أمل الكردفاني - هيرمينوطيقا الاستبعاد: رؤية داخل السياقات القانونية

هيرمينوطيقا الاستبعاد: رؤية داخل السياقات القانونية
Hermeneutics of exclusion: A Vision inside Legal Contexts

‏(1) الوعي الأنطولوجي:‏
يبدأ الوعي بالنص أنطولوجياً، (الحضور الأنطولوجي لدى القارئ)، خلافاً للاستحضار المقيد ‏لدى المؤلف. فيتم تلقي النص كما تتلقى أشرعة المراكب الهواء، التي تحتجزه، ثم تتحرك ‏مزيحة مياه التصورات المتزاحمة لتتمكن من المضي قدماً، غير أن الهواء لا يظل هو نفسه ‏الهواء؛ إنما يتجدد فيزيح القديم دون انقطاع. فالقارئ لا ينتج معنىً خلافاً لما تقول به نظرية ‏التلقي(‏Carter, David, 2006,p.87)‎‏ ، بل يستبعد معاني، ويحتجز أخرى ممتنعاً عن استبعادها ‏على وجه الظن، وفقاً لمؤشرات الإستبعاد النصي. لذلك فخطأ نظرية التلقي أنها تفترض ‏استدعاء المعنى عبر أفق التوقعات ‏horizon of expectations‏ (‏‎(Selden, ‎Raman,2005, p.50‎‏ ، ذلك أن التوقعات لا تعني شيئاً قبل النص أكثر من كونها حضورا كلياً ‏في الوعي الوجودي. ولا أدل على ذلك من تلك الإشارة إلى كسر أفق التوقعات؛ لأن هذا الكسر ‏يفترض بدوره أن التوقعات سابقة على النص وهذا يستحيل منطقياً إلا إن كانت تلك التوقعات ‏كلية. فالنص بذاته لا يكسر التوقعات لأنه لا يولد في فراغ بل داخل كثافة أنطولوجية (يمكن ‏أن نطلق عليها توقعات كلية لا محدودة)، وهذه الكثافة تعد كلها مؤشرات قابلة للإستبعاد، غير ‏أنها مؤشرات غازيَّة ورخوة ومتهافتة ومتزاحمة، وحين يولد النص يغير من تلك المؤشرات ‏الإستبعادية لتحدث الاستبعادات الإيجازية السريعة وحين يتمدد تحدث استبعادات جديدة ‏واحتجازات مقابلة جديدة، وهذه العملية العقلية لا متناهية، ولا يمكن أن تخضع لتتالي زمني أو ‏تراتبية، بل تتم بأسلوب مجموعاتي متزامن ومتمدد مما يتطلب تنوعاً في مؤشرات الإستبعاد ‏النصية، أي المؤشرات الصغرى والكبرى طوال قراءة النص ثم بعد قراءة النص، إذ أن الوعي ‏هو دائما وعي انطولوجي، يتسع باتساع الخبرة الحسية والعقلية ويلزم من ذلك أن النص يظل ‏مشتغلاً داخله باستمراره. لذلك قد نقرأ النص اليوم بعين مختلفة عنها قبل بضعة أشهر، أو قبل ‏تبصيرنا بإدراك وجودي أوسع يفرض علينا استبعادات جديدة لتضييق الحضور الأنطولوجي ‏للمعنى.‏‎ ‎
‏(2) مؤشر الإستبعاد: في المقابل هو الذي يجعل بعض التصورات تبقى داخل الحقل ‏الأنطولوجي فيمتنع استبعادها ويكون بقاؤها رهن: إما مؤشر استبعاد جديد أو حضور ظني ‏قلق، وهذا ما يجعل المعنى إحتمالياً دائماً، ويكون مؤشر الاستبعاد مؤشراً صغيراً حينما يطلب ‏من القارئ أن يقوم بذلك الاستبعاد داخل المحيط التداولي، ويكون أكبر منه أو كلياً حينما ينتج ‏عن اكتشاف العلل الرابطة بين المؤشرات الصغرى بحيث تشير إلى المعنى الكلي أو الأكبر ‏للنص، وكلما انبثقت مؤشرات صغرى، لزم أن تواكبها مؤشرات كبرى، لكي تستقيم وحدة ‏الخطاب أو النسق النصي. فمؤشرات الإستبعاد طبقية في تمظهرها