كميل أبو حنيش - الكتابة والسجن، الحلقة الأولى "ما يشبه المقدمة"

ولدت فكرة هذا المشروع الكتابي أثناء اعتكافي وإحجامي عن الكتابة مدة أسبوع في شهر أوكتوبر من هذا العام (2020) وذلك لأول مرة منذ ولوجي عتبة الأسر. وكان هذا الاحجام نابع من إحباط مؤقت مررت به في ظل الحالة العربية البائسة واندفاع بعض الأنظمة نحو الارتماء في أحضان الدولة العبرية وفي ظل حالة فلسطينية متردية لا تزال تدور في ذات الحلقة المفرغة. حيث ساورني الشك في جدوى الكتابة ونحن نعايش كل هذا الانحطاط.
وقد تلبستني العديد من الأسئلة: لماذا تكتب؟ ولمن تكتب؟ ومع الأيام أخذت تنقشع الغمامات السوداء من رأسي وتحسن مزاجي بالتدريج، وأثناء التأمل في رحلتي الكتابية التي تواصلت زهاء عقدين من الزمن، وجدت أن الكتابة من قلب السجن تعد معجزة إذا ما قورنت بالكتابة من أي مكان آخر. أستطيع قول ذلك من تجربتي الشخصية ومن تجارب أخرى مماثلة، إذ أن الأسير الكاتب يحيا في قلب دوامة من الهواجس والتوترات والمنغصات لم يألفها أي كاتب آخر في أي مكان في العالم ، الأمر الذي يستحق الكتابة عنه.
ومن هنا ولد هذا المشروع، لقد أسميته مشروعا لأنه ما فتئ يتخلق وينمو، وأردتُ أن أنجزهُ على هذا النحو من الحلقات، كي أُشرك القارئ في النقاش وإبداء الرأي. وبالتالي يساهم القارئ المهتم بالشأن الاعتقالي في تطوير هذا المشروع وإثرائه إلى أن يكتمل.
لقد طويت حتى الآن ما يقارب الثمانية عشر عاماً في السجن في رحلة طويلة قاسية ولا أعرف متى ستنتهي. ومنذ الأيام الأولى من رحلتي الاعتقالية شرعتُ في عملية الكتابة اليومية حتى صارت طقساً مقدساً، بل وادماناً وحالة مرضية لا شفاء منها. وانجزتُ حتى الآن ما يربو على خمسة عشر كتاباً متنوعاً في حقول السياسة والأدب والفكر فضلاً عن نشر عشرات المقالات والدراسات السياسية والأدبية وقصائد الشعر التي تناهز (190) مقالة ودراسة وقصيدة شعرية. بيد أن هذا الاحتفاء الكتابي لا ينطوي على التفاخر بالانجاز بقدر ما يعكس ألواناً من المعاناة. فقد كانت هذه الرحلة الكتابية مضنية وصعبة ومكتظة بالهواجس، إذ لم أخطط سلفاً بأن يكون لي مشروعاً في الكتابة من قلب السجن ، وإنما أخذت هذه الأعمال تتطور وتنمو إلى أن وجدتُ نفسي كاتباً منهمكاً في الكتابة والخوض في حقول لم أتصور يوماً بأنني سأكون كاتباً في أي حقل منها: الرواية، الشعر، الدراسة الأدبية، الدراسة السياسية، المجال النقدي.. وفي مواضيع أخرى متنوعة.
إن ما أخطه في سطور هذه الحلقات، ليست مذكرات شخصية كأي كاتب يروي سيرته الأدبية أو الفكرية حتى وإن بدت كذلك في ظاهرها، وإنما أروي وجهاً من تاريخ الحركة الأسيرة في واحدة من محطاتها الخطيرة، في ظل مشروع تنتهجه مصلحة السجون الإسرائيلية منذ سنوات في استهداف للوعي والإرادة والثقافة.
وعندما أروي عن رحلة المعاناة والعقبات التي واجهتني أثناء الكتابة، إنما أروي عن حقبة مهمة في معركة التحرر الوطني الفلسطيني ، وعن معاناة أعداد من الأسرى الكتَاب ، الذين واجهوا مثلي هذه العقبات وشهدوا المخاضات العسيرة لولادة انتاجاتهم الأدبية والثقافية والسياسية.
في هذه الحلقات سوف أتطرق إلى كل كتاب ومؤلف انتجته، منها ما رأى النور وصدر بعد جهود وصعوبات كبيرة، ومنها مالم يصدر بعد أو قيد الطباعة، ومنها ما وافته المنية وأجهض قبل اكتماله من قبل السَجان واجراءاته التعسفية. لقد صار من واجبي أن أروي عن هذه الكتابات التي رافقتني وشكلت جزءاً مهماً من حياتي ومن هويتي كمناضل وكاتب وأسيرٍ مثقف يؤمن برساله الكتابة، إذ بتُ أشعر أن هذه الأعمال كما البشر لها حياتها وحقوقها وكرامتها وأن لها أرواحاً تستجدي الحياة وأن من الواجب الاخلاقي انصافها والحرص على حياتها، والحديث عن رحلتها، بعد أن باتت لها حياة مستقلة عني. كما أنها مثلي تعرضت للقمع والتنكيل والملاحقة والاحتجاز، غير أنها كانت أيضاً عنيدة مثلي مصرة على الولادة والانعتاق، إذ رغم احتجازها لأشهر أو ضياعها تظل تصرخ وتتحدى ولها نداؤها السري الذي كان يحثني أن أظل الاحقها ، إلى أن تعود إليَ من جديد، لأعيد انجازها وتسريبها خارج الجدران.
سألني العديد من الأصدقاء : كيف تكتبون؟ وكيف بوسعكم اخراج كتاباتكم خارج الأسوار؟ وكان يتعين عليَ الإجابة عن هذه التساؤلات ، بإجابات مقتضبة وبما تسمح به ظروفنا والتي تضمن عدم انتهاكي لأحد الأسرار. وها أنا بعد سنوات أحرر بعض الاجابات عن كيفية الكتابة خلف الأبواب الموصدة غير أن الاجابة عن سؤال الكتابة في السجن، قد يحتاج إلى دراسات أكثر عمقاً تأخذ في حسبانها البدايات الأولى للكتابة الاعتقالية منذ أكثر من نصف قرن، إلى أن صار متاحاً اخراجها بوسائل متطورة. بعبارة أخرى أن تبحث هذه الدراسات الوسائل التي اعتمدها الأسرى في تهريب كتاباتهم منذ الكبسولة وحتى تصويرها على المحمول.
منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، شددت ادارة مصلحة السجون من اجراءاتها ضد أية مادة مكتوبة يجري تسريبها للخارج وتعاملت مع الأمر من زاوية أمنية. فقد كانت وسيلتنا في البداية في تسريب كتاباتنا أما عبر ما يعرف بالكبسولة أو من خلال المغامرة واخراجها مع الأسرى المحررين. وفي هذه الحالة تكون هذه الكتابات خاضعة لأمزجة ادارات السجون، فإما أن يجري السماح بإخراجها وإما أن تجري مصادرتها إلى الأبد. حيث اختلفت هذه السياسه من مرحلة إلى أخرى ومن سجن لآخر أو حتى من ضابط لآخر. في السنوات الثلاثة عشر الأولى من أسري اعتمدتُ وسيلة اخراج كتاباتي مع الأسرى المحررين، فخرج بعضها بينما جرت مصادرة البعض الآخر .
وفي السنوات الأربعة أو الخمسة الأخيرة صار متاحاً اخراج هذه الكتابات عبر الهواتف المهربة، وهذه الوسيلة شكلت اكتشافاً مذهلاً، ونقلةً نوعية في تطور أعمالي الكتابية.
ولإزالة أي التباس، أود التوضيح أنه لا يوجد هواتف شخصية في السجن إلا في حالات نادرة فهي في معظمها معدة للاستخدام العام، يحصل بموجبه الأسير على وقتٍ محدد يتراوح بين دقائق أو ساعة في أحسن الأحوال ويتعين على الكاتب أن يتدبر أمره في هذا الوقت اليسير. وهذه الهواتف بدائيةٌ وليست حديثة، ويجري استخدامها في حالة الأسير الكاتب من خلال تسجيل المواد. حيث يقرأها الأسير على السماعة وفي الطرف الأخر يجري تسجيلها. ومن الجدير الإشارة هنا إلى كون هذه الأجهزة مهربة إلى السجن وليست مسموحا بها، وهي ملاحقة على الدوام وجرى انشاء وحدات متخصصة للتفتيش عنها ومصادرتها.
وقد تطورت هذه الوسائل في بعض السجون وصار بالامكان تصوير الأوراق المكتوبة، لكن وكما أسلفت، فإن معظم أعمالي الكتابية قد جرى تسريبها بطريقة تقليدية أي من خلال الأسرى المحررين، وتعرضت أكثر من مرة للمصادرة. لذا صار يتعيَن عليَ أن أروي معاناتي مع الكتابة.
لدى ولادة مشروع ( الكتابة والسجن) تشاورت مع عدد من الأصدقاء وأذكرهم بصورة عامة: الصديق المحامي حسن عبادي، والأصدقاء الأعزاء رائد حواري وفراس الحج حمد، والدكتور عادل الأسطه والدكتور عقل صلاح وناصر أبو خضير، والصديقة العزيزة عفاف خلف، والشاعرة نداء يونس. وكلهم رحبوا بالفكرة وشجعوها وأمدوني بالمزيد من المقترحات التي من شأنها تطوير الفكرة.
وبهذا ولد المشروع وآمل أن يتواصل ويتكلل بالنجاح، وسأروي من خلال حلقاته تجربة الكتابة في السجن، وعن مؤلفاتي وأعمالي الأدبية والسياسية بعد أن باتت معروفة خارج الأسوار.
من واجبي أن أذكر أن هناك أبطال مجهولين رافقوني وآزروني في هذه العملية ولولاهم ولولا مثابرتهم لما رأت هذه الكتابات النور.
أبدأ بشقيقي العزيز كمال الذي رافقني منذ البداية حرفاً بحرف، وتابع مجمل هذه الكتابات بكل اصرار وعناد وصبر إلى جانب شقيقتيَ العزيزتان ميساء ونداء اللتان كان لهما دوراً هاماً في المؤازرة والتشجيع والتسجيل والطباعة.
كما وأذكر عدداً من الأصدقاء الذين واكبوا وتابعوا كتاباتنا.. الصديق العزيز والأسير المحرر علام كعبي وأسرة موقع حنظله، أحمد طنانة وزوجته أمل أبو القرايا والعزيز محمد شرافي (أبو أحمد) ومالك الشنباري ( أبو أيلول) والأسيرة المحررة دعاء الجيوسي وزوجها الاعلامي عمار الدقشه. وايمان الحاج، والصديق العزيز أيمن فرحات الذي تولى طباعة أعداد هائلة من كتاباتي وكتابات غيري من الرفاق. وأيضاً الاصدقاء في بوابة الهدف الاعلامية.
ويطيب لي أن أذكر ايضاً عدداً من الاصدقاء الذين تولوا مهاماً مختلفة من تسجيل وطباعة وتدقيق لغوي: رغد فنة ووالدها الدكتور أبو أحمد فنة وميرال الدجاني وأحمد المصري وسامية رشاد ومراد محيسن والمحامي محمد الشايب وسامر أبو عيشة ونهى نزال وحافظ عمر وأشرف أبو عرام وزياد صبيح وسناء دقه وناديجدا اللفداوي والصديق العزيز عدنان عبد الجليل والعزيزة صفا التركي ، والصديق ناصر أبو خضير وزوجته عبير، جهاد العبيدي، أم أسامة، أم فادي الشرفا ورشا الطرابلسي من سورية، وجميلة سلامة من الأردن والأسير المحرر أحمد أبو السعود.
كما وأذكر الأصدقاء الأكاديميين الذين ساهموا في عملية التنقيح والمراجعة اللغوية والقراءة وابداء الملاحظات وكتابة المقدمات: الدكتورة وداد البرغوثي والدكتورة أمل أبو حنيش والدكتور عبد المجيد حامد، والدكتور عقل صلاح والدكتور عادل الأسطه، والدكتور نادي الديك والدكتور محمود العطشان والاستاذة رولا أبو دحو والاستاذة احترام قرمش. وايضاً الاعلاميين الذين ساندوا هذه الرحلة الكتابية وساهموا في اغنائها، منال الزعبي، قمر عبد الرحمن، أسماء عواد، لينا لهلبت، والاعلامية السورية نوار الشاطر والاعلامي اللبناني زاهي وهبي. الاعلاميه منى يحياوي .
ويسرني أن أذكر عدداً من الأصدقاء في العامين الأخيرين الذين كان لهم دوراً مفصلياً ومهماً في الكتابة عن السجن، الصديق العزيز المحامي حسن عبادي وزوجته سميرة، والحملة المهمة التي أطلقها ( لكل أسير كتاب) والجهود المثمرة التي يبذلها. والصديق المبدع رائد الحواري والصديق الشاعر والناقد فراس الحاج محمد والصديقة العزيزة عفاف خلف وإلى جانب كل هذه الأسماء الكبيرة أذكر الاصدقاء من روائيين وشعراء ونقاد ومثقفين الذين جمعتني ببعضهم صداقات حميمة وبالبعض منهم صداقات عن بعد، أذكر منهم نداء يونس وابراهيم جوهر واسماعيل الحاج، جمعة الرفاعي، مازن دويكات ايمان زياد، عبد الرحيم الشيخ، مصطفى عبد الفتاح، شذا أبو حنيش، آمال عواد رضوان ، بسام الكعبي، مرزوق حلبي، مازن أبو عيد، اكرم مسلم ، فرحات السعدي، اسامة ملحم، ليانة بدر، أماني الجنيدي، صلاح حمدوني، قاسم توفيق، رشاد أبو شاور، منور أبو زاهر، عبد السلام عطاري، رزان بنورة، روز شوملي، بكر عبوشي، سليم العريضي، رجاء بكرية، سامية قزموز، أسماء ناصر أبو عياش، محمود شقير، جميل السلحوت، الشيخ رائد صلاح، اسماعيل التلاوي، وسام مسلماني ونزهة الرملاوي. ويطيب لي أن أذكر ايضاً الكتّاب والاعلاميين والنقاد من خارج فلسطين، العزيزة حنان باكير، والصديق العزيز خالد عز الدين، الأسير المحرر والمقيم في الجزائر والذي يبذل جهوداً في تطوير ونشر ابداعات الأسرى . إلى جانب عدد من الأصدقاء في الجزائر: حسان شكاط، حسن أو الحاج ويوسف عبد الخالق.
ومن الأردن: الدكتور فيصل دارج، وصلاح اللاوي وصفاء أبو خضرا، عبد السلام صالح، ليلى الأطرش، محمد مشة، نيفين عياصرة، أحمد أبو سليم، وسامي ناصف من مصر، جمانة العتيبي من ليبيا ربا الأطرش من سورية، ميادة الكيلاني من لبنان ومادونا عسكر من لبنان، وهادية حسان من تونس وأختتم برفاقي وأصدقائي في السجن الذين كان لهم دورٌ هام في هذا المشروع: أبدأ بالصديق العزيز ثائر حنيني الذي تولى مهمة اخراج أعداد كبيرة من الكتابات المتنوعة، مدة تجاوزت الخمس سنوات، وهو يقوم بتسجيل المادة بصوته على الهاتف. وأيضاً حكمت عبد الجليل إلى جانب يسار اشتيه وداوود هرماس، وأذكر ايضاً الرفيق العزيز أحمد سعدات لدوره في التشجيع وابداء الملاحظات وأيضاً الصديق العزيز مروان البرغوثي ونشاطه الأكاديمي المثابر، ووائل الجاغوب، عاهد أبو غلمة، منذر مفلح، أحمد العارضة، باسم خندقجي، حسام شاهين، حسن فطافطة نادر صدقة، شادي الشرفا، وليد دقة، بهاء الشبراوي، ربيع أبو الرب، منير أبو شحدة، سامح الشوبكي، حمزة الحاج، ناصر أبو سرور، واعتراف الريماوي ورائد الشافعي.
كان من الواجب ذكر هذه الأسماء في تطوير واغناء لهذه الأعمال الكتابية، وسنأتي على ذكر الكثيرين منهم في سياق هذه الحلقات.
ولا يفوتني أن أذكر الشهداء الذين شكلوا على الدوام مصدر إلهام واسعاد معنوي، الشهداء: يامن فرج، فادي حنني، جبريل عواد، أمجد مليطات، عماد مبروك، ربحي حداد، سامح أبو حنيش.
وأذكر ختاماً تلك الساكنة في أعماق القلب والوجدان والتي روحها تحلق حولي على الدوام المرحومة الجدة عريفة.
إليهم جميعاً أتقدم بالشكر والثناء وأهديهم هذا العمل الكتابي الجديد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى