د. مصطفى أحمد علي - ورق!

مارس ١٨٧٣، غوستاف ناختيغال النمساوي، دون في مذكراته، حينما جاز نواحي "البطحة"، في طريقه من باقرمي إلى وداي، أن إهداء قرطاس من الورق الأبيض يبعث مشاعر الفرح ويجلب الرضا والامتنان، ليس لدى عامة الناس فحسب، بل حتى لدى الخاصة. وأن إهداءه عقب قلم رصاص لا يتجاوز طوله نصف بوصة، كان مثار غبطة ابن السلطان ورضاه، وأن قرطاسا واحدا من الورق يعادل في قيمته مقايضة، دجاجة أو مكيالا من القمح، وأن هذه القيمة تتضاعف في وداي، فتصبح الدجاجة دجاجتين، والمكيال مكيالين!
وفي دارفور، كان من بين السلع التي حرص السلطان علي دينار على عهد سطوته وسلطانه في دارفور (١٨٩٩-١٩١٦م)، كل الحرص في مكاتباته، على أن تزوده سلطات الحكم الثنائي في الخرطوم، بها، قراطيس من ورق الكتابة.
وفي أول زيارة لي إلى انجمينا في سنة ١٩٩٤، اصطحبني الأستاذ فضل القوني، رحمه الله، إلى مدينة كسري، الكميرونية، على الضفة اليسرى من نهر شاري، قبالة انجمينا، وكان الجسر الحديدي على صغره ورقته وتواضعه، يضج وينوء بالعابرين من الضفتين، أوالمدينتين، أو الدولتين، لا جرم، أيا شئت! فسألت رفيقي: وهل يبرز هؤلاء العابرون على كثرتهم، أوراقهم وبطاقاتهم؟ فأجابني مستنكرا، بعربية انجمينا: "نادم قدر دا بكفو كتكت من وين؟" أي، وهل يوجد ورق (كتكت)، يكفي هذا القدر من البشر!؟
وسمعت ممن أثق في روايته، أن أحد علمائنا من نواحي وادي هور والطينة، أخبره أن أول معرفته بالورق، كان حينما حضر إلى قريتهم فقيه شنقيطي، وكان يحمل مصحفا مخطوطا، وحدث أن عصفت ريح بمتاعه، وتناثرت أوراق المصحف في السهل الواسع الفسيح، فطلب الفقيه منه ومن رفاقه، وكانوا بعد في السنة السابعة من أعمارهم أو نحو ذلك، ان يجمعوا شتات أوراق المصحف، وكانت تلك أول مرة تتحسس فيها أكفهم وأصابعهم الغضة الورق!

د. مصطفى أحمد علي
الخرطوم، أبريل ٢٠١٩م.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى