عوض عثمان عوض - تأثير الوالد الحاضر - الغائب .. في حياة الإبن المبدع

قال الفلاسفة الإغريق قديماً ( لا شئ يخرج من لا شئ )...

مما لا شك فيه أن للأسرة أثر عميق ودور كبير في بناء الشخصية , شخصية الوالد على سبيل المثال تعتبر العمود الفقري للأسرة ويكون لها أثر جلي على شخصية الأطفال مستقبلا حتى يصبحوا راشدين وفي مراحل عمرية متقدمة , لقد أكد علماء النفس مدى أهمية الخمس سنوات الأولى في حياة الطفل , حيث تتشكل في هذه الفترة نواة وأسس الشخصية ,المتابع لسيرة بعض سيرة الكتاب والأدباء و المبدعين عبر مسيرة التاريخ سيجد هذا الأثر الهام في عدد كبير منهم إضافة لعوامل أخرى تكون نتيجة تحصيل ذاتي إجتمعت معا في النهاية وكونت الذات المبدعة ...
- أثر الوالد الحاضر في حياة الإبن المبدع :
مهما بحثنا عن ذلك الأثر لن نجد مثال أوضح من الكاتب العالمي فرانز كافكا وأثر الوالد على شخصيته وأعماله الأدبية , ويجب القول هنا أن والده كان إنسان مستبد وعدواني .. والذي وجد فرصة و إطلع على كتابات كافكا سوف يجد بسهولة شخصية الوالد موزعة في عدد كبير من قصصه , مما دفع أحد النقاد للقول ( أن معظم أعمال كافكا تدور حول الوالد , لكن كافكا بذكاءه جعلها قضية و قصص كونية ) عندما كتب كافكا قصته الأولى وعرضها لوالده , نظر الوالد للأمر بكل إستخفاف و إستهزاء وقلل من قدرات إبنه , لكن الوالد لم يعلم أن تلك الكتابات التي إستخف بها أعتبرت فيما بعد أفضل إنتاج أدبي للقرن العشرين وربما لقرون خلت و قرون قادمة , وكان لها أثر بليغ في كتاب لاحقين توجت أعمالهم بجائزة نوبل ولم ينكروا مطلقا أثر كافكا في أعمالهم الأدبية ..وصل الأمر عند كافكا لكتابته نص ( رسالة للوالد ) التي كتبها وهو في ذروة إبداعه الأدبي , وكانت الرسالة عبارة عن محاكمة رهيبة لوالده وتمثل تصفية حساب عامة لم تعرف الرحمة مع الوالد و مع نفسه , وللعلم أن تلك الرسالة لم تصل أبدا لوالده , وإن بدت الرسالة موجهة لوالده إلا أنها في نفس الوقت موجهة لكل الآباء , إطلعت منذ فترة لتعليق لأحد الكتاب العرب قال ساخرا :
( يبقى والد فرانز كافكا عطوفا ورحيما إذا ما قورن بالأب في عالمنا العربي ) .....
وذكر المترجم السوري إبراهيم وطفي الذي ترجم أعمال كافكا من الألمانية للعربية :
أن رسالة إلى الوالد هي أهم وأشمل ما كتبه كافكا عن سيرة حياته وأطلق كافكا عليها وصف الرسالة العملاقة , الملاحظ أن هناك علاقة تلازم بين رسالة إلى الوالد وقصة ( الحكم ) لأنهما تعالجان المشكلة نفسها من طرفين متناقضين وهى السؤال عن الولادة ( الثانية ) للفرد بعد خروجه من الأسرة للمجتمع .. ولو تتبعنا الرسالة جيدا سنجد كافكا يقول لوالده :
( كانت كتابتي تدور حولك .. والحق كنت أشكو فيها ما كنت لا أستطيع أن أشكوه في صدرك .. كانت وداعا منك أطلته عمدا ) و قد يبدو لنا أن كتابات كافكا كانت محاولة هروب من سطوة و سلطة الوالد .
- أثر الوالد الغائب في حياة الإبن المبدع :
سنتحدث هنا عن تأثير الوالد الغائب عن الوجود قد يكون الغياب بسبب الموت أو الفقد والغياب دون أمل في العودة , يظل ذلك الوالد حاضر أبدا في شخصية وذاكرة الإبن حتى دون أن يكون إلتقى به في حياته , يتطور الفقد كلما كبر الإبن ويكون أكثر شوقا ولهفة لرؤية ذلك الوالد إذا كان غائبا و يظل حلمه الوحيد في حياته رؤية ذلك الوالد , يحضرني في الذاكرة الآن مغني الريغي الشهير لاكي دوبي الذي أغتيل فى إكتوبر 2007م بجنوب أفريقيا وسنأخذه كمثال لأثر الوالد الغائب في حياته وأثر ذلك الغياب إضافة لعوامل أخرى هامة جدا على إبداعه في عالم الموسيقى حول العالم و يبدو ذلك في عدد من كلمات أغنياته , وسناخذ على سبيل المثال كلمات أغنية (remember me) والمخاطب هنا والده الغائب الذي لم يراه أبدا طيلة حياته :
غادرت المدينة لسنوات طويلة
وعدت بأن تعود
وتعتني بنا
سنوات طويلة قد مرت الآن
لا توجد علامة تدل عليك
الوالدة توفت بأزمة قلبية
قبل سنوات عديدة عندما
سمعت أنك تزوجت بأخرى
الآن .. أنا الوحيد المتبقي في الأسرة
بهذه الكلمات المؤثرة يتضح جليا مدى فقد لاكي دوبي لوالده الذي كما أشرت أنه لم يراه طيلة حياته , وذكر في كلمات أغاني أخرى مدى إهتمام والدته به ولعبها دور الأم و الأب في آن واحد .
- عدم تأثر الطفل بوالده .. إدوارد سعيد نموذجاً :
في كتابه الرائع ( خارج المكان ) للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد , والذي تطرق فيه كثيرا عن طفولته وتنقله ما بين القدس والقاهرة ولبنان،وعن فترة شبابه مابين دول العالم، وذلك بأسلوب عاطفي وصادق جدا يلامس القلب والروح لدرجة يشعر القارئ بأن الكلمات تخترقه و تهزه ..
أشار إدوارد عن علاقته بوالده التي شكلت تناقضاً آخر من مدارات تناقضاته المتفرعة، لعل والده
( الأبعد تأثيراً في نفسه ) حيث سبب له الكثير من الإشكالات والمعاناة، فوالده كان يعتبر نفسه أميركياً، وكان يرفع العلم الأمريكي في المناسبات، على عكس زوجته (والدة إدوارد) التي احتفظت بأوراقها الفلسطينية، وفضلت العيش بين مصر ولبنان بدلا عن أمريكا .. و أوضح إدوارد علاقته الجميلة مع والدته المرأة المثقفة التي كانت تأخذه دوما إلى المسرح وإلى حفلات البيانو الموسيقية , لقد استطاع إدوارد سعيد في هذه السيرة أن يتحرر من سطوة القيم ومن سيطرة التقاليد الاجتماعية ليكون جريئا وصادقا مع نفسه ومع العالم، أمام تلك القضية الوجودية الغامضة والمحيرة لكل مثقف ومفكر ألا وهي الموت ...إن مذكرات إدوارد سعيد تفتح لنا نافذة علي حياة قلقة في علاقتها بالمكان، تلك التي عاشها في طفولته وشبابه، وهي حياة موزعة ما بين السفرالدائم والمنفى والانتقال من مكان لمكان، إلى جانب ذلك الرحيل القسري بعيدا عن جذوره ومسقط رأسه، ليتلقى دائما مناخات اجتماعية وثقافية مغايرة مما ادخل في مسارب نفسه دفقات هائلة من الذكريات ومن الأماكن والأحلام المجنحة ...
- أقتبس هنا بعض المواقف التي وردت في صدر الكتاب ( خارج المكان ) :
عندما كنت ما أزال في حوالي الخامسة من عمري , جزوا شعري المجعد الطويل في قصة قصيرة عادية ,ولما كنت أتمتع بصوت (سوبرانو) لا بأس به وتجدني أمى المولعة بي (حلوا) فقد شعرت باستنكار أبي لذلك بل بجزعه من أكون ( مخنثا ) .. وهي كلمة قضت مضجعي إلى أن بلغت العاشرة , ومن الأمور الغريبة في مراهقتي المبكرة تهجمه على (رخاوة) وجهي وخصوصا فمي ... ويواصل : أذكر وقفاتي المطولة أمام المرآه أرى نفسي بقرف إلى أن جاوزت سني العشرين ..
وذكر في موقف آخر أنه أعتدى عليه بالضرب المهين مرة وهو طالب دراسات عليا بجامعة هارفارد عقابا لوقاحته كما صرح لوالدة ( إدوارد ) .... ( صفحة 96 , 97 )


مصادر :
- الأعمال الكاملة ل فرانز كافكا .. ترجمة إبراهيم وطفي
- كتاب ( خارج المكان ) إدوارد سعيد / ترجمة فواز طرابلسي ( الطبعة الأولى 2000 )


عوض عثمان عوض

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى