د. مازن الشريف - الأمن الثقافي المعنى وحتمية الحاجة

مقدّمة:
مثَّل الأمن جوهرا إنسانيا حضاريا منذ بدايات اجتماع البشر في قبائل ثم مدن وصولا إلى الدول، بل إن له قيمة حتى في التكوينات الأسرية الأولى، وله ارتباط بالصبغة الفردية، وامتداد إلى عالم الحيوان وإلى الكون كله، فالأوزون طبقة لتأمين الأرض، والشمس والمطر من مؤمنات الحياة لمخلوقات الكوكب، وفي الكون نظم مناعة وحماية من الذرة إلى المجرة، وفي الجسم أمثال ذلك، وللحيوانات على اختلافها سبل لتأمين ذواتها وحيواتها، من قوة ومخالب وقدرة دفاع، إلى سرعة وخصائص كالطيران ونفاذ البصر والقدرة على تغيير اللون ومشابهة أشكال أخرى مما يوجد لدى كائنات بحرية خاصة وبرية ايضا، وهو ما تعلم منه معلموا فنون الحرب في فنون الخداع والتمويه والاختفاء، وتمت الاستفادة منه في مجال تصنيع المقاتلات ونظم الحماية والاختراق.
كل هذا الترابط يتعلق بمفهوم القدرة على التأمين والمنعة الذاتية، والقدرة في حالات الحرب على اختراق تأمينات العدو، ومن هنا نشات علوم كثيرة تدرس آليات التطوير والنجاعة الأمنية، في ارتباط بين العلوم الاستراتيجية والتطويرات التكنولوجية.
وبالرجوع لأصل الكلمة المعجمي، فإن الأمن يرد بمعنى “الطمأنينة”، فـ”أَمِنَ الرَّجُلُ : اِطْمَأَنَّ وَلَمْ يَخَفْ”، و”أَمِنَ البَلَدُ : اِطْمَأَنَّ أَهْلُهُ”.
فالأمن قرين الأمان، وضدّ الفزع والهلع، وهو نظير السكينة وصنو الطُّمأنينة وثمر الحفاظة والعناية والمنعة، ولعل الإيمان قمة الأمن الروحي والنفسي إذ هو طمأنينة التصديق والتوحيد، وفي القرآن الكريم نجد لكلمة أمن ذكرا كقوله سبحانه في مشهد نبي الله يعقوب وبنيه في سورة يوسف عليه السلام “قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ ۖ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)”.
ولقد منّ الله سبحانه وتعالى على قريش بالأمن الذي أنعم عليه به: “لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)”. فقد آلف بينهم وطمأنهم في رحلة الشتاء والصيف، فأطعمهم من جوع ومسغبة، وآمنهم من خوف وفزع، وفي هذه السورة بيّنة عن الأمن عامة وعن ترابطه بالبعد الاقتصادي وما كان بين المجالين من ترابطات كثيرة.
يعرّف علم الاجتماع المجتمع بأنه مجموعة من الناس تعيش في رقعة جغرافية محددة على امتداد زمني معين مع حد أدنى من الاكتفاء الذاتي، وهنا تكون الثقافة مزيجا بين حركة أولئك البشر مع ذواتهم وتفاعلهم مع ما حولهم وفعلهم في المكان وتراكم تجاربهم عبر الزمان، وفي كل هذا ضمن حد من الاكتفاء الاقتصادي الذي يستوجب أرضا صالحة للزراعة وماشية وصناعة أو حِرفا، ولكن كل هذا ناتج أمرين حتميين ضروريّين هما الأمن الذاتي الداخلي، والأمن الخارجي، وطِلبة قاصديْن ناقضيْن مدمّريْن: استشراء فساد وطغيان يفزع الناس ويمنع عنهم ما كانوا فيه من طُمأنينة ويزعزع الأمن الداخلي كتغوّل اللصوص والفُتّاك أو حاكم ظالم كالملك الغاصب في قصة أصحاب السفينة التي خرقها الخضر إذ تبعه موسى ليعلّمه: “أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) “. لأن ترويع الناس وافتكاك أملاكهم واضطهادهم مهلك للدول والمجتمعات، وكذلك الفساد الأخلاقي والعبث هدّامان لا يبقيان ولا يذران، وشواهد ذلك كثيرة، ولنا في كتاب الله نماذج كقوم شعيب المفسدين: ” وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)” وقوم هود الجبّارين: “كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)”
وهذا مجلبة للمدمر الخارجي: سواء أكان عدوا متربّصا يطمع في الثروات، وكم كان الغزو بين القبائل وسيلة للسطو والتكسّب، أو ما كان بين المدن كحرب طروادة وغيرها، وصولا للدول فالمطامع أم الحروب للتوسّع والسيطرة ونهب الدول للدول، وهو أمر سارٍ إلى اليوم، أو بعقاب سماوي كما حدث للمؤتفكات والقرى كعاد وثمود ومدين وسدوم وعمورية وفرعون والنمرود.
وإن دور المصلحين حتمي في هذه الأطر كلها، لتذكير الناس بنعم الخالق عليهم، وبقيم الأخلاق والمروءة والخير، وبما يجب عليهم تجاه بعضهم، وبما يتوجب عليهم اتقاء الفتن والشرور ودرءا للمفاسد وردّا للشبهات ودفعا للمظالم ووقاية من العدو وضربا على أيدي المفسدين، وحين ننظر في سير المصلحين والأنبياء والمرسلين نجد لهم رسالة موحدة جامعة في الدعوة والتبيان، فنبي الله شعيب قال لقوهم بعد نقدهم وكشف ما هم فيه من باطل في الآيات سابقة الذكر: “بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ۖ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)” .
وكذلك نبي الله هود لقومه:”فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)”
هذا الدور الإرشادي النبوي، والذي انبنى عليه العمل الإصلاحي الإنساني، هو جوهر قسم أمني مهم، إذ أن الأمن لم يقتصر على السلاح والعُدّة، لأن سور الصين العظيم كان يحتاج حارسا أمينا، لأن الحارس الفاسد العابث الساهي، سيترك الحراسة والحذر ولن يفيد السور، والحارس المرتشي الفاسد، سيبيع المفاتيح لكل من يدفع أكثر، وكم من مدينة سقطت لغباء من يحرسها كطروداة وأهلها المخدوعين بالحصان الخشبي، أو لخسة ودناءة من يحرسها، فسقوط قرطاج العظيمة كان لخيانة التجار للقائد العظيم حنبعل.
وعليه كان الحديث عن الأمن الشامل بكل أقسامه: أمن الاقتصاد وتأمينه، وأمن المياه والأمن الغذائي والصحي والقومي، أما ما تعلق بالوعظ والفكر والارشاد والقيم، فهو باب الأمن الثقافي، وأعتقد أنه جوهر الأمن كله.

مفهوم الأمن الشامل: إن مصطلح الأمر الشامل هو مصطلح معاصر، لكنّه توصيف لقضية أصيلة قديمة قِدم الإنسان والكون نفسه، فالنّاظر إلى الزهرة وأريجها ولونها النّضير، يمكنه أن يرى ما للأرض من أثر، وصلاح التّربة، وما تهب الطبيعة من مغذّيات وأسمدة، فذلك من أسرار ينع الزّهرة، وكذا الهواء النّقيّ، والماء الزّلال، وأشعّة الشمس النافعة، والتوازن الأيكولوجي، وحماية تلك الزّهرة من الأشعّة المُتلفة، والحرارة الفائقة، والسموم في الماء أو الهواء أو التراب، ومن يد عابثة أو قدوم تدوس أو دابّة تتخذها كلأً، وما لتلك الزّهرة من أمد حياة وتوازن تركيبها الكيميائي الداخلي وتناغم كل فرع فيها وجزء منها، فللورق دوره وللساق والبتَلة والوريقات دور كبير وهام.
ولو أن ذلك التوازن انخرم، أو تلك التربة غلب عليها الملح كالسباخ أو أحرقها القحط وانحبس عنها المطر وجفّ معين الماء وكثرت السموم وفسد الهواء واختفت الشمس زمنا أو عاثت الأيدي وداست الأقدام أو انتشرت الأنعام ترعى لكان مصير تلك الزهرة الذبول أو الموت أو الانقصاف.
وما صحّ على الزهرة يصحّ على الأفراد والمجتعات والدول: إنه توازن عظيم بين مختلف أقسام الحياة، فلابد من أمن لخوف وطعام لجوع، ومن حماية للجسم والذات، والمدن والمجتمعات، كما هو مقرر في مقاصد الشريعة وفي قوانين ودساتير الدول، ومنظومة الحماية المتكاملة هي منظومة الأمن الشامل:
التربة هي المجتمع نفسه وأمنه. وحين تكون تربة المجتمع صالحة تصلح الأسر ويصلح الناس، وكذا حين تكون تربة الأسرة صالحة يصلح الأفراد. وحين تفسد التربة يكون الفساد والانحلال وما يؤدي إليه من صنوف الخراب والتطرف والارهاب وكل أدواء المجتمعات وأمراضها.
والماء هو الاقتصاد والصحة وأمنهما، فالرخاء الاقتصادي والتأمين والرعاية الصحية الجيدة ماء حياة المجتمعات والدول وأفرادها. وحين ينخرم الاقتصاد ويجفّ معينه وتنضب موارده أو يفسد بالسرقات والمفاسد، وحين تنعدم الرعاية الصحية وتنهار المؤسسات التي ترعى صحة الناس، فذلك باب بوار وكبير وشر مستطير.
والشمس هي القيادة الحكيمة، والطاقة المستديمة، وتأمين الطاقة للدولة وحسن القيادة والسياسة والحكمة في إدارة الثروات وحمايتها من العابثين واللصوص والطامعين، وتأمين المعلومات وتوفير الاستعلامات لذلك أمور ضرورية وحيوية لها مناطات الأمن السياسي والمخابراتي (الخارجي والداخلي) والطاقي والعسكري والشّرطي أو البوليسي.
أما نضارة الزهرة وأريجها: فتلك قيم الأفراد والمجتمعات، روحانيتها وثقافتها، فنّها وفكرها، إبداعها وأثرها الحضاري، عطرها الذي يصل إلى العالم، ولونها الزّاهي الذي يسر الناظرين ويجلب الزائرين للسياحة والتعارف، وهذا فيه ما فيه من الأمن العقائدي والروحي، إلى الأمن الثقافي والفكري وما يحيط به من أمن سياحي وتأمين للآثار والفنون وحمايتها ورعايتها وتطوير ما يمكن تطويره دون انبتات يقطع مع الأصل أو انغلاق ينحبس عن العالم ويلغي التفاعل والتثاقف.
إن ما ذكرنا هنا صورة أدبية للأمن الشامل، والأمن الثقافي ضمن هذا النسيج هو كاللون والأريج للزهرة، فهل يمكن أن نتصور زهرة دون لون زاهٍ وأريج فوّاح، وكذلك لا يمكن تصور مجتمع أو حضارة دون ثقافة وفكر وإبداع، والأمن الثقافي هو ما يحمي ذلك وما يكتنفه ويدرء عنه ويطوّره.
معنى الثقافة: تكلّم الفلاسفة عن الثقافة، وأسهب في الكلام عنها علماء الإناسة (الانتروبولوجيا) والمهتمون بعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم نفس الفن، وكذلك أهل الفكر والأدب والفنون بأنواعها.
وربط بعضهم الثقافة بالتراث (المادي واللامادي)، في حين نظر آخرون إلى التنوع والفرادة والميزة التي تحدد ثقافة أمة أو شعب بعينه، ورأى آخرون الأمر ذاتيا في اتصال الثقافة عامة بالمثقّف خاصة، وكانت الأسئلة عن المثقّف الحقيقي ودوره والحاجة إليه….
أعتقد أن الثقافة نسيج متكامل: تنطلق من الذات إلى العالم، وتتصل من العالم إلى الذات، فما تنتجه الذات وتكتسبه هو ثقافة، وما ينتجه العالم ويكسبه هو ثقافة أيضا، فالثقافة فعل جماعي حينا: كالرقص لدى الشعوب، والمعمار ومبانيه وصنوفه، والموسيقى وأنواعها ، والملابس وألوانها والأطعمة وأصنافها.
وهي تتمايز بحيث من اليسير أن تميّز لباس ناسك من التيبت أو زعيم قبيلة افريقي أو رجل من الاسكيمو أو أحد سكان هذا البلد أو ذاك، ولو جئنا بصور العصور لكان لنا أن نقول أن هذه صورة لأكادي وتلك صورة لمغولي وتلك من القرن الأول وهاتيك من القرن العاشر قبل الميلاد.
وكذلك يمكن أن نميز موسيقى الغنكو الصيني أو الناي العربي أو العود الشرقي أو السيمفونيات لمووزار أو بيتهوفن أو موسيقى القوالي في الهند وباكستان، ويمكن بيسر أن نعرف الطعام الهندي أو الشامي أو الإيطالي.
هذا التمايز، ولئن حاولت العولمة القضاء عليه بخلق نموذج معلّب ونمطي وموحّد، فإنه روح الثقافة وجوهرها: تراكم التجارب حتى أصبحت الثقافة الصينية هي الثقافة الصينية بكل تفاصيلها، والثقافة العربية هي الثقافة العربية بكل تفاصيلها.
أما عمل الذات المثقفة فهو في البحث والاطلاع والدّراسة والقراءة والتأليف والتوليف بين الأفكار والربط والمنهجة والمنطق والاضافة والتطوير والاثراء والابداع، هو مزيج معقد من التفاعلات ضمن كيمياء الثقافة. وهو عمل حيوي ومهم لكل الأمم: فالمبدعون في جميع المجالات هم من يصنعون تميز الدول ونموّها: حركة في عالم العلم كتلك التي قام بها نيوتن أو آنيشتاين واضرابهما من أهل العلم حركت الانسانية آلاف السنوات للأمام وقلبت نمطية العالم. وكذا كانت الحركة الربانية المحمدية قفزة نوعية في التاريخ البشري وهي أساس ما بلغه العالم من تطور ضمن تثاقف واستثمار الغرب لما بلغه العلماء المسلمون من تطورات واكتشافات أخرجت الغرب من عصور الظلام التي غاص فيها العرب للأسف ولم يغادروها بعد.
وبين فسيفساء الثقافة البشرية بعناوينها الحضارية العامة، وكيمياء الثقافة الذاتية بتفاصيلها الخاصة، تمتد الثقافة بعمقها في التاريخ والجغرافيا، وفي الناس بأحلامهم وأفكارهم ورؤاهم، وفي المجتمعات والشعوب والدول.
ولكن السؤال المصيري في هذا كله: هل يمكن لمن يفهم طبيعة الثقافة ويعلم خطورتها وقيمتها، ان يتلاعب بها، بحيث يوجّهها كما يريد، أو يجتثّها، أو يُعمل معاوله تنقيبا في ما شذّ داخلها وما اعتراها من مرض فيعيد إحياءه، وينشب مخالبه فيما نفع منها فيعمد إلى خنقه وتزييفه وتمييعه، ويغلق مساراتها الحيوية فيطغى عليها الظلام، أو يمزق شرايينها فيسمّمها الانحلال واللاقيمة، أو يحنّطها ويوجد ثقافة صفيحية خشبية تسري على الكل حتى يبدو الناس كأخشاب نُحتت بشكل واحد؟
إن الإجابة عن هذا السؤال هي ما يحدد طبيعة الأمن الثقافي ودوره، وإن مشهدا واحدا يمكن أن يترجم كل ذلك: تحطيم تنظيم داعش الإرهابي لمتحف الموصل ومدينة نمرود التاريخية في العراق.

الأمن الثقافي: من المفهوم إلى المفاهيم المضادة:
شاهد العالم كله سنة 2015 مشهدا مروّعا: مجموعة من الدواعش يدمرون تماثيل وآثارا تعود لأكثر من ألفين وخمسمائة سنة بمتحف مدينة الموصل التي سيطروا عليها، تماثيل وآثار تعود للامبراطورية الآشورية العظيمة، فآشور التي نشأت سنة 2500 قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين، وتكونت منها الامبراطورية الأكادية، ثم الامبراطورية الاشورية الوسطى (من القرن الرابع عشر إلى القرن العاشر قبل الميلاد)، ثم الامبراطورية الآشورية الحديثة التي امتدت من سنة 934 إلى سنة 609 قبل الميلاد، وشكلت النيو أقوى قوة في العالم حينها ونافست بابل وأورارتو وعيلام ومصر القديمة. كل ذلك التاريخ العظيم صمد أمام أعاصير الزمن كلها، وأمام الغزاة أجمعين، ولم تحطمه سنابك خيل المغول ولا قورش ولا الفاتحون، ولكن دمّره مع مدينة نمرود وما تحويه من معمار فريد، شباب معظمه عربي مسلم، وبعض المتأسملين من الدول الغربية، ليس لأنه لهم في ذلك مكسبا، بل لأن أمنهم الثقافي (والعقائدي والنفسي والروحي) تم اختراقه وتلويثه: فدمر كنوز حضارة هم منها بأديهم وهم يكبّرون مبتهجين، وحطّموا ذلك الإرث العظيم الذي ينتمون إليه جينيا وهم يرون أنهم يدمّرون الاصنام والاوثان ويجاهدون في سبيل الله، وهم على شاكلة واحدة وقالب واحد: نموذج متطور لتطبيق نظرية صناعة ثقافة خشبية ونماذج معدنية من البشر، ونموذج للتنقيب في لوثات من شذ في التاريخ الاسلامي من أزارقة خوارج وأضرابهم، وتكرار لذلك بأسلوب اكثر دناءة ووحشية. والصور كثيرة لا يسعها المجال، لكن ما ذكرناه كاف لإيقاظ الوعي العام لدى أمتنا خاصة ولدى الانسانية عامة: إذ أن نفس المنظومة ضربت في أصقاع الارض كلها، ونفس المخطط تم تطبيقه بجرعات مختلفة متفاوته، بنفس المحرِّكين ونفس المحرَّكين.
إن الامن الثقافي حيوي وهام جدا، والعبث به يؤدي إلى مخاطر على الأمن المجتمعي والوطني والقومي والدولي، وتركه لأيدي العابثين ومخابر المخابرات والمنظمات التي تهتم فقط بنهب الثروات وتدمير الدول عبر توظيف التصحر الثقافي والانحباس المعرفي والانخرام الروحي وانعدام التوازن النفسي والمجتمعي.
إن الثقافة المؤمّنة، هي الثقافة التي يؤمن أصحابها بها، ويعتنون بكل تفاصيلها، فيبحثون عن الأصول تحقيقا وتوثيقا، ويغذّون الفروع تطويرا وتثقافا مع العالم والفكر الانساني ككل، ويولون للمثقف الفعلي عناية ورعاية، ويزرعون في نظم التربية بذور القيوم والثقافة الهادفة، لأن الحرب مع ومن ثقافة الظلام والموت، وثقافة الانحلال والعدم، وبينهما، (ولئن ظلمنا مصطلح الثقافة بهذين الصنفين ولكن لضرورة الوسم وتبيان التوصيف والاسم)تطرفات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وكلها تهدم ولا تبني، وتخدم العدو ولا تخدم القضية.
الأمن الثقافي واجب مصيري، وليس مجرد ترف فكري، وما الارهاب إلا من ثمار التفكك الثقافي والرداءة والعقم والتحجّر، فالفكر نهر يفسد ماؤه ويغدو آسنا حين ينحبس وينغلق، أو يضيع فُرُطا حين يشذّ وينبتّ، وما موجات الشذوذ الجنسي والنفسي والاخلاقي، وانتشار الالحادية وعبادة الشيطان، إلا وجه آخر يتغذى ويغذي التطرف الداعشي، ولهذا مبررات عقائدية الظن تموّه فهم الآيات وتنمّط التفاسير وتكذب على الله ورسوله، ولذاك مبررات فلسفية وادعاءات للحرية والتحرر ومواكبة العصر وهي كاذبة آثمة.
إن الحاجة للأمن الثقافي حتمية لا ظنية، وكلية لا نسبية، فالأمم التي فرطت في ثقافاتها زالت وصار أفرادها جزءا من ثقافات أخرى، فثقافة الانكا التي كانت عملاقا حضاريا ذابت كما ذابت ثقافات الهنود الحمر في غبار الغرب الامريكي ومسدسات الكوبوي، ورغم محاولات من بقي من الهنود الحمر اليوم فإن تلك الثقافة الكبيرة غابت تماما.
وضمن المنظومة التشابكية للأمن الشامل، يكون الأمن الثقافي جوهرة وجوهرا، فالارهاب يبدأ من فكرة، تلك الفكرة تتحول إلى عقيدة، وتلك العقيدة ينتج عنها كل الخراب والدمار والقتل.
وكذلك المفاسد كلها تنبع من عادة أو شذوذ يتكاثف ويتكاتف ليبصبح ثقافة (فيروس ثقافي يسرق الوجه وينخر الثقافة الحقيقية)، فنسمع حينها ونرى ثقافة السرقة وثقافة المحسوبية وثقافة انعدام القيم والثوابت.
كل هذا يحتاج ثورة حقيقية يقوم بها المثقفون والمفكرون، ولها مجالات كثيرة شاملة: نحتاج إلى القصيدة الحقيقية فقد كثرت القصائد المزيفة ضمن ضرب الشعر العربي إذ الكلمة أقوى من الرصاصة.
ونحتاج للفن الهادف فقد خنق أرواح الناس ما يُنثر من عفن يلتحف بلحاف الفن.
ونحتاج للسينما الجادة الابداعية والمسرح الهادف المبدع، ولكل نبض فكري وثقافي راق.

الخاتمة: ختاما: رمنا في هذه الأسطر أن نحلل معنى الأمن الثقافي والحاجة إليه ومخاطر التفريط فيه، بعد أن عبرنا بتعريف الأمن عامة والأمن الشامل خاصة والثقافة بشكل مخصوص والأمن الثقافي بصورة خاصة، وهي نظرة ورؤية تحتاج لمزيد التعميق والتطوير والنقد، ولكنها رؤية جادة في نظري بعد تجربة في مجالات الثقافة وخبرات في المجالات الأمنية وتحليل ومواكبة لما جد في العالم العربي خاصة بعد ما سمي بالربيع العربي، وأيضا نظر في التاريخ، لأن التاريخ كما قال ابن خلدون: “في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، وفي باطنه نظر وتحقيق” .

سوسة ‏20‏-05‏-2017‏



  • Like
التفاعلات: محمد أحمد مخلوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى