سعيد الشحات - الأهرام تبدأ فى نشر «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ ويحيى حقى يكشف لحظات انفعال أديب نوبل بالسفاح محمود أمين سليمان

ذات يوم.. 11 أغسطس 1961


كان السفاح محمود أمين سليمان يواصل عملياته، التى بلغت 58 عملية سرقة، وكانت الصحافة المصرية تتتبع خطواته، حتى إنه أصبح نجمها اليومى منذ القبض عليه، أثناء محاولته سرقة فيلا سيدة الغناء العربى أم كلثوم، فى نهايات عام 1959، وحتى مقتله يوم 9 إبريل 1960.. وفرضت الحالة نفسها على أديب نوبل نجيب محفوظ، فكانت رائعته «اللص والكلاب»، وبدأ نشرها يوم 11 أغسطس، مثل هذا اليوم، 1961، كحلقات أسبوعية بالملحق الأدبى بجريدة الأهرام.
بدأت رحلة محمود سليمان مع المعاناة منذ الطفولة، عندما ترك والده قرتيه «أبوتشت» بمحافظة قنا، وسافر للعمل فى لبنان، حسبما يذكر محمد شعير فى كتابه «أولاد حارتنا، سيرة الرواية المحرمة»، مشيرا إلى أن سرقات الابن تعددت فى لبنان، فقبض عليه وسجن خمس سنوات، فاضطر الأب إلى العودة إلى الإسكندرية عام 1953، واستطاع الابن الهرب من السجن والاختفاء والزواج أكثر من مرة، ثم العودة إلى الإسكندرية، وأعلن توبته أمام أسرته، وفتح دار نشر باسم «دار الفكر للنشر» وتزوج من حميدة أحمد إبراهيم التى اشتهرت باسم بيلا، وطلقها سريعا، وعاد إلى سيرته الأولى فى السرقة، وتعدد القبض عليه وهروبه، وكان يدافع عنه كل مرة صديقه المحامى بدر الدين أيوب، وفجأة يجد فتاة عمره «نوال عبدالرؤوف» ويتزوجها، وينجب منها ابنته «إيمان»، وينتقل إلى القاهرة ويفتتح «بقالة إيمان»، ويشعر بالاستقرار، لكنه يكتشف أن زوجته تخونه مع صديقه المحامى، وأن أخته على علاقة مع صديق آخر له، فتنقلب حياته، ويقرر الانتقام من الجميع.
فى رحلة الانتقام، ارتكب سليمان جرائم قتل وسرقة منها سرقته لفيلا أمير الشعراء أحمد شوقى، ومحاولته سرقة فيلا أم كلثوم، ويذكر«شعير»: «فى مارس 1960 صدرت صحيفة الأخبار وهى تحمل على صدر صفحاتها الأولى خبرا مثيرا، يقول عنوانه: «سارق فيلا أم كلثوم تحول فجأة إلى سفاح».. يضيف: «كان ذلك الخبر بداية لقصة أكثر إثارة توالت فصولها خلال الشهور التالية، وأصبح الموضوع المفضل للصحافة المصرية..على مدى ثلاثة شهور تقريبا تتبعت الصحف حياة ذلك الشخص، الذى تحول، كما كتبت صحيفة المساء، فى خيال بعض الناس، إلى أسطورة شعبية، إلى نوع من أبوزيد الهلالى وعنتر بن شداد، ولكن ذلك لم يكن إعجابا «بمضمون جرائمه وإنما بشكلها، بذكائه الخارق وجرأته المذهلة، وقدرته العجيبة على التصرف فى أدق المواقف وأكثرها صعوبة وحرصا».
كانت جريدة «الأخبار» هى أكثر الصحف التى تتابع القضية، ووفقا لشعير: «اتفقت الأخبار مع زوجته على نشر مذكراتها، وكان الصحفى صبرى غنيم قد أقنعها بأنه سيتزوجها بعد القبض على السفاح وطلاقها منه، على أن تتحدث عن حياتها، وصدرت بالفعل المذكرات».
كان محفوظ ممن انشغلوا بالقضية، ووصل إلى درجة يصفها يحيى حقى فى كتابه «عطر الأحباب» قائلا: «كان من حسن حظى أن شهدت انفعال نجيب محفوظ بفكرة رواية اللص والكلاب، وإن كنت لم أعرف ذلك إلا فيما بعد، ففى أيام حوارات محمود أمين سليمان، وهو سعيد مهران فى اللص والكلاب، كنت ونجيب جارين فى مصلحة الفنون ونخرج معا، فكنت أسأله أحيانا: ماذا تقرأ هذه الأيام وماذا يشغلك؟ فكان يضحك فى وجهى ويقول لى: لا شغل ولا تفكير إلا فى محمود أمين سليمان.. كنت فى هذه الفترة إذا دخلت عليه مكتبه وجدته يذرعه جيئة وذهابا، فكأنى أوقظه من غيبوبة أو أرده من عالم مجهول إلى عالمنا، لو انطلق مدفع بجواره لما أحس به، يداه معقودتان وراء ظهره، رأسه مرتفع مائل للوراء، وأفهم من صوته أن ريقه جاف، لو نقرت على جسده لرن رنين قوس المنجد، بين الحين والحين يرفع يده إلى جبهته ويمسحها، كأنه يزيل عرقا أو يهدئ حرارتها، يخيل للنظرة الأولى أن وجهه صارم ومتجهم مأزوم، ولكنه فى الحقيقة وجه رجل مستغرق فى تفكير عميق مستحوذ عليه.
كانت حصيلة انشغال «محفوظ» إبداعه فى أنه لم يكتب عملا روائيا تسجيليا لقصة السفاح، وإنما ووفقا ليحيى حقى: «فى اللص والكلاب الدلالة أضخم بكثير من الحادثة، الحادثة مجرد نكتة يتخذها نجيب لعرض فلسفته ونظرته للحياة للكشف عن التباين والاختلاف بين القيم فى ذاتها وفى حكم الناس، عن الصراع بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين المؤقت والأبدى، عن التضاد بين النية والعمل، والوجه والقناع، عن الصراع بين الفرد وذاته، وبينه وبين المجتمع، عن الفروق بين لغة أهل الدنيا ولغة أهل الآخرة».
....................
سعيد الشحات- اليوم السابع
أعلى