العام، بحيث قد تتعدد ‏المؤشرات، ويكون كل مؤشر أكبر بالنسبة لما تحته من مؤشرات وأصغر لما هو أعلاه، وبما ‏أن مؤشرات الإستبعاد ليست بذاتها المعنى؛ فهي فقط تشير إلى أن بعض التوهمات ليست ‏هي المعنى فهي بالتالي واجبة الاستبعاد. فعندما يتحدث القانون عن ضرورة عدم انتهاك ‏الآداب العامة، فنحن وضمن إطار وعينا الأنطولوجي نكون أمام عدة مؤشرات إستبعاد، ‏بعضها داخلية متصلة بالنص وبعضها خارجي، فبما أننا نتحدث عن القانون، فالقانون بذاته ‏وبكل حضوره الأنطولوجي سيشير إلى استبعاد ما غير قانوني، ومن ثمَّ الاحتفاظ بما هو ‏قانوني فقط، ولكننا قد نجد أن القانون قد يحيلنا بعد ذلك إلى مؤشرات إستبعاد خارجية تستبعده ‏هو بذاته من الحضور رغم ضرورة بقائه، فعندما تنص المادة (١٢٥ /٢) من القانون الجنائي ‏لسنة ١٩٩١ على أنه: (يعد الفعل مخلاً بالآداب العامة إذا كان كذلك في معيار الدين الذي ‏يعتنقه الفاعل أو عرف البلد الذي يقع فيه الفعل)، فهنا يكون الدين والعرف مؤشرين خارجيين ‏عن المؤشر الإستبعادي الأول وهو القانون (التشريع)، وهما بدورهما يطلبان منا استبعاد ‏القانون ذاته واستبعاد كل خيالاتنا الوجودية الأخرى ويحثاننا على احتجازهما هما فقط كمعايير ‏لما يعد آداباً عامة وهكذا يحدث الفهم بالاستبعاد والاحتجاز، وهذه ليست عملية تراتبية متوالية ‏بل تعبُر أفق الوعي بالتوازي. فيحدث الفهم بشكل شمولي كلي للنص القانوني‎.‎
فالنص قبل ظهوره راسخ في الكونية، وعند انطلاقته بملفوظه الأول يتقزم، يتقزم بنوع اللغة التي ‏تستبعد ما عداها، وبجنسه الذي يستبعد ما عداه من أجناس، وبتفاصيله المكثفة التي تطلب ‏استبعاد ما عداها. ولذلك فلا يوجد كسر للتوقعات كما أسلفنا، بل انعطافات في مؤشرات ‏الإستبعاد وبالتالي استبعادات جديدة، من القانون إلى الدين إلى العرف، بناء على علل صريحة ‏أو ضمنية، وكشف هذه العلل هو الذي يحقق الربط بين مؤشرات الإستبعاد على الوجه الكلي، ‏وبالتالي فنحن نتنقل من مؤشرات إستبعاد صغرى إلى كبرى، ومن كبرى (صغرى) إلى كبرى ‏‏(كبرى)، وهكذا..هذه المؤشرات الكبرى هي التي تعيد توحيد النص داخل معنى موحد، أو تلقي ‏به في أفق الانفتاح، أو تحكم عليه بالعبثية‎..‎
لقد ظلت فكرة التوقعات أو حضور المعنى سببا أساسياً في ضعف نتائج بعض العلوم اللغوية ‏الحديثة كنظرية التمثيل الذهني ‏Mental Representation‏ والتي لم تستطع حتى الآن ‏تفسير السلوك الذكي ‏Intelligent Behavior‏ (‏‎(Clapin, Hugh.2004, pp.1-2‎‏ ‏وكالإشكاليات التي واجهت أنطولوجيا اللغة وهو علم يحاول بناء روابط لشبكات علاقات واسعة ‏رقمياً (‏Jérôme, Euzenat,2007,p.36)‎‏ ، رغم استحالة ذلك، وذلك بسبب رسوخ التقسيم ‏المعرفي الكانطي(‏‎,Kant, Immanuel, Ed. Guyer. ‎ Paul,1998, pp.136, 137) ‎‏ وكان ‏بإمكان هذا العلم تحقيق قفزات لو اعتمد على فكرة الاستبعاد لا التوقع. إن الإستبعاد لا يتطلب ‏ملاحقة مستحيلة كالتصنيف الأرسطي عبر مستوى الدال والمدلول السيسوري، ذلك أن الدال ‏دائماً مجازي، ولا يصلح إلا ان يكون كذلك، وهذا ما يجعله غير قابل للقبض عليه‎.‎
‏(3) آليات الاستبعاد:‏
ولكن، كيف يحدث الاستبعاد؟ إن الاستبعاد قد يكون منظماً (علمي) لذلك فهو محدود، أو ‏حدسياً وهذا هو الغالب لذلك فهو غير محدود‎.‎
ويلاحظ أن خلق النص القانوني هو بناء مؤشرات إستبعاد ولذلك فهو عملية معاكسة للفهم وإن ‏كانت تتجه نحوه، وهي تتم داخل مستوى المحايثة بوصف دولوزthe plane of ‎immanence‏.(‏‎ (Deleuze, Gilles,2013 ‎
‏(4) تطبيقات لنظرية الاستبعاد:‏
أما تطبيقات نظرية الاستبعاد (والتي لا حصر لها) فيمكن أن تبدأ من المثال التالي:‏
‏(أ) و (ب) في حوار بسيط:‏
‏(أ)- هناك قانون يحكم كل شيء..‏
‏(ب)- قانون كوني؟
‏(أ)- أقصد قانوناً يحكم كل أنشطتنا الإنسانية..‏
‏(ب)- هل تؤمن بالقدر؟
‏(أ)- اقصد ذلك القانون الذي يصدر عن البرلمان.‏

سنلاحظ أن كلمة القانون يمكن أن تطلق على أي قاعدة تحكم علاقة مضطردة بين شيئين أو ‏أكثر أو ما يطلق عليه قاموس أكسفورد الإنتظام في الأحداث الطبيعيةregularity in ‎natural occurrences،(‏‎ (The Oxford dictionary of current English, 1993, p.500‎‏ ‏قد يكون القانون هنا قانوناً فيزيائياً أو قانوناً إجتماعياً او القانون الصادر من البرلمان أو ‏القانون اللاهوتي..‏
إن ما قام به (أ) في نهاية الحوار هو أنه حصر كل الاحتمالات التي دارت في مخيلة (ب) ‏في مفهوم القانون البرلماني. في الواقع هو بذلك طلب من (ب) إستبعاد التصورات واحدة تلو ‏أخرى..حيث كان (ب) يتجه نحو (أ) عبر الاستبعادات المستمرة. إن الأصل في فهمنا ليس ‏الاستدعاء وإنما الإستبعاد. وسنلاحظ أن كل النظريات المرتبطة بالتأويل والتلقي بل والمنطق ‏الصوري انطلقت من الاستدعاء والتمثـــُّـــل (أفق التوقعات) لا الاستبعاد، وسوف نرى أن تلك ‏الإنطلاقة أسفرت عن إشكاليات عديدة في تلك النظريات..في التفكيكية مثلاً كان هناك مبدأ ‏التأجيل والتراخي (‏‎ (Newton, K,1997, p.112‎، لأن النص لا متناهي المدلولات. في الواقع ‏سنكتشف أن النص لا يمنح مدلولات بل يشير غالباً إلى ما يعزز استبعاداتنا (مؤشرات ‏الإستبعاد). والنص الذي لا يمنح تلك الإشارة يكون نصاً مبهماً. ليس بالضرورة أن يكون ‏النص أو الخطاب (بشكل أوسع)، محدِّداً لكل عناصره لتحقيق مؤشرات استبعاد شاملة، وإنما ‏يكفي أن يعتمد على سياقاته الخاصة. يعد التناص والإنتقاء الثقافي ‏‎ Cultural ‎selectionismأحد تلك المعززات لعملية الاستبعاد، سنلاحظ مثلاً أن العقد قد يحتوي -وغالباً ‏هذا ما يحدث- على مجموعة من الجمل المتعارف عليها عند القانونيين مثل ‏‎ boilerplate ‎clauses and core clauses‏ ، هذه الجمل، وطيلة حياتها القانونية، وداخل هذا الحقل، ‏وعبر كافة مؤسسات القانون، تشكلت ملامح تاثيراتها القانونية، عبر التطبيقات المختلفة، ‏بحيث اكتسبت إحكاماً يمنع من أي مزاحمة لتصورات أخرى، إنه لا يحتاج لبذل جهد وفير في ‏عملية الاستبعاد. وبالمثل فإن السوابق ‏precedents‏ والمبادئ القضائية، تعزز الاستبعاد، ‏فتفسير كلمة (شخص) بحيث يشتمل المعنى على الشخص الإعتباري ‏juridical person‏ ‏إضافة إلى الشخص الطبيعي ‏natural person‏ ، دفعت بعملية الاستبعاد إلى الأمام، بحيث ‏تساقطت كل التصورات الأخرى. كذلك يقوم النص القانوني بتعزيز الاستبعاد، فعندما نجد أن ‏القانون يعرف المال بأنه:(كل عين أو حق له قيمه مادية في التعامل) (م25/1م.م) فإنه ‏يتحرك –نسبياً-داخل التصور المشترك والذي يندرج ضمن أنطولوجيا اللغة العادية ‏Ordinary ‎Language ontology، لكنه يعود ليطالب باستبعاد بعض من التصورات الحاضرة؛ فتنص ‏الفقرة الثانية من ذات المادة على استبعاد ما يخرج من التعامل بطبيعته (كالطيور في السماء ‏والسمك في البحار) أو بحكم القانون (كالمخدرات) من ذلك التصور؛ لكنه قد يعود ليطلب من ‏القارئ عدم استبعاد ذلك في حالات إستثنائية مثل المخدرات التي يتم تداولها للأغراض الطبية؛ ‏فتضيق دائرة الاستبعاد. لذلك فالتعريف القانوني دائماً يحاول استبعاد كل التصورات المزاحمة ‏مبقياً على بعض منها لتمثل معناه؛ سواء كان القارئ شخصاً عادياً أو قاضياً أو فقيهاً، وكلما ‏وسع النص من دائرة الاستبعاد مضيقاً الأفق الأنطولوجي كلما حدث الانتقال من اللغة العادية ‏إلى اللغة الوضعية. ‏
نظرية الاستبعاد قد تحقق أحيانا بعض الحلول للجدليات القانونية، مثل الجدل حول تعريف ‏الإرهاب(‏‎ (Forst, Brian,2009, p.3 ‎‏ عبر استخدام مباشر للاستبعاد بصيغة إيجابية، لتوفير ‏استحقاقات مبدأ المشروعية، وإلا فإن كلمة إرهاب داخل النصوص القانونية، ستُبقى المعنى ‏سابحاً في فضائه الأنطولوجي. ‏
‏(1-4) العلم القضائي ‏judicial notice‏ ‏ وتعزيز الاستبعاد؛ يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه ‏القضائي وليس الشخصي، حيث يمثل العلم القضائي مجموعة المعارف والمعلومات والوقائع ‏المعلومة للشخص المعتاد بما يشمل -من باب أولى- العلم بالمجريات المختلفة للشؤون ‏القانونية بالدولة، وقد نصت المادة (١٤) من قانون الإثبات لسنة ١٩٩٣ بالسودان على الآتي:‏
‏14ـ(1) لا حاجة إلى إثبات الوقائع التي تأخذ بها المحكمة علماً قضائياً.‏
‏ (2) تأخذ المحكمة علماً قضائياً بالشئون المحلية والعامة التي يفترض علم الكافة بها .‏
‏ (3) مع عدم الإخلال بأحكام البند (2) , تأخذ المحكمة علماً قضائياً بالمسائل الآتية وهى :‏
‏ (أ ) الدستور والتشريع وسائر الأحكام والتدابير التي لها قوة القانون،‏
‏ (ب) المسير العام لنظم الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية وأجهزتها،‏
‏ (ج) تولى المناصب العامة وأسماء شاغليها وألقابهم ومهامهم وتوقيعاتهم إذا كان تعيينهم قد ‏أعلن رسمياً،
‏ ( د) كل دولة تعترف بها حكومة السودان , وبصفة عامة كل الشئون الدولية والسياسية , ‏المتصلة بعلاقات السودان الخارجية،
‏ (هـ) التقاسيم الزمنية والجغرافية والمكاييل والموازين والمقاييس وسائر المعايير الشائعة في ‏السودان،
‏ (و ) العطلات العامة والقومية،‏
‏ (ز) الأعراف السودانية العامة التي أقرتها المحاكم،‏
‏ (ح) المعاني العامة للكلمات،‏
‏ (ط) قوانين الطبيعة ومسيرها العادي.‏
‏ (4) يجوز للمحكمة في جميع الأمور التي تأخذ بها علماً قضائياً التحري والاستعانة بأي جهة ‏رسمية، أو أي مرجع مناسب كما يجوز لها أن تشترط على من يطلب منها أن تأخذ علماً ‏قضائياً بأي أمر أن يمدها بما تراه لازماً من المراجع والوثائق لأخذ العلم القضائي.(‏‎ Law ‎Commission Wellington, New Zealand, 1994, p. 79)‎
‏ فالعلم القضائي يعني أن المحكمة وهي في سبيل قيامها بالفصل في الدعوى القضائية لها أن ‏تستدل بكل تلك المعارف ليقوم حكمها على التصور الصحيح. إن المحكمة في الواقع لا بد أن ‏تحصل على ذلك الحق لأنها (وبعيداً عن إعتباريتها) إنما تتأسس على فهم الشخص الطبيعي ‏الذي هو القاضي. والشخص الطبيعي يبني حكمه على الاستدلال، والاستدلال يتم عبر استبعاد ‏كل ما يزاحم الحقيقة من تصورات خاطئة.‏
إن خاصية النشاط القانوني تختلف عن النشاط الأدبي؛ فالنشاط القانوني يجب ألا يمنح أي ‏فرصة لمزاحمة التصورات، أما النشاط الأدبي، فهو يخلق تلك المزاحمة بل ويكون عملاً ‏مرموقاً عندما يكون منفتحاً على التأويلات المتعددة، أي كلما ضُعفت القدرة على الاستبعاد.‏
‏(2-4) العَـقـــد والاستبعاد:‏
قاعدة العقد شريعة المتعاقدين، تستلزم تفسير القاضي للعقد عند الاختلاف حول تفسيره. وهنا ‏فنحن أمام طرفين على الأقل، يملكان تصورات مختلفة عن نص واحد. وهناك ثلاثة احتمالات ‏في هذا الصدد: ‏
الاحتمال الاول:أن يكون طرفا العقد يمتلكان معرفة عامة..‏
الاحتمال الثاني:أن يمتلك الطرفان: معرفة متخصصة..‏
الاحتمال الثالث:أن يمتلك أحد الاطراف معرفة عامة والآخر معرفة متخصصة.‏
في الاحتمال الأول، وهو احتمال الرجل المعتاد، والاحتمال الثاني؛ وهو احتمال الشخص في ‏ظروف الخبرة، فإن سياقات العقد تكون مفهومة للطرفين حيث يستخدمان نفس مؤشرات ‏الاستبعاد، لأن الفهم يتأسس على تقارب عمليات الاستبعاد. أما في الاحتمال الثالث؛ فإن ‏صيغة العقد لا تعزز توافق عمليات الاستبعاد. ولكن فلنلاحظ أن القاضي نفسه (وهو بصدد ‏أداء عمله في تفسير العقد تمهيداً لتكييفه وللفصل في نقاط النزاع بما يرضي العدالة)؛ يعد ‏بمثابة طرف ثالث؛ صحيح أنه ليس من أطراف العقد المعنيين بمضمونه ذلك الذي يرتب ‏حقوقاً والتزامات، لكنه طرف معني بفهمه، ولذلك فعندما يقوم محامي بصياغة العقد، فإن ‏النص سيحول دون مزاحمة أي تصورات للقاضي لفحوى العقد وبالتالي فإن القاضي يمارس ‏استبعاداً لتلك التصورات بشكل سلس، خلافاً لما إذا كان العقد مصاغاً شفاهة أو كتابة من ‏طرفين لا يملكان معرفة قانونية متخصصة، وفي الظروف شديدة السوء، قد يتضرر أحد ‏الطرفين؛ ذاك الذي لا يملك معرفة قانونية عندما يكون الطرف الآخر لديه تلك المعرفة، لأن ‏القاضي سيمارس الاستبعاد بشكل مقارب لما عناه الطرف ذو الخبرة القانونية مستخدماً ‏مؤشرات الاستبعاد في النص. وهنا يكون التفسير أعرجاً، لأن القاضي سيميل إلى فهم النص ‏في مستواه الفوقي ولن ينزل به إلى مستوى الطرف ذي المعرفة العامة.‏
