قبل زوجته ورميها حقيبة ملابسه في الشارع... هو في قمّة الحيرة لا يعرف ما يفعل، ويريد منّي حلّا، أي حلّ تريد منّي يا صديقي الشرس يا صاحب الشارب المفتول!!

الآن لمستُ قرارة بئر هذا الرجل، وعرفتُ أنه ميّت من الداخل لكنه كان يكابر طيلة هذه المدّة، ويصوّر للناس بأنه على قيد الحياة وقوّي!

دقّق في وجهي ينتظر مني جوابا، فقلتُ له لا يوجد جواب أبلغ مما أنتَ فيه الآن، لا تربطك بها أي صلة، هي اختارت ما يناسبها، وبقي دورك؛ ارمِ كلّ هذا خلف ظهرك وابدأ حياتك من جديد.

ظننتُ أني حسمتُ الأمر، لكنّ جوابي لم يرق له؛ تحجّج بحبّه الشديد لها، وأنه لا يقوى على فراقها، وبسبب تعلّقه بها خسر كلّ شيء أهله وأقاربه وأصدقاءه إلى الأبد.

صدمني ردّه المزري، فقلتُ له غاضبا:

- ماذا كانت تظنّ أن أقول لك، عد إلى زوجتك وعش حبّك معها إلى النهاية!

فكان جوابه مدوّيا؛ يحثّني فيه ويتوسّل على التوسّط له مع زوجته كي تعيده إلى البيت، ولا يتدخّل في شؤونها!

فتركتُه على جرف النهر كجثّة متفسّخة تزكم رائحتها الأنوف، وابتعدتُ متلفّتا مرّات خوفا أن أراه خلفي، وأعيد على نفسي ما جرى من أحداث غير مصدّق، أكلّ هذا يصدر منك يا (ضيّ)!، ما بقي من رجولتك وغيرتك؟، لا شاربك ولا كلّ شوارب الرجال لو ألصقتها على وجهك تقدر أن تعيد لك ذرّة من شرفك!

دخلتُ البيتُ وخجلتُ أن أروى لزوجتي تفاصيل ما حصل، فقلتُ لها أنه واقع في مشكلة وساعدته في حلّها، ثم دخلتُ إلى غرفة النوم، فتذكّرتُ (نجيب)

ماذا سيكون ردّه إن سمع بهذا الزلزال، حتما سيردّ عليّ بأن ظنّه كان في محلّه، لكن (ضيّ) أمّنني؛ ولن أتفوّه بأي كلمة، الصباح رباح، و"إنَّ غـداً لنـاظِـرِه قـريــب"...

تعمّدتُ الحضور متأخّرا إلى مكتب البريد؛ خوف أن أكون في لبّ القضية إن فاحت رائحتها الكريهة وانتشرت في الأقسام. دخلتُ الغرفة فوجدتُ (ضيّ) و (نجيب) متقابلين أمام صينيّة الأكل ويضحكان.

غريب!

فليس من عادتهما أن يتقاربا؛ فهما لا يطيقان بعضهما، ألقيت تحيّة الصباح وجلستُ وراء مكتبي، فرّد عليّ (نجيب) التحيّة، وقال جئتَ في وقتك نحن في أوّلها، ودعاني للمشاركة، فشكرتُه. (ضيّ) لم يردّ، تجاهلني كأنّه لا يعرفني، أنهى فطوره ونظّف الطاولة الصغيرة من باقي الأكل ومسح يديه وفمه بمنديل، وأخرج مرآته المدوّرة الصغيرة ومشطه الناعم، وأخذ يسرّح شاربه الذي بدأ لي أكثر سوادا ولمعانا من البارحة!، ثم أخذ الصينيّة عائدا بها إلى المطعم القريب من مكتب البريد.

تقرّب (نجيب) مني وظلّ يسرد لي كيف قدّم موقفا بطوليّا لـ (ضيّ) حين قصده البارحة للبيت مع حقيبته، فسال عندي لعاب الفضول، فسألته ألم تلحقه أمس؟، فردّ:

- لا، لم اتمكّن من اللحاق به؛ كان سريعا، ترجّل من الحافلة واختفى فجأة في أحد الشوارع، لكنْ في الليل انجلى لي كلّ شيء، وتوقّف عن الكلام!

فقلت له أَكْمِلْ يا جامع الرأسين بالحلال أكملْ

فأكمل:

- سرنا حتى اقتربنا من بيته، فأوصيتُ (ضيّ) أن ينتظر ولا يجعل زوجته تراه؛ ريثما أمهّد له طريق العودة، ملأت الفرحة وجهه وظلّ يقبّل يدي وأنزل رأسه نحو حذائي، لكنني صددتُه... التقيتُ زوجته، عرّفتها نفسي والأمر الذي جئتُ من أجله، رحّبت بي ولم تمانع في ادخالي إلى البيت، كانت جميلة جدّا، وملابسها مثيرة... صالحتهما، بعد أن ألزم نفسه أن يكون مرنا جدّا معها ولا يتدخل بأي شيء، والراتب يسلّمه لها كاملا، فترجّاها (ضيّ) أن تعطيه جزءا بسيطا من الراتب؛ لأجور النقل وشراء مسلتزمات تخصّ أناقته والعناية بشاربه؛ فخيّرته زوجته بين الأمرين؛ فاختار الثاني، تصوّر !

فرددتُ عليه، ليس غريبا فعله؛ فهو من دون شارب لا يسوى فلسا واحدا، وأخرجتُ ورقة وكتبتُ عليها، وسعيتُ إلى غرفة مدير المكتب، المدير طلب مني أن ألغي الطلب، لكني واصلت تمسّكي؛ فوافق على نقلي إلى قسم صيانة صناديق البريد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى