إسماعيل عيسى بكر - ليلتان أو خمسة أصابع مالحة

إلى الأصدقاء فعلاً... فضل ومحمد وعدنان وعبد الرزاق و.. كريم أيضاً.


"لم أر وطني جيداً, من قبل, مثلما رأيته وأنا في الطابق الثامن عشر في مصعد فندق الشيراتون..", قلت ذلك كمن يكتشف قارة, إذ لم يحدث, في الواقع, أن صعدت يوماً قمة جبل, كما لم يحدث أيضاً, في حياتي, أن نظرت ذات مرة للأشياء من علو شاهق كهذا, ولو حدث أن سألني أحد عن رأيي في كل ذلك لأجبته فوراً وبشيء من التواضع طبعاً"جربوا ذلك جميعاً يا أخوتي وسترون كم هو صغير وضيق عالمنا هذا, وكم هو جميل وخانق ونذل أيضاً...".
- قد لا يتوقف المصعد أبداً, قال عدنان ذلك ضاحكاً. فرددت في سري وجلاً "إلى أين سنصل إذاً؟..".
وأضفت بعد ذلك بشيء من الفرح "إلى كوكب آخر ربما.. آه.. إنه لشيء مدهش حقاً.. هيا انطلق أيها المصعد اللعين.. انطلق بقوة.. يا إلهي.. لا تتوقف..".
وانفتح الباب فوجدنا أنفسنا في صالة صغيرة عبارة عن حانة فاخرة, هادئة ونظيفة تتوزع فوق موائدها الفخمة القناني المستوردة, ويتناثر فوق مقاعدها المريحة بضعة أشخاص متأنقون في أبهة, يتبادلون الأنخاب في دعة وسلام. سال لعابي وكررت طويلاً "يا ابن العيساوي" متى سيتاح لك أن تتذوق قطرة واحدة من هذا وفي هذا المكان على الخصوص..".
قال فضل مندهشاً:
- ما أجمل هذا الشلال الكريستالي من الضوء الباهر..
كانت القاعة الكبيرة في الدور الأول تشع بالضوء المتدلي من السقف العالي بخيوط متألقة تشبه شلالاً من الكريستال حقاً يتحرك مثل ستارة من الحرير تداعيها نسمة ريح هادئة.
قلت مع نفسي "انه يشبه السلسبيل".
عندها حاولت أن أمسك, في خيالي, بأية صورة غائمة لأي امرأة غايرة أو عايزة وفشلت محاولتي حين لم تهبط في رأسي أية امرأة على الإطلاق.
عندئذ فكرت أن أجلب معي في المرة القادمة طفلتي الصغيرة ذات الشموع الثلاث لأحدثها بحماس عن بؤس العالم وحقارته من هذا المكان بالذات.
نفدت سجائرها الرخيصة, وكنت أعوض عطشي القاحل بالارتواء من ماء الفنادق اللذيذ, ولا أجرؤ في طلب أية وجبة طعام بائسة وفقيرة أو حتى فتات من خبز يابس وبارد خشية أن ينهرني "عبد الرزاق" بجملته المعهودة والتي يفاجئني بها دوماً كلما شعرت بالجوع "يا للرغبات الصغيرة!..".
حين وصلنا فندق "الرشيد" علق فضل على الرجل الطويل – أحسب أن طوله متران – الذي كان يقف خارج باب الفندق مرتدياً زياً تراثياً أصيلاً يمثل عصراً ذهبياً لهارون الرشيد على نحو مبتذل.
- في المرة الأولى التي رأيته فيها خلته تمثالاً فوقفت أتأمله صامتاً, ولم أفطن لذلك إلا حينما رمشت أهدابه فجفلت وحين تحرك عن مكانه تفصد عرقي خجلاً وعقدت المفاجئة لساني..".
قال عبد الرزاق وهو يلقي على الرجل نظرة أخيرة:
- يا لبؤسه في هذا الجو البارد, انه يؤدي دوره جيداً, دور التمثال...
تجولنا في ممرات الحدائق الفسيحة المرصوفة بالكونكريت الجذاب, تحف بها الأزهار والورود العابقة بأريج رائع, وشجيرات الآس الجميلة اليانعة, والأرض المعشوشبة في خضرتها الغامقة, وظلال المساء البارد, والنافورات البديعة برذاذها المنعش, والأحواض الزرق لمياه رقراقة تنسكب بسكون في جداول صغيرة مبنية من حجر أسود, لامع وثمين, ضيعني المكان فصحت بهم بصوت متهدج:
- في أي مكان نحن.. خارج البلاد!.. ارشدوني..
ضحكوا وأكملوا بقية حوارهم عن امرأة مجنونة وأشخاص أعرفهم من بعيد, وعن فضاءات الشعر غير المعلنة, والقصائد الخفية في جيوب سرية.
كنت أنشد بصوت خافت غير مسموع "بلادي.. بلادي.. بلادي.. لك حبي.. وفؤادي..".
وفي فندق "المنصور ميليا" رحنا نبحث عن شاعر صديق عله يدعونا لمائدة صغيرة تكفي في الأقل لدغدغة جماجمنا اليقظة عندها أعلن فضل:
- ستنتهي كل مشاكلنا بمجرد حصولنا على مبلغ..
قاطعه عدنان مبتسماً بارتياح:
- قريباً, ستكون بحوزة كل منا ما نود..
اطمئنوا....
قلت:- أن الله معنا...
لكننا بعد ذلك, أضعنا اطمئناننا عندما لم نعثر على صديقنا الشاعر.
حططنا الرحال في فندق "بابل" ولم نمكث فيه إلا بضع دقائق على أننا اكتشفنا جميعاً, أن "انكيدو" و "انليل" يملك كل منهما قاعات فسيحة مترفة فيها كل ما تشتهي الأنفس من طعام وشراب ومتعة كاملة, ولا يدخلها إلا من قرأ زيف التاريخ بدقة وصنع لنفسه تاريخاً عصرياً بأوراق سرية خاصة. وبلا تهذيب خرجت من فمي بصقة كبيرة وغاضبة استقرت كما لا يليق فوق السجاد الفاخر المفروش بعناية فوق البلاط الصقيل.
كنت في حقيقة الأمر أبصق فوق التاريخ الذي حفظنا جيداً أوراقه الصفر كل هذا العمر المرير.
- هل سمعتم بتسكع بنيوي؟..
وردد فضل:
- إنها ليلة منهجية
وعبد الرزاق قال بعد فترة صمت:
- احتفال مدهش.. ليلة بلا تاريخ.
ضحك عدنان وصاح:
- هذه جولة فريدة...
في تلك الليلة, كنا ستة أشخاص في ملهى. وعلى مائدة فارغة حتى من قطرة ماء, جلسنا مقهورين بوجوه جهمة قانطة, تتصالب نظراتنا في غرابة, فأمام أعيننا الذابلة كانت الأضواء البراقة الراعشة أو الخافتة تنهمر في تماوج رائع فوق خشبة المسرح الصغير على إيقاع موسيقى صاخبة تثير الغثيان كما لو أن أحدهم يمزق لك أحشاءك برعونة دون أن تبدي بالمقابل أية مقاومة. أكاد أخرج عن قنوطي لأمارس لعبة التريض بالهواء, أكاد أطير, لحظتها, لولا سأمي, يخجلني اضطرابي وقلقي.
وكنت أتلقى ضحكات النساء كالصفعات بالضبط, والهمسات التي كانت تنشق من أمكنة معتمة, لا أدري أي شيطان لعين دخل ذاكرتي تلك اللحظة فأعاد إليّ عيون زوجتي الصامتة في انتظارها الحجري لعودتي المشؤومة المتأخرة يحتويها بخوف عميق سكون حجرتنا الضيقة فوق السطح, وتذكرت كذلك أولئك الأحبة الذين يقفون الآن على السواتر بانتظار لحظة الموت المتربصة بفوهات البنادق.. رصاصة الرحمة.. أو طلقة الخلاص.. لهفة الروح الهاجعة في حلك ليل من زمهرير في عراء البراري, والوحشة, في ضياع أكيد, في أمل مدجج باليأس والريبة, وسمعت صوتاً يقول "تستفيق البنادق قبل العصافير" فداهمني جبل من حزن راح ينفل في رأسي عنوة فلم أجد خلاصاً, تلك الساعة, سوى التقيؤ في مرحاض.
كنا نحن الخمسة, في الليلة الأولى, كأصابع اليد الواحدة, لكن صديقنا الرسام, في الليلة التالية, صار كالإصبع السادس يبقى عادة مهملاً أثناء المصافحة, فكان عالمه (وجودياً) يبحث في جحيم الآخرين عن نقطة ضوء أو بقعة لون ليسقط عليها ظلال تمرده في تخطيطات غامضة بقلم أسود يتحرك بفوضى واندفاع فوق قماش المائدة الأبيض متناسياً في غمرة انشغاله المحتدم وقلقه الثمل ذلك القماش, ظناً منه انه يمارس طقس الرسم في تلك الآونة على الورق حتى أنني حين وكزته بحذر منبهاً إياه لما يحدث جفل بصدق وندت عنه آهة تعجب ثم قال بعد فوات الأوان:
- كنت أظنه ورقاً.
وسرعان ما أخفى العين الكبيرة المفتوحة, الذاهلة والمصوبة على وجوهنا بكفيه المتعبتين كما لو انه يلعب لعبة الاستغماء مع عين حقيقية. كنت أتأمل وجه الرسام في وقت كان فيه صوتي في الداخل يقول منفعلاً " ستظل ترسم ملامحك فوق كل الأشياء حتى تمحى ريشتك الغائصة بدمك, لكن ما جدوى كل ذلك, ففي النهاية لن تبصر شيئاً, فستظل ثمة بين أصابعك القوية ولوحاتك المحفورة بغبار الطفولة وتحت وسادتك الطافحة برطوبة الدمع, وبين عينيك المشتعلتين شبح عين كبيرة تترصد أنفاسك لتحبسها وتترقب سعالك – إن كان لك سعال يشبه سعالي – لتوصله إلى مقبرة المارقين, ثم تطاردك حتى تبتلعك وتتلصص عليك لتقطع لك الوريد حتى وأن هجرت عالمك, في قبضة تلك العين سيختلج تاريخك أمداً طويلاً قبل أن تنطفئ جذوته, كن حذراً يا صديقي فلا عيون بالإمكان أن ترسمها بعد الآن فكلها قاتلة, كلها مطفأة, نحن وحدنا في الضوء, تحت الشمس فما الفائدة, صيد سهل واقتناص أكيد, ما الفائدة قل لي بربك.. ما الفائدة.. ما الفائدة..".
كان آدم (1) في عزلته هناك بين مخطوطات أخرى لقصص مؤجلة تنتظر في صمت زمنها الذي قد لا يأتي أبداً, يشاكسني بضراوة مطالباً إياي بالصمود, حتى أنني من إحدى لحظات ارتفاع السكر في دمي لانفعالي بحضوره المفاجئ والغريب وجدت نفسي أمسك بمهاقه جيداً في محاولة للقضاء عليه والتخلص منه نهائياً وهددته بتمزيق كل أوراق الرواية (2) لكنه كان يرفع صوته في وجهي متحدياً, كاشفاً نذالتي "أنت لا تصلح للكتابة عن همي, عن احتراقي, عن خيط أملي الذي تقطعه كل مرة, يا سافل, دون أن تنجز أي شيء, أي شيء على الإطلاق. أو تحسب نفسك بارعاً؟ أنت أكبر كذاب ولا تستطيع أن تكشف حقيقة وجود كائن إنساني ينزف أمامك بألم منذ أكثر من ست سنين.. يا للمهزلة..".
تهالكت لاهثاً, وخارت ساقاي من تحتي, وانهارت كل قواي, وتخاذلت, أخيراً أمام آدم الطيب فهمست له بحزن "انتظرني يا آدم.. هذا زمن رديء ممنوع فيه البوح.. أنت كل ما لدي.. سأضع منك آدماً حقيقياً.. صدقني". إلا انه ظل يصيح بعمق "متى.. متى.. متى.. متى.. متى..".
قلت بصوت مسموع:
- متى؟
فالتفت الرسام مستفسراً:
- ماذا تقصد؟
أجبت في شرود وأنا أمزق ذاكرتي:
- متى ستنتهي هذه المهزلة؟
ضحك الرسام بطيبة قلب دون أن يتسنى له أن يعرف ماذا كنت أعني بالضبط.
كان عبد الرزاق يوزع علينا بين حين وآخر ابتسامات واهنة رغم إنها لطيفة وطيبة, وكان صمته يبدو لي باذخاً يفور مع اندهاشه المعلن وتوتره المضطرم الذي يحاول إخفاءه عنا باحتراس. كان يخبئ في بضع كلمات متلجلجة أو مبتورة سراً ينبجس من عيونه المحلقة في الفراغ لذلك اندهشنا جميعاً لقصيدته التي كتبها على قصاصات صغيرة فقد تجلى أمامنا همه الذي كان ينزفه طوال الوقت من بين الضلوع والذي أدى في نهاية الأمر إلى أن يصرخ عدنان في وجه فضل:
- لا تقرأ أي شيء فأنت بلا هم.
كان الألم الحقيقي لعبد الرزاق الذي يكشف عن شفافية روحه حين يكون ثمة جرس يرن في الغرفة المجاورة المغلقة دون أن يجرؤ أحد أو يبالي على رفع السماعة.
- ثمة إنسان في الطرف الآخر بحاجة إليك.. يناديك بشدة.. تلك هي المأساة.
كان يقول ذلك مندهشاً, ثم يردف في حزن:
- بعضهم لا يمنحني أية مبالاة.. دع الجرس يا عبد الرزاق يرن إلى ما لا نهاية.. هكذا يقول البعض.. تصور!!
كان فتى الجنوب يجلس بجانبي متألقاً باغترابه عن قريته النائمة في البعيد موشحاً إياها بقصائد كالقلائد اللؤلؤية في جيد امرأة ساحرة تستبدل بها أزمنة تاريخها الحافل بالنزوح والرحيل فكانت تصيح بالفتى تارة "يا أنت تمهل.. فالطفل مدلل (3).. وطوراً كانت تؤذيه فيصيح بها "إن لم أتوهج فأنا لست حراً.." فما بين حنينه القاتل وضياعه الجميل كان يزفر في روحي أوجاعه فأصرخ في هدأة الليل ومع انبلاج السحر "لا تؤذيه يا فاتن فهو صديقي..". هل كنا نحتفل سوية "لا هو.. أوهو.. ترللا.. ترللا لا.. ترللي.. ماريا.. يا ماريا.. يا من سوسحت القبطان والبحارة. عذاب.. أرق.. جرح.. وجع.. دمع يابس.. لا.. لا.. لا تحزن يا صديقي أن الله معنا.. ذاكرتي تضمحل, كوني له فرحاً, كرنفالاً.. لا تؤذيه يا فاتن, بكاؤه يضنيني..".
ومحمد, ذاك كان أوسمنا نحن الطالحين, جاهد جهاد الصحابة الأولين في انتزاع القهر المعرش في الصدور فأفلح على نحو مذهل بإثارة موجات فن الضحك المأتمي الذي يمسح الدمع الغليظ في المحاجر الرطبة, ذلك الضحك الذي يذكرني باحتباس الابتسامة ساعة الفرح, وفي آخرة الليل, حين خرجنا من الملهى, لم يكن لدينا ما نفعله سوى الحزن الذي راح كل منا يرسم خارطته كيفما يشاء بخطوط مختلفة, وألوان متناقضة, في القلب.. على الورق.. بالأصابع.. بالعيون.. في وطأة الرأس المخمور.. بالكلمات والدموع والقصائد. عندها رسم عدنان ببوله المخمور وطناً واسعاً على شكل دائرة مغلقة فأخذنا نرقص داخلها مهووسين بقصاصاتنا السرية رقصة أفريقية ماجنة على إيقاع مهتاج بألم ممض سحيق, نلهث أحلامنا المحمومة ونتبادل النظر في الوجوه مثل غرباء حوصروا فجأة وسط متاهة لا تفضي إلى أي مكان سوى الجحيم, كنا تماماً نرقص داخل جحيمنا. "يا أنت يا سيء.. يا من هناك.. يا متخلف.. وأنت تمهل.. "فالعمر قصير كفستان مراهقة" (4).. يصرخ عدنان, وأصيح أنا "كوني عاقر يا أم الشهداء" وصوت آخر "أنت بلا هم.. بلا هم" ومرة أخرى صوت يصرخ "يا متخلف.. يا رديء.. تافه أنت فحسب.." وتصايحنا جميعاً "تغيرت الآن بغداد يا أولاد الكلاب.." وحين نشف بول عدنان في ذلك الليل البارد غادرنا الوطن.

اسماعيل عيسى بكر
"يوم بلا تاريخ – 1986"

إشارات:
1. شخصية رئيسية في رواية "عزلة آدم".
2. رواية "عزلة آدم".
3. مقطع من قصيدة للشاعر فضل خلف جبر.
4. مقطع من قصيدة للشاعر عدنان الصائغ.

(*) نشرت في صحيفة "الزمان" – لندن ع 688 في 1/8/2000
أعلى