يمثل تفسير العقد معضلة حقيقية، لما عناه المتعاقدان، خاصة في العقود الصورية، او ‏الإلتفافية، والعقود المزدوجة المتعارضة، في عمليات مضاربة سريعة ومتعددة ذات اغراض ‏تخدم مشروعاً واحداً كبيراً. إذ تتزاحم في مخيلة القاضي عشرات التصورات وتصبح عمليات ‏الاستبعاد أكثر صعوبة. ومع ذلك فسنجد أن القانون يضع للقاضي عدة مؤشرات استبعاد، مثل ‏التفسير -عند الشك- لمصلحة المدين، ومثل تحويل العقد، وانتقاص العقد، ومثل إبطال العقد ‏عند الغبن الإستغلالي..فالقاعدة السائدة في الأنظمة القانونية أنه وعند الشك يُلزم القانون ‏القاضي باستبعاد كافة التصورات الضارة بمصلحة المدين. مع ذلك فقانون المعاملات ‏السوداني، وسَّع من هذا المبدأ إذ لم يستلزم أن يفسر الشك لمصلحة المدين بل لمصلحة من ‏يتضرر منه؛ فقد نصت المادة (102) على أنه:( يفسر الشك في مصلحة الطرف الذي يضار ‏من الشرط)، وهذا في الواقع لن يكون تفسيراً للشرط بل توسعةً لسلطة القاضي في منح الشرط ‏معنى خاصاً به يفضي حتماً لإلغاء القيمة الإنشائية للشرط. بل أن الأهم من ذلك هو أن ‏النص حتى في هذه الحالة يعود ويلغي حكمه عندماً يغلق باب تلك المرونة فيفرض دائماً أن ‏ينظر القاضي لمصلحة الطرف المذعن ليمنح النص معنى لا يضر به وفق ما جاء بالجزء ‏الثاني من ذات المادة والتي تستطرد:(ومع ذلك لا يجوز أن يكون تفسير العبارات الغامضة في ‏عقود الإذعان ضاراً بمصلحة الطرف المذعن). ويبدو الاستبعاد على هذا النحو تعسفياً جداً. ‏وعند تحويل العقد يستطيع القاضي أن يقوم بتكييف عقد ما التكييف الذي يحدده القانون ‏مستبعداً سياقات أطراف العقد، وبالتالي فالقاضي ملزم باستبعاد تلك السياقات، وهذا يعيدنا ‏لفرضية امتلاك أحد أطراف العقد لمعرفة متخصصة دون الآخرين، إذ يستطيع أن يختلق شرطاً ‏واسعاً ظاهره تحقيق مصلحة الطرف الآخر وهو في الواقع يحمل فيروسات موته نتيجة ‏للغموض. فعند تحويل العقد، فإن القاضي يلتزم بموجهات القانون نحو تضييق دائرة الاستبعاد، ‏إذ يجوز منح العقد تكييفاً قانونياً أخر مختلف عن تكييف المتعاقدين (م95 من قانون ‏المعاملات المدنية) بحيث يشمل العقد ما لم يكن يشتمل عليه من أوصاف. وفي حالة الغبن ‏الإستغلالي؛ فإن القاضي يستبقي تصورات ذات بعد معنوي فيضيق من دائرة الاستبعاد ‏المفترضة رغم أن تلك التصورات خارج النص القانوني سيميائياً.‏
‏(3-4) الثقافة العامة تعزز من صحة الاستبعاد: سنلاحظ في المادة الرابعة عشر من قانون ‏الإثبات أنها بشكل عام قد منحت القاضي الحق في الاستدلال عبر الثقافة العامة، والتي يطلق ‏عليها بشكل شمولي العلم القضائي؛ إن القاضي في الواقع سيفسر النص (قانوناً أو عقداً) ‏بذهنية (المواطن) لا الأجنبي، ولذلك فإنه يتقارب مع غيره من المواطنين في عملية الاستبعاد ‏بسبب اشتراكهما في مؤشرات الاستبعاد ..إذ ان البيئة الثقافية تعزز من صحة الاستبعاد، ففي ‏جرائم الإهانة الشخصية (كإشانة السمعة أو السب والقذف)، على القاضي أن يتنزل لمستوى ‏الثقافة العامة في الدولة أو في الإقليم داخل الدولة او حتى في ثقافة قبيلة أو جماعة منظمة، ‏فعندما يستخدم المتهم لفظاً ما لإهانة المجني عليه، يجب على القاضي أن يفهم ذلك اللفظ من ‏خلال الخصوصية الثقافية التي ورد اللفظ في حياضها. أي أن عليه ممارسة استبعادات متعددة ‏للتصورات خارج تلك البيئة، فلفظة (جَمَل) في الثقافة السودانية تعني فرج المرأة، وعلى القاضي ‏هنا أن يستبعد التصور الطبيعي لها وهو الحيوان، فإذا قال أحدهم (جمل أمك) لرجل آخر فهذا ‏يعني إهانة لعرض الرجل، وليس للحيوان ذي السنام العالي. هذا بالتأكيد عندما لا تكن أم ‏الرجل تملك جملاً حقيقياً (أي حيوان). فإن كانت الأم تملك حيوان الجمل، فعلى القاضي أن ‏يبحث عن القصد من خلال الوقائع والملابسات والقرائن الظرفية، ليستبعد أياً من المفردتين، ‏ومن ثم ليقضي بالبراءة أو الإدانة. وهذا هو ما يسمى بالموقف اللحظي، فالموقف اللحظي ‏يعزز استبعاد التصورات المزاحمة للتصور المباشر من الخطاب.‏
مع ذلك فإن فهم مؤشرات الاستبعاد نفسها شخصيٌ جداً، ليس فقط بسبب تأثير سيولة الوضع ‏الأنطولوجي للوعي؛ وإنما أيضاً بسبب تأثيرات أخرى نفسية وآيدولوجية وبراغماتية متنوعة، ‏ولذلك تمثل أغلب نظريات القارئ مجرد محاولات للنفاذ في حدود الوعي.‏

قائمة المراجع:‏

• Brian Forst, Terrorism, Crime, and Public Policy, Cambridge ‎University Press, 2009.‎
• David Carter, Literary Theory, Pocket Essentials, 2006.‎
• Evidence Law: Documentary Evidence and Judicial Notice, ‎A discussion paper, Preliminary Paper No 22, Law ‎Commission Wellington, New Zealand, 1994.‎
• Gilles Deleuze , Félix Guattari, Qu’est-ce que la ‎philosophie?, LES ÉDITIONS DE MINUIT, 2013.‎
• Immanuel Kant, The Critique of Pure Reason, Ed. Paul ‎Guyer, Allen W. Wood, CAMBRIDGE UNlVERSITY PRESS, ‎United Kingdom, 1998.‎
• Jérôme Euzenat , Pavel Shvaiko, Ontology Matching, ‎Springer Berlin Heidelberg New York, 2007.‎
• K. M. Newton, Twentieth-Century Literary Theory, ‎Macmillan Education, Second Edition, 1997.‎
• Raman Selden, Peter Widdowson, Peter Brooker, A reader’s ‎guide to contemporary literary theory, Pearson Education ‎Limited, Fifth edition, 2005.‎
• Represntation on mind: New Approaches to mental ‎representation, Ed. Hugh Clapin, Philips Staines, Peter ‎Slezak, ELSEVIER, New York, First Edition, 2004.‎
• The Oxford dictionary of current English, Ed.Delia ‎Thompson, 2nd ed. OXFORD UNIVERSITY PRESS, 1993.‎

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى