أسامة الرحيمي - «الهارب الطبقي»

كان «ماركس» أول من عَرَّف «الهارب الطبقي»، ونبّه لخطورته علي بني جلدته، ولاحقا حذرت أدبيات اليسار من الاستعانة «بالبروليتاريا الرَثَّة» في المراحل المهمة لسهولة إنقلابهم.

و «الهارب الطبقي» هو المتنصل من أصله الاجتماعي، والمعادي له من دون مبرر ظاهر، ويحمل بضراوة علي طبقته لمحوها من دمه، بينما ينبطح أمام من يراهم أرقى.
وهو حالة معروفة عبر التاريخ الإنساني، لكنه ينتقل في عصور الانحطاط من الفردية إلي حد الظاهرة، كما يحدث في المجتمع المصري الآن، من انتشار وبروز وجوه ـ هاربة ـ مثيرة للشفقة والسخرية، لإمعانهم في التبرأ من ذويهم والهجوم عليهم، وتمجيد من أعانوهم علي الترقي الهشّ .
بعضهم يقدم برامج تلفزيونية بجسارة يحسدون عليها، وآخرون يكتبون مقالات مطبوعة بالجهل في صحف مقروءة، وغيرهم احتلوا مناصب رفيعة، بالانبطاح لا الكفاءة، ويتلذذون بالتحكم في مقدرات الناس .
وليس مستغربا أن يتصرف المذيع كبرجوازي، مثل الخدم حين يقلدون سادتهم، لاعتقاده أن تعلقه بذَنَب أسرة ملكية سابقة يكسبه وضعا اجتماعيا جديدا، وأنه قادر علي استغفال الناس مع أنهم يشاهدون فراره الطبقي «عالهوا»، ويشفقون عليه من بؤس محاولته، وكانوا يفضلون لو تباهي بأصله البسيط، فالعصامية قيمة تدعو للزهو، فسيدنا محمد (ص) بكل عظمته دعا : «اللهم احشرني في زمرة الفقراء والمساكين»، ولو تصالح «الهارب» مع واقعه لكان أصدق وأبهي، لكن ما حيلته وكوامن نفسه أعقد من وعيه الذي لا يسعفه إلا بمزيد من الهروب الطبقي المفضوح؟
ويتمثل كاتب المقالة «المتثاقف» سَمْت المفكرين، في صورة تكشف سوءاته، وينّوع مفرداته الفخمة، مع عجزه المخزي عن إخفاء جراحه الطبقية، ولأن أسرار المهتزين تظهر في تصرفاتهم يتشنج وترتعش أفكاره كلما «لَطَّ» المنطقة الشائكة بين حيثيته المزعومة التي «يعافر» لتعظيمها، وخلفيته الاجتماعية التي يتمني زوالها، ويكره شهودها من قلبه، ويفضل تدنيس الكفاح القديم علي كلفة التمسك به.
ويحيط صاحب المنصب الرفيع نفسه بعديمي المواهب، يترفق بهم، ويغدق عليهم ما لايستحقونه، فيما يترصد الكفاءات من أبناء طبقته السابقة ويُنكّل بهم، ولأنهم يفضحون خُواءه، يُبدّد إبداعهم، ويُسلّمهم طُعمة لإحباط قاتم.
الفضائيات والصحف الخاصة سهّلت تسلل هذا «الهارب الطبقي» النذل إلي وجدان البسطاء فانخدعوا واعتبروه «شاطرا»، وهو نعت مملوكي صحيح وفق تراث «الشطار والعيّارين»، وهم لصوص وقطاع طرق بمعني لايختلف كثيرا عما يقدمه «الهارب» لسادته!
فهو ينتهز الفرص بكامل وعيه، ويهتبل الغنائم بلا تردد، ويهدم القيم النبيلة بملء إرادته، فلا يعترف بالعصامية، ولايحترم الدأب، ولايتورع عن تحطيم المواهب بضمير ميت.
وأمام هؤلاء «الفسائل» تسمو رموز العصامية المثالية، الذين مازالوا يضيئون حياتنا، وأبرزهم «سعد زغلول» و«طه حسين» و «نجيب محفوظ» النقيض الكامل لـ «الهارب الطبقي»، فلم يكونوا من أصول برجوازية، لكنهم ضمّوا المجد من أطرافه «بالدأب والإخلاص والذكاء»، فلم يحظ سياسي أرستقراطي بمكانة «سعد زغلول» الجليلة في قلوب المصريين، ولم يصل مفكر من المُوسرين لوهج «طه حسين»، ولم يحقق أديب ثري منجز «نجيب محفوظ»، ولأنهم أعَلُوا العصامية بالحقيقة فاعتلوا قمة السلم الاجتماعي، وباتت مشاريعهم التنويرية مثالا يحتذي.
أما «الهاربون» الذين نعموا بمجانيات «يوليو» وصعدوا علي «قفاها»، فقد أثخنوها إنكارا وتنكيلا وتنديدا، وهم أحرار فيما يذهبون إليه، لكن ليس من حقهم تدمير الحقائق، فبدونها لم يكن بمستطاعهم الإفلات من «قدر التَمَلِيَة» في وسايا الإقطاع، حيث لم تكن أمامهم بالتحديد أية فرصة للصعود الاجتماعي، ولست بصدد الدفاع عن «ثورة يوليو»، لكني أتعجب لمعدم لم يمتلك قيراط أرض يوما ما لكنه يتصرف كإقطاعي أضره الإصلاح الزراعي!!
يفعلون هذا ببساطة لأن وعيهم تم مسخه خلال عقود النكوص الفائتة، ولأنهم مدينون بالفضل للجهات التي التقطتهم في خطواتهم الأولي بالجامعة، وحوّلتهم لعسس حاذقون، ولإفراطهم بتدمير زملائهم، كوفئوا بتلك الفرص التي يحسبونها «شطارة»، لكن مكاسبهم الحرام ستبقي عاجزة عن تغيير جلدتهم، وحفاء قلوبهم، وخراب ضمائرهم، وستظل جيناتهم تلاحقهم كاللعنات، فعوج الدم لاتصلحه الأضواء ولا الأرصدة.
هروبهم يذكر بطُرفة الشاعر «حافظ إبراهيم» حين رأي «إمام العبد» ــ وكان من كبار الظرفاء ــ يركب حنطورا، فجري خلفه وهو يصيح : «كرباج جوة يا اسطي» !


نشرت في جريدة الدستور 10 / 5 / 2009





أسامة الرحيمي



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى