أنس الرشيد - الخَلاصُ كبنيةٍ زئبقيةٍ تُحدد مواقع النفس.

والنفسُ هُنا تلك التي يبتكرها الجذرُ الأنثوي فينا. فالذكرُ يحمل كروموسومًا أنثويا (x) بالإضافة للكروموسوم الذكوري (y). أما الأنثى فهي صافية لا تحمل إلا الكروموسوم (x). لهذا فإن الأنثى هي الأصل، ولهذا أيضا فإن المرأة نموذج لتأمل وسائل خلاصها من جهة واقعها الذي فرض عليها القهر المادّي. لننظر في واقعها الذي يشرِح غيره، فلا حرية للذكر إلا بتحرر الأنثى نفسها. وهنا المفارقة.

ويمكن أن نفرّع هذا القهر إلى: ظلم استعباديُّ، وظلم عام. فـأما الظلم الاستعبادي فيتفرع إلى: عبودية واقعية بمعنى جارية لسيّد فعليا كما كان يحصل في الأزمنة السابقة. وعبودية قانونية بمعنى وقوعها تحت عبودية ذكر بحكم الدين أو القوانين أو العادات أو كل ذلك. وأما الظلم العام فبمعنى قد تكون امرأة سيدة أو ذات مال وجاه، لكن واقع الحال يجعل من الذكر يظلمها –سواء الذي من طبقتها أو مشرعو القوانين كمجموعات- فاللغة والشرائع والحياة المادية تخدمه أكثر منها.

فمن خلالِ سُبل الخلاص قد نُشير إلى مكامن التحرر في النفس، فالمرأة
في الأنواع التي أوردتُها قد تصيرُ ثائرةً، على مجتمعها أو خانعة، فإن كانت ثائرة فإما أن تثور على المادة بذات المادة، يعني أن تسعى إلى أن تتخلص من العبودية المادية بأنْ يكونَ لها مكانا مساويًا في هذا الواقع المادي، أو تكون ثائرة على المادة بتفسير واقعي آخر، يثور على معاني المادية التي فرضها الذكر. كمعنى أن تسعى إلى التحرر باطنيا، وهذا التحرر ينقلها من العالم المادي الذي فرضه الذكر إلى عالمٍ مادي آخر لكنه من تاريخ المرأة، وسيكون لهذا العالم شأن يحوّل الذكر إلى كائن آخر في طباعِه. ويمكن أن نجد في نماذجنا طريقين، الأول من خلال تعذيب الجسد وقهره، والثاني من خلال العشق بمفهومه المطلق. وهذا الأخير هو الحرية المطلقة التي تنطلق به المرأة إلى سماوات العشق، فإن أحبت رجلا، فتنظر له على أنه قطرة سماوية جاءت من خارج هذه العبودية المادية المُقيمة ضمن تاريخ الذكر وقيوده المادية.

ولنأخذ مثالا بــ (رابعة العدوية)، فهي تخلصت من عبودية القيد إلى العشق، لهذا فإن رابعة تنطبق عليها (عبودية واقعية) على اعتبار الرواية التي تقول: بأنها كانت أَمَةً مستضعفة، لهذا استخدمت (نوافذ العشق) للتخلص؛ فهي رأت من خلال نوافذ روحها الخارقة بأنَّ بعض العشق له تأملاته الميتافيزيقية، النابعة من الذات التي هي الهمزة الواصلة بين عالم المعقولات والمثل وعالم المحسوسات والمواد. لكنَّ هذا العشق لم يستطع النفاذ في أفعال الناس، بل كَمُنَ في ذواتٍ لا يُعرف كنهها، والحياة لا تساعد على خروجه، لهذا لجأت رابعة إلى عشق الله؛ بكونه –أي العشق-هو المُخلّص الحقيقي من آلام المادة. بل مما يُفسِّر اتجاه رابعة -بعد أن اعتقها سيدها-إلى الغناء والطرب، أنها رأتْ أنَّ النغمَ شيءٌ من تلك الذات العارفة، وارتضتْ أن تجعل مصدرها (الله) حيث إن الله لا يعني –عندها-إلا العشق نفسه، لهذا اتخذت الغناء طريقا أوليا إلى العشق، فلمّا رأت أن أصحاب الظاهر المُستَعْبِدِيْن يغنون ويسمعون الغناء، ولا يؤثر في ذواتهم، أي لا ينقلهم من حالة الكُرْه إلى حالة العشق، علمتْ أنَّ العشق لحظة اتّحاد كامل مع الذات العارفة؛ لهذا تركته إلى عزلتها الأخيرة، وهي تقول في لحظة العشق:

أحبك حبين حب الهوى/ وحبا لأنك أهل لذاكا

فأما الذي هو حب الهوى/ فشغلي بذكرك عمن سواكا

وأما الذي أنت أهل له/ فكشفك للحجب حتى أراكا

فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي/ ولكن لك الحمد في ذا وذاكا



أما المرأة التي ستنتقل من الظاهر بتعذيب جسدها، فهذه تتجلى في الأفعال السادية والمازوخية. وهذه المرأة قد تتلذذ بمزيد من تعذيب جسدها لكنَّه تلذّذ مزدوج، فهو خروج من عبودية ظاهرية إلى عبودية باطنية، إلا أن الذي يجمع بينهما هو الاعتقاد بأنَّ الذات العارفة تتحرر من خلال تعذيب الجسد، فهنا يجتمع العذاب واللذة. وقد يكون نموذج (أبي الشيص الخزاعي)، يقرب هذه الصورة في أبياته الشهيرة (وقف الهوى بي حيث أنتِ) حين أسس نسقا لمعنى (طلب الهوان) دون أن يكون هذا التأسيس كسرا للنسق الفحولي؛ إذ إن الأبيات ليست متجردة للآخر، بل فيها لذة تعذيب من قِبل (آخرٍ ما) = (وأهنتيني فأهنتُ نفسي صاغرا/ ما من يهون عليك ممن يكرم). التفاني في الآخر وللآخر، لن يكون بهذا التعبير، إذ لن يَتَخّيّل المغاير –مُحِب الآخر-أن تقع إهانة، لا منه، ولا من الآخر، وإلا لن تكون تفانيا. لهذا هو يقول: ((أشبهتِ أعدائي)) = من خلال الإهانة إما ضربا جسديا أو ألما نفسيا، وتخرج متجلية في اللذة الجنسية، من خلال التعذيب للآخر (السادية) أو من خلال تعذيب النفس (المازوخية). ((فصرتُ أحبهم)) المحبة هنا محبة لذة جنسية؛ لتشابه فعل الآخر بفعل الأعداء من خلال الضرب والإهانة ((إذ كان حظي منكِ حظي منهم)).

وأما رابعة العدوية، فهي شبيهةٌ بالقديسة (تريزا) ومن أوجه الشبه قولُ: " قيل لرباح: هل طالت بكَ الأيام والليالي بالشوق إلى لقاء الله؟ فسكت، فقالت رابعة: أنا –والله-نَعَم" وتقول القديسة تريزا:

" أحيا دون أن أحيا. في نفسي وأنتظرُ حياةً رفيعة. حتى إني أموتُ لأني لا أموتُ. إني ليزيد في كلفي أن أرى إلهي لديّ سجينا حتى إني لأموت لأني لا أموت. أُنْظرْ كيف أذوبُ، شوقا إلى رؤياك، ولا طاقة لي على الحياة دونك حتى إني لأموت لأنني لا أموت. فمتى يتيسر لي أن أقول قولا فصْل: إني أموت لأنني لا أموت".

فها هي تريزا ترى في حياتها موت، لأنها مشتاقة لله (عشيقها) وليس لها طاقة على الحياة بدونه.

قد يردُ سؤالٌ هنا عن الفرق بين العشق من طرفين (تعاشق) وبين العشق من طرف واحد، من حيث الاستجابة للطرف الثاني؟ أي قد يُسأل: فيما يتعلق بنموذج أبي الشيص الخزاعي ألا يُعَدّ مثل قول رابعة العدوية لله: " وعزتك لو طردتني عن بابك، ما برحتُ عنك لما وقع في قلبي من محبتك"؟ بمعنى آخر: ألا يفترض أن يكون العاشق الحقيقي راضٍ بما يصدر عن عشيقه حتى لو كان ذلا؟

وأقول: إن ثمة فرق بين إرادة الذل من العشيق وبين تقبل الذل على أمل أن يبادله العشيق عشقه، أو يعطف عليه أو يرحمه أو يقبل أن يسكن بجواره أو غيرها. فنموذج أبي الشيص هو من النوع الأول، إرادة الذل، وشرحي لأبياته أوضحت ذلك؛ ولهذا لا ينطبق عليه قول رابعة، وقول المتصوفة عموما عندما سموا تقبل الذل من الحبيب (حب الحب).

وأما النموذج الثاني فهي (عائشة التيمورية) وهي ممن ينطبق عليها (ظلم عام) إذ عائشة ابنة رئيس ديوان الخديوي، وزوجها حاكم في السودان، مما جعل حياتها في البلاط وسيداته، صاحبات المراتب الرفيعة، إلا أنَّ عائشةَ كانت تشعر بظلمٍ عامٍ، يشملها وهو إلزامها بالحجاب من قبل الذكر، لهذا لما تشوّقت للدوائر العلمية أو المحافل الأدبية حرمها حجابُها من الوصول إليها، فهي التي تقول: " وقد عاقني عن الفوز بهذا الأمل حجاب خيمة الإزار، ... لم يكن لي دخول محافل العلماء المتفقهين، فكم التهبَ صدري بنارِ شوقٍ إلى محافلهم اليوانع". إن عائشة –هنا-تقارن بين حالها وحال الذكر، الذي يقابلها في مستواها المعيشي، لهذا رأت أنها مظلومة بالنسبة له، لهذا ما كان ينقصها إلا محافل الذكور الأدبية، والمجالس العلمية، ولهذا سعت في التخلص من هذا التظلم بأن تشبّهت بالذكر، فسارت على نهجه في الغزل، تقول:

أشكو الغرام ويشتكي/ جفنٌ تعذب بالسهر

يا قلب حسبك ما جرى/ أحرقت جسمي بالشرر

رام الحبيب لك الضنى/ لم ذا، وأنت له مقر

لكن تعذيب الهوى/ ما للشجن منه مفر


وأول تشبُّهٍ بأنْ كررتْ ألفاظ الذكر في الغزل، واستخدمت معانيه في وصف الحب. بل حتى لما أرادت أن تصِفَ شِعْرَها قالت:

ما قلته إلا فكاهة ناطق/ يهوى بلاغة منطق وكتاب

وهذه الطريقة في الوصف سالت بها أحبارُ الشعراء الذكور، الذين يعتنون بظواهر المعاني، ويدّعون تملك منطق الأشياء في التلاعب بها لفظا، ومما يؤكد استخدام عائشة للنمط الشعري الذكوري هو حين كتبتْ كتابها النثري ( نتائج الأحوال) فقد عبأته بلغة المقامات، فأطنبت بالسجع، وفاضت بالكنايات، مع ضعف في الأسلوب لا يخفى، وذلك لأنها لم تحاول أن تحرر الذات العارفة التي بداخلها، ولم تستطع أن تكون ذكرا إلا بالتقليد الساذج، بل حتى نظرتها للرجل كانت ذكورية، فمشكلتها مع الرجل هي حين يبحث عن امرأة ذات مالٍ ليتزوجها؛ فإن هذا الفعل –كما تراهُ- يلغي كونه رجلا.

الازدواج الذي تعيشه عائشة ما بين مستوى معيشي عالٍ جدا، ومحاولة النظر لجذور المشكلات، أوقعاها في ضبابية لم تستطع أن تخرج منها، فلا هي التي أدركت مستواها، ولا هي التي نظرتْ إلى مستويات دُنيا ففهمتها. لهذا كان خلاصها من الظلم بأنْ أشبهت الرجل الذي يقود حياتها، وهي في ظاهر الأمر تزعم أنها تواجه الرجل، حين قالت: " فيا رجال أوطاننا، لم تركتموهنّ سدى؟ وقد سخرتم بأمرهن، وازدريتم باشتراكهنّ معكم بالأعمال، واستحسنتم انفرادكم في كل معنى، فانظروا عائد اللوم على من يعود". إنها هنا تعوّل على الرجل بأن يثور على نفسه، وهذا معنى عميق يدل على أنها ترى نفسها تحت الرجل وأقل منه، وفي داخلها إرادة التشبه به. والمفارقة أن هذه المقولة كانت في سياق ضرورة تعليم المرأة؛ إذ لو كانت امرأة تنتمي للنموذج الأول (عبودية واقعية) أو طرق الخلاص المرتبطة بــ (نوافذ العشق)؛ لما قالت: ( فيا رجال أوطاننا) لأنهن ثائرات على المُستَعبِد، بل يُعينوه على أن يُحرر نفسه هو من قيود من يستعبده في السلطة مثلا، فهو مكبل أيضا، وحريته من حريتها؛ إذ ازدراء الأنثى نابع من أعماق الذكر في إرادة أن يصدّق العقلُ أن الأنثى أداةً للتوليد والخدمة. ولكن عندما تتحرر الأنثى من هذه القيود بالثورة على الذكورية، فإنها تجعل من الذكر حُرا أيضا، وذلك بأن يفك من القيود التي كبّلت عقله ويديه فتجعله يفكر حرا ويعمل حرا ويعشق حرا، وينقد حرا، بل حتى تجعله يهتمّ بسمو الأخلاق، حتى تكون عادة له لأنه ليس له مدخل على الأنثى إلا أن يكون معشوقا، ومن ثم فهو يتخلق بأخلاق عليا، حتى تكون مع الوقت عاداته، ويتجمل أيضا في مظهره حتى يكون الجمال سمة له، لكن دون ذلك سيظل خسيسا في أخلاقه وقبيحا في تجمله، لأنه ليس محتاجا إلى تغيرهما فالأنثى تحت سلطته وقابض عليها. لكنه يعيش في خوف دائم من انقلاب الأنثى على سلطته، كما يخاف الحاكم المستبد من الشعب النقّاد الثائر، حتى وإن كان قويا، فيعيش الذكر تحت سلطان غيره الذي ينقذ له سُلْطَانه في السيطرة على الأنثى!

لهذا كله فإن الطريقة الشعرية التي لجأت بها عائشة إلى الله، تتسق مع شخصيتها؛ إذ هي نفسها الطريقة الخارجية الذكورية النابعة من كون الله إله الفواجع والمصائب، إله القوة التي أسسها الذكر وغرسها أرضية لتاريخه. تقول عائشة:

إن كان عصياني وسوء جنايتي/ عظيما وصرت مهددا بجزائي

فقضاء عفوك لا حدود لوسعه/ وعليه معتمدي وحسن رجائي

بحبيبك الهادي سألتك ذلتي/ لعلاج أمراض وجلب شفائي


_____
فهل لذلك الخلاص -المشير للذات العارفة التي هي خارج تاريخ الذكر-إشارة إلى إمكانية صناعة تاريخ موازٍ، يمحو آثار الذكورية، ويشق طريقا أخضر، تبدأ به الذات نسقها الجديد؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى