رسائل الأدباء رساله الدكتور محمود الربيعي‏ الى ‏فاروق شوشة

‏ الاستاذ فاروق شوشه

احييك‏,‏ واشكرك علي مقالتك الجميله‏ (‏ الاحد (‏2000/4/2)‏ عن ادونيس في القاهره‏.‏ ولدي كلام عن زياره ادونيس ارجو ان يتسع المجال لطرحه او طرح جانب منه‏:‏
حين وجهنا الي ادونيس الدعوه من قسم الدراسات العربيه بالجامعه الامريكيه لم اكن قد رايته في حياتي‏,‏ وان كنت بالطبع قد قرات له وعنه‏,‏ وادركت انه مثير للجدل‏.‏ وحين قبل دعوتنا‏,‏ وكنا في انتظاره‏,‏ ذكرت ذلك في اجتماع ثقافي ضم بعض زملائي‏,‏ مقدرا ان ذلك سيثير اهتمامهم ورضاهم‏,‏ فقال قائل شاب منهم‏:‏ وما الذي بقي لدي ادونيس ليقدمه؟ ثم اتبع ذلك بقوله‏:‏ انكم في الجامعه الامريكيه تستيقظون بعد ان يكون الناس قد استيقظوا وناموا‏!‏ ولم اعلق وقتذاك علي كلامه بشيء وان كنت عجبت للنظر الي الشعراء علي انهم مثل صيحات الموضه‏,‏ تشتعل الرغبه فيهم في موسم‏,‏ وتزول عنهم في الموسم الذي يليه‏!‏
وجاء ادونيس‏,‏ والتقي بجمهوره في الجامعه في محاضرتين تخللتهما قراءات شعريه‏,‏ واعقبتهما مناقشات مستفيضه‏.‏ وحين استحضره الان شخصا وفكرا وشعرا اري نفسي راغبا في ذكر الملاحظات التاليه‏:‏
‏1‏ يجيد ادونيس فن الانصات الي الغير‏,‏ ويبدي اهتماما احسبه فطريا بما لدي الاخر‏.‏ وهذه فضيله عظمي في ضوء ما نلاحظه عند غيره ممن تتملكهم دائما الرغبه في الحديث والعزوف عن الاستماع‏.‏ وهم اذا استمعوا مضطرين اثبتوا حين يستانفون حديثهم انهم انما استمعوا باذن صماء‏.‏
‏2‏ يستخدم ادونيس لغه عربيه صحيحه دقيقه‏,‏ مليئه بمستويات الدلالات والمعاني‏,‏ متضاعفه النسج والتراكيب‏,‏ حافله بالصور والمجازات الكاشفه‏,‏ لا كانواع اللغه التي نعاني منها في شتي الوان الخطاب‏,‏ من العجمه المتفشيه والاستغلاق والغموض والتحجر في ناحيه‏,‏ والشقشقه والانشائيه الفارغه والتهويم والسطحيه في جانب اخر‏.‏
‏3‏ يمتلك ادونيس رصيدا ووعيا واسعين بالحضاره العربيه في معناها الاعم‏,‏ والثقافه العربيه في معناها الاخص‏,‏ مما تناوله مقالكم الجميل‏,‏ ثم ثروه كميه ونوعيه من الادب العربي شعره ونثره‏,‏ تلون حديثه العادي‏,‏ وتشكل اصول البرهنه‏,‏ واطار الفكر لديه‏,‏ بحيث تصبح حاضره دائما في سدي ولحمه المحاجه عنده‏,‏ في الاشاره الداله‏,‏ والاستشهاد المعبر‏,‏ والامثله الكاشفه‏.‏ تلك هي الحداثه الضاربه بجذورها في تربتها الطبيعيه‏,‏ العليمه بتضاريس الماضي ومنحنياته‏,‏ المازجه لخلاصه ما كان بخلاصه ما هو كائن‏,‏ والمتطلعه من موقف صلب راسخ لخلاصه مايكون‏.‏
كانت قضيه المرجعيه هي حجر الزاويه في طرح ادونيس‏:‏ هل من اللازم ان نرسي مقياسا نقيس به المحدث من غير المحدث او ان الامر يترك للهوي بحيث يمكن نظريا ان نبدا من منطقه الصفر في كل حاله؟ واذا لم يكن لديك تصور واضح عما ستنكره وتخرج عليه بغض النظر عما ستخرج اليه فهل يعدو الامر ان يكون قفزه من الظلام الي الظلام؟ وعليه فان من ليس مسلحا بما كان ليس مسلحا بداهه بما سيكون‏.‏
لقد اثارت هذه النقطه بالذات ثائره شباب الحداثه علي شيخ الحداثه‏,‏ وذلك لانها كشفت لهم فجاه عن ان الحداثه ليست كلمه تقال‏,‏ وانما فكر ترسي قواعده‏,‏ ومعني هذا انها كغيرها محتاجه في استيعابها الي موهلات‏,‏ وهذه الموهلات تحتاج الي ادوات‏,‏ وهذه الادوات تحتاج الي مواهب‏,‏ وزمن‏,‏وامور اخري‏..,‏ لكن من الذي يريد ان ينصت الي ذلك‏,‏ وقد جاء راكبا موجه جاهزه اسمها الحداثه‏,‏ فهو ليس علي استعداد حتي لمناقشه مجرد معناها‏.‏ وحين جلست استمع الي الشقاق الذي دب بين الشباب والشيخ ادركت انني وانا الذي لست حداثيا ولا اقبل ان اكون اقرب الي فكر ادونيس وموقفه من الذين جاءوا مصفقين له‏,‏ ثم انصرفوا غاضبين عليه حين خاب املهم فيه‏.‏
في مناقشه من المناقشات سئل ادونيس هل يشتم مصر او يعاديها‏,‏ فتحدي السائل ان يبرز له وثيقه مكتوبه او مسموعه تثبت ذلك‏,‏ وكان واضحا ان السائل لم يقبل التحدي‏.‏ ولقيت ناقدا يبني شهرته علي الحداثه وتبني قصيده النثر ليله انشاد ادونيس في الاوبرا فطلبت اليه ان نذهب معا للاستماع‏,‏ ظنا مني ان ذلك سيبهجه‏,‏ ولكنه ابدي رفضا بل انزعاجا‏,‏ ولما سالته عن السبب‏,‏ ردد القول ذاته‏:‏ انه يشتم مصر‏.‏ وقرات لبعض من لا تعرف عنهم خبره بالشعر العربي قديمه او حديثه يستنكرون دعوه الجامعه الامريكيه لادونيس‏,‏ عاجزين عن ذكر سبب ادبي واحد لذلك الاستنكار‏,‏ ومسجلين علي انفسهم عدم احترام حريه الاخر في ان يدعو من يشاء‏.‏
حين تكون القضيه المطروحه هي الحضاره العربيه‏,‏ او الشعر العربي‏,‏ يكون من الخسران المبين اختزال ذلك في نقرات اقليميه لا تري ابعد من مواطيء اقدامها‏.‏ واذا وجد حماه الثقافه او حماه الشعر تناقضا ما بين ما هو عربي وما هو مصري فانهم يكونون في ازمه حقيقيه‏.‏ ومن الظلم البين لمصر التي قطعت شوطا بعيدا في الابداع والتحديث علي مدي قرنين من الزمان ان تحجم علي بعض ابنائها من قصار النظر الي مجرد عنصر منافس لعناصر هي في واقع الحال من صميم تكوينها‏.‏
بقيت حكايه بكاء ادونيس امام جمهوره في مناسبه من مناسبات معرض الكتاب‏,‏ وقد نقلتها الي زميله علي سبيل استنكار موقف ادونيس ولومه علي البكاء‏,‏ فاجبتها علي سبيل الدعابه‏:‏ حسنا فعل ادونيس حتي نعرف علي الاقل ان له دموعا كغيره من الناس‏,‏ ثم ذكرت لها قول القائل‏:‏ لم يخلق الدمع لامرئ عبثا فلم تبد اهتماما كبيرا بما قلت‏.‏ وحين ذهبت لوداع ادونيس قبيل سفره طلبت اليه ان يروي لي قصه دموعه هذه‏,‏ فقصها علي بنبره صدق اكدت عندي الصوره التي كنت قد بدات في تكوينها عنه‏;‏ قال‏:‏ لقد بكيت تاثرا بكلمات مرحبه واستقبال جميل حظيت بهما في المقهي الثقافي بعد هجوم ظالم علي في اليوم السابق اتهمت فيه بعداوه مصر‏.‏ ثم اردف قائلا‏:‏ لقد فسر بعض الصحفيين دموعي علي انها دموع الهزيمه‏,‏ وهكذا تري انني ظلمت مرتين‏!‏
يقدم لك ادونيس ما عنده علي نحو يخلو من اي قدر من الوصايه او الضغط او القهر‏,‏ وتشعر انك امن اذا خالفته في الطريق‏,‏ وانك لن تتعرض لغضبه او اذاه‏.‏ اما روحه العاليه المرحه‏,‏ واكتراثه بمحدثه‏,‏ فتضعانه شخصيا وانسانيا في مكان رفيع‏.‏

د‏.‏ محمود الربيعي
استاذ بقسم الدراسات العربيه بالجامعه الامريكيه

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى