محمد علي عزب - شعر العامية الحر / قصيدة العامية .. ووعى الشاعر بجماليات الشكل واللغة

وقد تجد نصوصا مُسمّاة بقصائد عامية وهى فى الواقع لا تأخذ من شعر العامية الحر / قصيدة العامية اٍلاّ الشكل الخطى البصرى "شكل الكتابة على الورق" فقط, وتفتقر اٍلى أدنى مقومات الشعرية حيث اللغة تقريرية ومباشرة, والموسيقى الصائته تطغى على الصور الشعرية فتجد الأخيلة والمجازات ضحلة ومستهلكة, ثم تجد تعليقا يُقِرّ بأن هذه النصّوص تكاد تكون نصوص زجلية أو قريبة من الزجل ؟!, ويوصى صاحب النصّ بأن يجتهد ليخرج من دائرة الزجل التقليدى اٍلى آفاق قصيدة العامية الحديثة, وقد سمعت وقرأت مثل هذا التعليق مرات عديدة, ولا أدرى ما العلاقة بين قصيدة عامية ركيكة وبين الزجل ؟ فالزجل فن شعرى له شكله الفنى الذى يخالف الشكل العمودى وتتنوع فيه الأوزان والقوافى , وللزجل جماليته الخاصة المرتبطة ارتباطا وثيقا بشكله الفنى باعتباره فنّا شعريا تناول كل الأغراض التى تناولها الشعرالعمودى والموشح, بالاٍضافة اٍلى كونه فن النقد الاجتماعى والتأريخ للظواهر الاجتماعية عبر التبكيت والتنكيت وتوظيف مجازات الشارع واللغة الرشيقة المتهكمة, واٍذا خرج الزجل عن شكله الفنى فلا يصلح أن نطلق عليه مسمى زجل, وفى نفس الوقت اٍذا اكتفى الشاعر من قصيدة العامية بالشكل البصرى الخطى "شكل الكتابة على الورق", واعتمد على اللغة التقريرية والأخيلة المستهلكة فلا يصح أن نطلق على نصوص ذلك الشاعر أنها تقليدية وقريبة من الزجل, بل أن هذه النصوص لا هى قريبة من الزجل بشكله الفنى وأغراضه ولا هى قريبة من قصيدة العامية الحقيقية, والأدقّ فى توصيف هذه النصوص هو أنها محاولات غير ناجحة فى كتابة قصيدة العامية أو لعب بالشكل بمفردات اللغة
هناك فرق جوهرى بين التشكيل الشعرى الجمالى وبين اللعب بالشكل ومفردات اللغة, فالتشكيل الشعرى عملية اٍبداعية قائمة على الوعى بالشكل وجمالياته الخاصة, وامتلاك الشاعر لأدوات صياغة الشعر وتوظيفها بطريقة تخصه بعيدا عن محاكاة الآخرين, أمّا اللعب بالشكل فهو لعب بمفردات اللغة والشكل الخطى البصرى دون اعتماد جماليات التشكيل, وكما ان اللعب بالشكل قد يتمثل فى استتغناء الشاعر عن التصوير والايحاء, والمجئ بكلمات تقريرية كل علاقتها بالشعر هى الشكل الخطى البصرى فاٍٍن اللعب بالشكل قد يتمثل ايضا فى الشطط والتعسف فى صياغة النصّ, وغياب الروابط السياقية بين المفردات اللغوية فتتحول لغة النصّ اٍلى ألفاظ مبهمة مستغلقة, وكأنها ألغاز وطلاسم لا يستطيع القارئ أن يخرج منها بأى دلالة اٍذا كان بها دلالة أصلا, وبذلك يموت النصّ بعد أن فقد مشاركة القارئ للشاعر فى اٍعادة اٍنتاجه عبر القراءة واكتشاف كيف يقول وماذا يقول النص؟, بل أن النقد الحديث قد أشار اٍلى أهمية معرفة القارئ لما بين السطور, وذلك من خلال تفاعل القارئ تفاعلا واعيا مع سياق النصّ والقوانين الرمزية التى تحكمه, والاٍشارات النصية الموحية التى يبِثَّها الشاعر فى ثنايا نصّه, ليبحث عنها القارئ ويسترشد بها فى قراءة ما بين السطور
وهناك فرق بين الاٍبهام وبين الغموض الشعرى حيث أن الغموض الشعرى خصيصة جوهرية من خصائص الشعر التحمت به منذ القدم, فقد قال ضياء الدين بن الأثير فى "المثل السائر فى أدب الكاتب والشاعر": ( اٍن أفخر الشعر ما غَمُض فلم يعطك غرضه اٍلاّ بعد مُمَاطلة منه )1, فالغموض الشعرى ضد التقريرية والمباشرة فهو غموض فنى قائم على استخدام الاٍيحاء والاٍيماء والتلميح عبر توظيف الخيال والمجاز, لاستثارة ذهن ومخيّلة القارئ فيسعى لاكتشاف اٍيحاءات ودلالات النص وجماليته, وبذلك يعطى القارئ / القُرّاء للنصوص حيوات متعددة بتعدد القراءات الواعية, ( والغموض بهذا المعنى يشكل جوهر الشعر, وهو نتيجة أساسية تميز الشعر عن غيره, وتمنحه الخصوصية الفنية والجمالية )2 .
وكما تفقد اللغة شعريتها بافتقاد الصياغة الخاصة بالشعر وتتحول اٍلى خطاب تقريرى, وتفقد أيضا شعريتها عندما تتحول اٍلى ألغاز وأحاجِ بلا معنى, فاٍن هناك سببا آخر يؤدى اٍلى فقدان اللغة لشعريتها فى قصيدة العامية / شعر العامية الحُرّ بالذات, وهو انفصال المفردات اللغوية عن وعى ووجدان الشاعر, وفقدان النصّ الشعرى العامى لحساسيته الشعرية المبنية بالأساس على التحام المفردات بالشعور, واختزان تلك المفردات لِطاقة انفعالية تخصّ التعبير الشعرى بالعامية والتاريخ الاٍيحائى للمفردات, ويتضح الانفصال بين المفردة اللغوية وبين وعى ووجدان الشاعر, فى وجود انفصالات ونتوءات بارزة فى مستويات ونوعية اللغة, وكأن الشاعر وهو يعيش تجربتة يتأرجح شعوره وتفكيره بين الفصحى والعامية, ثم يسجل تجربته عبر الكتابة بالعامية, فتبدو القصيدة وكأنها ترجمة شكلية لقصيدة فصحى خالية من الأثر الذى يحدثه شعر العامية أو شعر الفصحى لدى القارئ, فلا هى قصيدة عامية حقيقية ولا هى قصيدة فصحى, بل هى من الأساس فاقدة للحساسية الشعرية .
وهناك فرق كبير بين حشد النصّ الشعرى العامى بالتراكيب والمفردات الفصيحة القائمة على جزالة اللفظ دون ضرورة فنية تتطلب ذلك, ممّا ينتج عنه فقدان الطابع العامى للنصّ وانفصال وتفككك بنائه اللغوى, وبين قدرة الشاعر على أن يوظّف فى قصيدته مفردات وتراكيب فصيحة غير متداولة فى العامية, ويدمجها فى لغة النصّ بحيث تبدو كل مفرداته اللغوية نسيج واحد ولا يفقد النصّ طابعه التعبيرى العامى, وهذا الدمج الواعى لمفردات فصيحة فى النص العامى يُعدّ أسلوبا جماليا من أساليب صياغة الشعر العامى له ضرورته الفنية, فالشاعر العامى اٍمّا أن يصوغ نصّه بالعامية الدراجة دون أن يستخدم مفردات فصيحة, واٍما أن يوظف فى نصه الشعرى العامى مفردات وتراكيب فصيحة متسقة ومنسجمة مع لغة النص العامى وهذا التوجه الفنى كان موجودا منذ القدم فى تراث الشعر العامى, فقد كان الشاعر والزجال خلف الغبارى الذى عاش فى القرن الثامن الهجرى يدمج مفردات وتراكيب فصيحة غير متداولة فى العامية ببراعة فنية فى أزجاله دون أن يؤثر ذلك على سلالة وعذوبة تلك الأزجال, حيث قال خلف الغبارى فى أحد تلك الأزجال :
ومن أساءْ لكْ كُنْ انت محسن واستعمل الصبر فهو أنفع
وانظر لجذع النخيل فى رُوُضُه بحمل تَمْرُه أزهرْ وأينعْ
اٍذا رجمته بْحجر يجود لك بالتمر حتى تاكل وتشبع
قمنا ضربنا مثل وقلنا كان ليه بتحمل دى الذل كله
تجود بِتَمْرَك لِمِن أساء لك قال كل ماهو يعمل بأصله
الشطر الثانى فى هذا المقطع الزجلى لخلف الغبارى تغلب عليه المفردات الفصيحة مثل "انظر لجذع النخيل", و"رُوُضه", و"أزهر وأينع", واستطاع خلف الغبارى ببراعة أن يوظف هذه المفردات فى نسيج النصّ الزجلى, دون حدوث أى انفصال فى لغة النصّ
ومثال آخر من الشعر العامى الحديث على توظيف ودمج مفردات فصيحة غير متداولة فى العامية فى نص شعرى عامى مع الحفاظ على الطابع العامى للنصّ قول الشاعر فؤاد حداد فى قصيدة "الاستغفار" :
يستحيل ان كنت ماشى فْ نور
اٍن ضِلّك يتمحى بالغصب
الحكم مسلوقه فى المدرسة
تستوى فْ أول ساعات الحرب
بُص تحتك يا أسير الأسى
التراب بيغربل اللى اتنسى
والجناين تبعد المكنسة
والعرب تحلم بماءِ عذْبْ
لا تَعُد أبدا لتلكَ الأه
اٍنها الشكوى لغير الله
فى قول الشاعر فؤاد حداد "والعرب تحلم بماء عذب" نجد أنه قام باستخدام كلمة "ماء" الفصيحة بدلا من كلمة "مَيَّه" العامية المصرية, وقام باٍعراب وتنوين كلمة ماء المجرورة بحرف الباء وذلك لسببين : الأول منهما يتعلق برغبة الشاعر فى استقامة الاٍيقاع الموسيقى لهذا السطر الشعرى مع السطر السابق والسطر اللاحق, والسبب الثانى هو ما يحمله التركيب اللغوى "ماء عذب" من دلالات واٍيحاءات فى وعى وتراث الذاكرة العربية منذ أقدم العصور, ونلاحظ أيضا أن السطر قبل الأخير فى المقطع السابق جاءت كل مفرداته فصيحة "لا تعد أبدا لتلك الآه", والسطر الشعرى الأخير يمكن أن يُنطق فصحى أو عامية, وجاءا هذان السطران بهذا الشكل ليعبرا عن نبرة صوت الحكيم الذى يقدم وعظا يضُمّن فيه مفردات وتراكيب فصيحة ذات دلالة دينية, وقد جاء توظيف المفردات والأساليب الفصيحة متسقا من حيث البناء ومنسجما من حيث الدلالة مع لغة النص الشعرى العامى


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ ابن الأثير ـ المثل السائر فى أدب الكاتب والشاعرـ تقديم د. أحمد الحوفى ود. بدوى طبانة ـ دار نهضة مصر ـ الفجالة ج4 ص 7
2ـ كمال أبو ديب ـ فى الشعرية ـ مؤسسة الأبحاث العربية ـ بيروت ط1 1987م ص 213
مقتطف من الفصل الثانى من كتابى النقدى "الشعر العامى العربي.. وقضايا الشكل والتاريخ والتدوين" _ تحت الطبع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى