مقتطف شريف محيي الدين إبراهيم - شارع العزب.. (رواية)

الفصل (٦٠)
٢٥ يناير

عندما قال مبارك عبارته الشهيرة :
أنا أو الفوضى؟!
كان الشعب المصري, قد بلغ حالة من الغضب لا يفلح، معها أي مسكنات أو مهدئات، فتدافع الملايين في مظاهرات مليونية حاشدة، ربما لأول مرة تشهدها المحروسة على مدار تاريخها قاطبة.
فقر، وبطالة، وغلاء.
انهيار المنظومة التعليمية،وتداعي النظام الصحي.
غياب العدالة الاجتماعية، وخلل في توزيع الثروات.
استبداد، وطغيان لرجال الشرطة، و أعلى معدلات للفساد والمحسوبية، في كل مؤسسات الدولة.
حتى جاءت انتخابات مجلس الشعب التي أدارها المهندس أحمد عز،القيادي بالحزب الحاكم ، وقام بعملية تزوير فاجرة، نتج عنها، سيطرة مشبوهة لأعضاء الحزب الوطني على جل مقاعد البرلمان ، لتكون تلك هي القشة التي قصمت ظهر البعير ..
وحدث حرفيا ما قاله... مبارك
فهو ما أن قام بتفويض سلطة الحكم للمجلس العسكري بقيادة المشير طنطاوي، إلا وسادت فوضى عجيبة، في أرجاء البلاد.
اختفت قوات الشرطة تماما من المشهد...
وتشكلت عصابات مجهولة الهوية، مسلحة بأحدث الأسلحة، لمداهمة البنوك، َوماكينات الصرف، والمحلات، والشركات وكل مؤسسات الدولة،بل والمستشفيات، والمتاحف ،و تم ترويع الجموع في المناطق السكنية من الناس العزل ، رجال و نساء.
شيوخ و أطفال.
وبات الرصاص الحي، يطلق بصورة عشوائية، وحشية، وبكميات هائلة،
مما نتج عنه الآلاف من القتلى والمصابين.
وسيطرت حالة من الرعب والذعر بين الجميع.
فرض الجيش حظر التجوال.
تشكلت لجان شعبية في كل منطقة أو شارع لحماية الناس وممتلكاتهم، و اختلطت الثورة بالمؤامرة،من جهات داخلية، وخارجية أجنبية وعربية.
حتى غرقت الدولة، كلها في مستنقع الفوضى الرهيب ....
بين جماعات شتى...
الفلول،المتواطئة، ، والفئات المندسة، والخونة والمتأمرون من الخارج، وانتقام رجال الشرطة، وسيطرة، الجماعات المتأسلمة التي تسعى لفرض نفوذها.
في شارع العزب...
كنا نتناوب الحراسة مع بعض ليلا، مع استخدام العصي أو السكاكين، أو السيوف أو حتى المسدسات كوسائل دفاعية شعبية تحمي كل منطقة نفسها برجالها، وكأنها حرب عصابات.
الأمر العجيب هو أن المعلم منصور، جارنا القديم، تاجر
المخدرات، هو ورجاله صاروا الملاذ الأمن لنا.
وباتوا ، هم المسؤلين عن حمايتنا،
وقد كان، وجود منصور بيننا، فعلا، هو أعظم درع للمنطقة كلها.
وبين عشية وضحاها صار المعلم منصور هو مدير أمن الشارع، الحاكم الأمر الناهي به ، فلا يجروء أي غريب على الدخول أو الخروج إلى منطقتنا إلا بموافقته.
وقد كان هذا مصدر حسد لنا من جميع الشوارع المجاورة.
***
أغلقت الشركة وتوقفت عن ممارسة نشاطها مثل جميع الشركات والمؤسسات الخاصة، أو التابعة للدولة.
و انتشرت الجماعات الإسلامية، وكأنهم يعلنون عن وجودهم على الساحة السياسية بقوة الأمر الواقع.
فانتشروا في الشوارع وقدموا الدعم المادي والعيني للعديد من الأسر الفقيرة، مثل السكر والدقيق والزيت، في محاولة منهم لتوصيل رسالة محددة، تعبر عن قوتهم، وكيف أنهم صاروا هم الحل، والملاذ الأمن للشعب
***
ساد القلق بين موظفين الشركة، البعض توقع أن توقف الشركة نشاطها تماما وتقوم بتسريح جميع الموظفين،
إلا أن رباح قال لي :
الأمريكان لم يحصلوا على موقع في الأرض المصرية، بامتلاكهم لهذه الشركة بسهولة، فقد كان هدفهم الرئيس التواجد على الأرض المصرية ، لذلك فإنهم لن يفرطوا في هذه الفرصة بسهولة.
بل بالعكس، إن الفرصة الآن أضحت مناسبة لتمكينهم، وفرض نفوذهم بصورة أكبر.
ولم أفهم وقتها، مقصده تماما إلا أنني فهمته جيدا بعد مضي عدة سنوات!!
اعلمني رباح أيضا أن بعض قيادات الشركة من الأجانب المتواجدين في فروع الشركة خارج مصر، قد قاموا بتجهيز حمولة طائرة من المواد الغذائية، على سبيل المساعدة لجميع زملائهم من الموظفين في مصر
، مع استعدادهم لاستقبالنا في الخارج في حال إذا استدع الأمر ذلك.
وبينما كانت أقسام الشرطة، ومقار أمن الدولة، تحترق في كل مكان
والجميع في حالة ذعر محتجز داخل بيته، لا يغادره، إلا للضرورة القصوى، أو في جماعات، أو للقيام بواجبه ليلا مع اللجان الشعبية المسئولة عن الحراسة.
في هذا الوقت فاجأني عمرو هندي -جاري القديم بشارع العزب، الذي هاجر إلى أمريكا- باتصاله ، وهو يعرض على استقبالي، وأسرتي في بيته، في أمريكا قلت له:
ليس الحل هو أن نهاجر ، ونترك لهم البلد.
قال :
ما نراه في الإعلام، الأمريكي يجعلني أقلق عليك.
شكرته على اهتمامه، وقلت له :
مهما يحدث فلا تقلق على أو على مصر،ولا تصدق كل ما تسمعه من الإعلام الأجنبي، لازالت مصر دولة عظيمة.
***
بعد أن أقيل سامي عسكر، تعرضت فيولا لمحنة قاسية، وخاصة بعدما تم نقلها لتعمل، كموظفة عادية تحت رئاستي ، الحق أنني حاولت أن أعاملها بمنتهى الحيادية، وقد راعيت من المنطلق الإنساني، حالتها النفسية، المنهارة بعد رحيل عسكر.
ولكنها لم تتحمل وجودها تحت رئاسة شاب يصغرها بأكثر من عشرة سنوات،بعد أن كانت هي المتحكمة الأمرة، للفرع كله فقدمت استقالتها، وتركت الشركة.
الأمر العجيب : أنني علمت بعد ذلك أنها حاولت التواصل مع عسكر إلا أنه تنكر لها، فما كان منها إلا أن اعتزلت الناس ، ومكثت في منزلها، مع حالة من التدين الشديد ،وصلت بها إلى الزهد في الحياة كلها ، حتى سلكت في النهاية طريق الرهبنة، واعتكفت في أحد الأديرة المقدسة، في صعيد مصر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى