أدب السجون سمير الفيل - * ذلك السجان.. قصة قصيرة

كل يوم جمعة تنفض التراب عن حجرته ، وتجلي أكواب الشربات الزجاجية الملونة ، وتعيد وضعها في الفترينة ، ثم تمسح الأركان البعيدة بعامود زان أطلق عليه " رأس العبد" . تشرد وتنتظر عودته والقمر يصعد ويهبط ، يظهر ويأفل ، دون أن يسمحوا لها بالزيارة فأمر اعتقاله لا يسمح لها بمجرد السؤال عن تهمته.
باب الزنزانة من الحديد الثقيل ، يصر عند الفتح والإغلاق ، فتنسحب روحه مع الصوت الذي يرهق أعصابه . لم يكن هناك بد من قطع الوقت بالطرق على الجدران فهي لغة من يسكنون زنازين متجاورة حيث الكلام ممنوع وهو لا يريد أن يتكلم ، لا مع زملائه ، ولا مع السجان.
كتبت تفيدة عدة طلبات بعد أن أملاها المحامي الصيغة المناسبة ، وانتظرت السماح لها بالزيارة دون جدوى.
في الليل أخذوه ، ولم يسمحوا له بارتداء معطفه الصوفي الثقيل ، وبصعوبة مدت يدها بالنظارة الطبية فوضعها على عينيه وهم يسحبونه لسيارة الترحيلات الصاج التي تشبه ديناصورا كبيرا تسلل من العصور الجليدية ليعيش عصر الحرية التي لم يسبق لها مثيل.
لم يجدوا في كتبه سوى بعض القصائد الشهيرة لأمل دنقل وبدر شاكر السياب ومسرحية لصلاح عبدالصبور. لكنهم حرزوا مائة وعشرين دولارا كان قد حصل عليهما بعد نشره مقالا نقديا فثبتت عليه التهمة ، حيث التمويل بالعملة الصعبة.
للسجان شارب كثيف ، وهو يقرضه أحيانا سيجارة مقابل أن يغني له مواويل كان قد حفظها شابا عند تمثيله مسرحية شعرية لنجيب سرور.
السجان كان يبكي غالبا ثم يزجره لأنه توقف ، وحين يبلغ درجة الانتشاء يصنع له الشاي بنفسه ويمرره من النافذة الضيقة في كوب بلاستيك ليشرب ويغني.
في مرة كان مزاجه متعكرا ، صمم ألا يغني رغم تهديدات السجان الذي مد يده بسيجارتين كاملتين . فلم يقبل المقايضة ورفض تماما ، بل سحب البطانية القديمة وغطى بها نفسه ، متصنعا النوم.
قال السجان وهو يبرم شاربه : وحياة الغالي عندك تغني . وحياة حبيبك النبي.
في هذه اللحظة لمح طيف تفيدة ، وهي تلمع الأكواب ، وتنفض التراب ، سألته : لماذا كل هذا الغياب؟
لم يكن عنده كلام ليرد به ، ودهش أن وجد صوته يجلجل بموال قديم.
انفجر السجان في البكاء ، ولم يكن أحد يعرف أن ولده قد دهسه قطار منذ عدة شهور ، فملأ قلبه حزن دام. إنه يستعيد الآن صورته فقد كان له ناي بسلميات قصيرة صنعه من البوص ليصدر أنغاما حلوة. خطفه منه يوما حين كان يقضي إجازته وحاول تقليده إلا أن أصواتا ناشزة صدرت من الفتحات فعرف أن كل ميسر لما خلق له .
الباب الحديدي له صرير ، ولصوت السجين وهو يغني رنين عجيب، أما القمر فهو يأخذ دورته في الصعود والهبوط. وما زال أمر الاعتقال قائما ؛ حفاظا على سلامة الوطن وأمن المواطنين الصالحين.


13/8/2011


سمير الفيل / مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى