د. مصطفى أحمد علي - غريقٌ وغويطٌ وأفطح..

تعرف الدوارج العربية في السودان مادّة "غ ر ق"، في صيغتها الفعلية "اللازمة": غرق يغرق. ويأتي المصدر منها على "غَرَق"، بفتحتين متتاليتين، وتنصرف دلالتها إلى معنى الانغماس في الماء والهلاك فيه، وتتّفق في ذلك كله مع معاجم الفصحى. وفي ((لسان العرب): "الغرق الرسوب في الماء... والغريق الميت فيه ... ويقال: غرق في الماء وشرق إذا غمره الماء فملأ منافذه حتى يموت ومن هذا يقال غرقت القابلة الولد... قال الأعشى: يعني قيس بن مسعود الشيباني:
أطورين في عام غزاة ورحلة
ألا ليت قيساً غرّقته القوابل.
ويقال إن القابلة كانت تغرق المولود في ماء السلي عام القحط حتى يموت ثم جعل كل قتل تغريقاً. "أه.
ولا تعرف الدوارج السودانية صيغة "غريق" بل تقتصر الصفة من "غرق" على "غرقان"، وتلحق بالكائن الحي حقيقة، في نحو وصفهم للشخص بأنه "غرقان" بمعنى الهلاك الناتج عن الغرق، أو مجازاً، بمعنى الوقوع تحت أسر المحبّة والغرام، أو وطأة الدين. ومن ذلك قول محمد الحسن حُمّيد، رحمه الله، في قصيدته "الجابرية":
زول "غرقان" في الدين من عمره
ستة سنين قابض في جمره
وما فكّاه طريق الله
وتنصرف الدلالة في الدوارج العربية السودانية في مادة "غرق" - على خلاف الفصحى - إلى معنى الغور البعيد القعر، ويأتي المصدر منه على "غرق" بضمّ الغين، وأكثر ما ينصرف الوصف إلى الآنية من صحن وطبق، فيقال: صحنٌ غريقٌ ونحوه، وإلى مظانّ المياه من بئر ونهر وواد، فيقال: بير غريقة، وما إلى ذلك. كما أن الدلالة تنصرف إلى معنىً مجازي في قولهم، في التعبير الاصطلاحي: "فلان بطنه غريقة" بمعنى كتوم لا يذيع سرّاً، وفي التعبير الفصيح: فلانٌ بعيدٌ الغور، أي عميقٌ داهيةٌ متعمّقٌ النظر.
وتشترك اللهجات العربية في المشرق والمغرب، في دلالة مادة "غ ر ق" على بعد الغور والقعر، مع تباين بين لهجة وأخرى في البنية الصرفية، ما بين "غريق"، وتغلب على اللهجات المشرقية، و"غارق"، وتغلب على اللهجات المغربية، مع تداخل في البنى الصرفية وتحوّرات صوتية نجدها أحياناً، في دوارج المشرق والمغرب، تجعل من العين غيناً: غميق وغامق.
ولا تعرف الدوارج العربية في السودان ما يقابل لفظ غريق بهذا المعنى في اللهجة المصرية، وفي لهجات جزيرة العرب، كلهجتي نجد وحضرموت، في قولهم "غويط". وهي ممّا يرد من معان في معاجم الفصحى، ففي (لسان العرب): ".. غاط يغوط غوطاً: حفر، وغاط الرجل في الطين. ويقال: اغوط بئرك أي أبعد قعرها، وهي بئرٌ غويطةٌ: بعيدة القعر، والغوط والغائط: المتّسع من الأرض، مع طمأنينة، وجمعه أغواطٌ وغوطٌ وغياطٌ وغيطاتٌ.....قيل للمطمئنّ من الأرض غائطٌ، ولموضع قضاء الحاجة غائط، لأن العادة أن يقضي في المنخفض من الأرض حيث هو أستر له ثم اتُّسع فيه حتى صار يطلق على النجو نفسه... وفي الحديث: أن رجلاً جاءه فقال: يا رسول الله: قل لأهل الغائط يحسنوا مخالطتي، أراد أهل الوادي الذي ينزله..."أه.
هذا، وإطلاق لفظ "غائط" على موضع قضاء الحاجة، واتّساع المعنى، ثمّ إطلاقه فيما بعد على النجو نفسه، ذلك كله ممّا يدخل في باب المحرّمات اللغوية، وقد كنّا عرضنا لأمثلة لذلك في غير هذا المقام.
وضدّ "غريق" في اللهجات السودانية، مادّة: "ف ط ح". ويذهب معناها في دوارج السودان، إلى كلّ ما هو ضحلٌ قريبُ القعر، من آنية ومظانّ مياه ونحو ذلك، فالصحن أفطح، والبركة فطحا، وتتّسع الدلالة لوصف أعضاء الجسم، فالرأس أفطح، والقدم فطحا إذا كانت مستوية. ومنها صيغة الفعل فطّح، يفطّح، ويدلّ على بسط المعدن من حديد أو نحاس أو نحو ذلك، وتوسعته وتسطيحه بعد أن كان مجتمعاً ملموماً. وتلحق صفة "الأفطح" و"الفطحا" في استعمالهم المجازي بمن لا يؤتمن على سرّ ولا يؤنس في حديثه إلى عمق نظر وثاقب رأي وفكر، فهو أفطح، وهي فطحا.
ومادّة "ف ط ح"، ممّا ورد مختصراً جدّاً في (قاموس اللهجة العامّية السودانية) لأستاذنا عون الشريف، فاكتفى رحمه الله، بقوله: "فطّح الشيء: جعله عريضاً" أه.
وفي لسان العرب: "..الفطح عرضٌ في الرأس والأرنبة حتى تلتزق بالوجه كالثور الأفطح...ويقال فطّحت الحديدة إذا عرّضتها وسوّيتها لمسحاة أو معزق أو غيره، قال جرير:
هو القين وابن القين لا قين مثله
لفطح المساحي أو لجدل الأداهم.." أه
هذا، والقين، في هجاء جرير، غفر الله له، هو الحدّاد، والمسحاة عندنا، هي الكوريق، وهي نوبية، والجدل هو الفتل، والأداهم هي الحبال.


د. مصطفى أحمد علي،
الرباط، مايو 2021م.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى