مقتطف أيمن مصطفى الأسمر - أحوال عائلة مصرية (جزء 5)

(جزء 5)


محمد عبد الهادي

في تطور لم أسع إليه وقع بيني وبين مدير الشركة صدام حاد، بدأ الأمر باستمرار مسؤولي الشركة في انتهاج سياسة واضحة لإرغامنا على القبول بالتخفيضات المتتالية في النسب الشهرية التي نحصل عليها أو الرحيل، كانوا على ما يبدو يستغلون التوافد المتزايد للعديد من الخريجين الشباب على الشركة بحثا عن عمل، تزامن مع هذه السياسة استمرار المعاملة الخاصة التي يلقاها الزميل صاحب الحظوة والنفوذ مما أثار حالة مـن التذمر الدائم بيننا، تطور الأمر إلى التعامل معنا بطريقة غير لائقة أصبحت لا تخفى على أحد، وعندما اجتمع بنا مدير الشركة ومعاونوه لعرض السياسة الجديدة للشركة كان كلامه مستفزا بل وقحا في كثير مما قاله، لم أتحمل الأمر فواجهته بالخطأ الذي وقع فيه، حاول ومعاونوه مقاطعتي إلا أنني أصررت على مواصلة حديثي في هدوء شديد رغم حالة الغليان الداخلي التي أعاني منها، تحدثت بصراحة عن رأيي في السياسة المتبعة مع المندوبين، وعن سوء المعاملة رغم ما نحققه من أرباح كبيرة لشركته، واجهته أن استغلال حاجة الشباب للعمل كوسيلة لابتزازنا هو أسلوب دنيء لا يتناسب أبدا مع شركة محترمة ولها وضع مميز في السوق، أشرت له أن المعاملة الخاصة التي يلقاها البعض لأسباب لا تتعلق بالكفاءة هو أمـر غير مقبول أخلاقيا ومهنيا، على الفور وُجِهت بسيل من الألفاظ البذيئة من معاونيه لا يصح أن تقال في مكان مثل هذا، لم أرد عليهم إلا أنني خاطبته قائلا أنه لم يعد يشرفني الاستمرار بالعمل في هذه الشركة وأنني سأرحل عنها بعد تسليم عهدتي والحصول على مستحقاتي، رد بأنه لا مستحقات لي عنده، قلت أنني سأحصل عليها بالقانون، ضحك باستهزاء، خرجت من قاعة الاجتماع وأنا لا أعرف ماذا أفعل، كتبت استقالتي وطالبت فيها بإخلاء طرفي وصرف مستحقاتي، رفضوا استلامها فخرجت من الشركة وقمت بإرسال صور منها إلى العديد من المسئولين المعنيين بالأمر ثم توجهت إلى أقرب قسم شرطة وحررت محضرا بما حدث وأرفقت به الاستقالة ومفاتيح السيارة التي أعطوها لي.

عدت إلى المنزل وأنا في حالة شديدة من التوتر، تخلصت من أسئلة أمي بصعوبة بالغة إلا أنني لم أستطع أن أخفي شيئا عن سمر، حكيت لها كافة التفاصيل التي لم تكن تعرفها عن عملي بالشركة، بكت بشدة ثم قالت:

ـ كنت أدرك أن في الأمر ما يريب لكنني خشيت أن أثقل عليك بهواجسي.

استمرت في البكاء بصورة حادة فسمعتها أمي ووفاء، دخلوا علينا فانتقلت عدوى البكاء فورا إلى أمي دون أن تعرف حتى شيئا، هدأت سمر وحاولنا جميعا أن نهدأ من روع أمي، توقفت عن البكاء بعد فترة ثم أصرت أن تعرف حقيقة الأمر، لم يكن هناك مفر من أن أشرح لها ما حدث باختصار، لم يكن على لسانها سوى كلمات قليلة ترددها:

ـ يا حبيبي يا ابني .. يا حبيبي يا ابني.

عندما عاد أبي وكان عند زملائه يبحثون ما استجد من أمور الشركة أخبرته بما حدث، انفعل بشدة وقال:

ـ لا حول ولا قوة إلا بالله .. أصبحنا نعيش في غابة، لا احترام للقانون .. لا احترام حتى لكرامة إنسان أو كفاءته.


سمر

صدق حدسي ولم أتفاجئ مطلقا بما تعرض له محمد من متاعب بالشركة، ورغم توقعي لما حدث إلا أنني لم أتمالك نفسي عندما عاد ذات يوم بائسا متوترا تملأه الحسرة والحيرة وحكى لي ما حدث له، انفجرت في البكاء رغم أنه كان بحاجة لقوتي وحناني لا لضعفي ودموعي، ازداد الأمر سوء بمعرفة أمه واخته لما حدث، لم تعد زوجة عمي في حالة تسمح لها بتحمل تلك الأحداث والمصائب، كان ما يمر به عمي منذ عدة شهور وعلاقتها المضطربة مع وفاء قد أثرا كثيرا على قدرتها على التحمل، وجعلا منها بركانا قابلا للانفجار في أية لحظة .. وقد وقع الانفجار بالفعل، أصبح كل همنا في هذه اللحظة أن لا نفقدها، نجحنا في هذا بصعوبة بالغة لكنها ظلت تذوي أمامنا يوما بعد يوم، حتى وفاء التي كانت قد ابتعدت عنها لفترة ليست بالقصيرة عادت لتهتم بها وتحافظ على مشاعرها بصورة أفضل عن ذي قبل، تتابعت الأيام ونحن نعيش في دوامة التحقيقات والبلاغات المتبادلة بين محمد ومسئولي الشركة التي كان يعمل بها، كان الأمر أصعب من ذي قبل، الآن عاد محمد ليصبح عاطلا من جديد لكنه مطالب أيضا بالدفاع عن نفسه وإثبات براءته مما اتهم به، بذل محاميه والمحامون الذين أحضرهم عمي جهدا كبيرا، بدا الأمر شاقا ولا نهاية له، في ظل كل هذا بدأت أعاني من بعض المتاعب الصحية اليومية، ظننت في البداية أنها ناتجة عما نعيشه من قلق وتوتر، لكنها استمرت بصورة متصاعدة، عندما ذكرت ما أشعر به لزوجة عمي انقلب وجهها على الفور من وجه عجوز محمل بأثقال لا أمل في الخلاص منها إلى وجه شاب نضر يمتلأ حيوية وإشراقا، أطلقت زغرودة فرحة وقالت وهي تضحك:

ـ أنت حامل يا ابنتي .. الحمد لله .. الحمد لله.


محمد عبد الهادي

تم استدعائي للمثول أمام النيابة متهما بتبديد عهدتي وعدم سداد الشيكات التي سبق أن وقعتها عند بداية عملي بالشركة، أصبح واضحا أنه هناك حالة من الحرب قد بدأت بيني وبين المسئولين بالشركة، لجأت إلى صديق يعمل محاميا وحكيت له الأمر بكامل تفاصيله، أخبرته عن الشكاوى التي رفعتها والمحضر الذي حررته وعن الاتهامات الموجهة إلي، صارحني أن الموقف ليس سهلا لكنه أثنى على ما فعلته قائلا:

ـ قد يكون المحضر وهذه الشكاوى وسيلة للمساومة والخروج من هذه الورطة.

لم أعلق على ما قاله رغم عدم ارتياحي لمبدأ المساومة، من جانبه قرر أبي اللجوء إلى من يعرفهم من المحامين الذين ساهموا في إخـراج رفاقه من السجن، أشاروا علي بأهمية تحويل القضية إلى قضية رأي عام وذلك بفضح الممارسات التعسفية التي تعرضت لها علنا، تحمس عدد من زملائي بالشركة وقرروا التضامن معي ومساندتي في فضح ما تعرضنا له من ابتزاز وسوء معاملة، خاف البعض الآخر رغم تعاطفهم معي إلا أنهم لم يتمكنوا من التضحية بفرصة العمل القائمة رغم مساوئها، لجأنا إلى عدد من وسائل الإعلام كنوع من أنواع الضغط على الشركة لإسقاط التهم الموجهة ضدي، في خضم كل هذه الأحداث المتلاحقة تفاجأنا بخبر سعيد لم نكن نتوقعه جميعا، كانت سمر حاملا في طفلنا الأول.


"الأسطى" عبد الهادي

في جلسة لمحاسبة الذات اعترفت بفشلي وزملائي في تغيير المصير البائس للشركة، رغم نجاحنا الملموس في الشارع وعلى الصعيد الإعلامي والمعارك الصغيرة التي ربحناها .. إلا أننا وبوضوح شديد قد خسرنا الحرب، كان هدفنا الرئيسي هو منع بيع الشركة وقد فشلنا في ذلك، تذكرت ما قالته لي "أم محمد" ذات يوم: إذا كنتم ستخسرون معركة بيع الشركة فكيف ستكسبون ما هو أكبر من ذلك؟ لصدمتي انهارت مقاومة الكثيرين من زملائنا، وافق بعضهم على قبول المعاش المبكر وقرر آخرون قضاء ما تبقى لهم في صمت وقبول ما تأتي به الأيام إلى أن يحين أوان خروجهم الطبيعي إلي التقاعد، قلة قليلة قررت ألا تتخلى عن السلاح، ظلت في حالة رفض قاطع لما جرى وأصرت على مقاومة الوضع الجديد والاستمرار في إثارة القضية بشكل مستمر وبكل السبل المشروعة، لم تعد القضية قضية شركتنا فقط بل أصبحت قضية بيع البلد أو ما يسمى تأدبا الخصخصة، تلك العملية التي تجري بوتيرة متصاعدة ودون تفكير عقلاني في العواقب، قرر من ثبت منا على قرار المقاومة تشكيل مجموعة عمل دائمة يمكن تطويرها لتضم آخرين لشن حملة لا هوادة فيها ضد سياسة البيع المتسرعة والتي تفوح منها روائح كريهة في أغلب الأحيان، قررنا ألا نكون صدى لأي أحزاب أو جماعات سياسية موجودة على الساحة، أصر الأستاذ محمود على هذه النقطة تحديدا بعدما خذله الحزب الذي ينتمي إليه أثناء فترة اعتقاله، لكننا رغم هذا القرار لم نغلق باب التعاون فيما يخص مصلحة قضيتنا مع أحد، غاب "الأسطى" حسين عن الاجتماع، كـان التدهور الحاد في حالته الصحية منذ اعتقاله لا يزال مستمرا، ذهبت لزيارته أنا والأستاذ محمود في منزله، كان وحيدا، لا زوجة له ولا ولد يعتنيان به، لا قريب ولا جار يهتم بأحواله، رجل في سنه الذي اقترب من الستين يعاني من متاعب صحية شتى وانكسار نفسي لا سبيل لعلاجه، يعيش بين أربعة جدران تملؤها ذكريات كفاحه المهني الذي وهب له حياته، لم يتمالك نفسه عند رؤيتنا فأجهش في البكاء، لم أستطع مقاومة الحزن الذي ملأ عينيه، قلت له بصوت خفيض:

ـ شد حيلك يا "أسطى" حسين.

قال وهو يبكي:

ـ ذبحونا يا عبد الهادي .. ذبحونا.


وفاء عبد الهادي

رغم كل احتياطاتي وقع المحظور، ضبطت نفسي وأنا أحس بمشاعر جديدة تنمو داخل صدري، كان زميلا يسبقني بسنوات في الكلية، شاب وسيم لبق من أسرة مرموقة، رغم كل محاولاتي لقمع هذه المشاعر إلا أنها تمكنت من التسلل إلى قلبي ونجحت في السيطرة عليه تدريجيا، توقفت على الفور عن المخطط الانتقامي الذي كنت أقوم به طوال الفترة السابقة لاستسلامي لهذه المشاعر، اندهش الزملاء والزميلات للتغير المفاجئ في طريقة تعاملي معهم، انعزلت تقريبا عن الجميع، بدأنا في التقابل بصورة حذرة، حاولت قدر استطاعتي التشبث بمسافة ما تفصل بينه وبيني، نجحت في ذلك فقط لأنه ساعدني على ذلك، بت أخشى من نفسي .. من حبي الجارف له .. لو أرادني لحصل علي، من جانبه حافظ وليد على قدر عال من التهذيب واللياقة في علاقته معي، بعد فترة اختلفت صورة الدنيا .. اختفي السواد الذي كان يملأني ويملؤها، عادت علاقتي بأهلي كأحسن ما تكون ولكن عن حق هذه المرة، كان تغيري واضحا للجميع، امتلأت أمي سعادة رغم الظروف الصعبة التي نمر بها نتيجة للمشاكل التي يعاني منها أبي وأخي، ما أجمل الحياة!

محمد عبد الهادي

خلال الفترة التي قضيتها عاطلا أعاني من مضايقات بدا لي أنها لن تنتهي مع شركة توزيع الأدوية، وفي الوقت الذي كنا ننتظر فيه جميعا مرور الأيام حتى يحين موعد ميلاد طفلي المرتقب فاجأني عرض للعمل خارج مصر، كان عرضا للعمل بالمملكة العربية السعودية .. وللحق كان عرضا مغريا للغاية، ورغم اعتراض أمي وسمر على فكرة السفر في هذا التوقيت بالذات فقد اتخذت قرارا بالاستجابة للعرض، كان القرار صعبا، فمشاكلي مع الشركة رغم أنها كانت في طريقها إلى الحل إلا أنها لم تنتهي بالفعل، كما أن فكرة السفر دون أن أرى طفلي الذي انتظرته طويلا كان أمرا يشكل ضغطا نفسيا وعاطفيا لا يمكن تجاهله، أقنعت نفسي بأنه لا يجب أن أغلق هذا الباب الذي فُتح لي دون أن أطرقه، وأنه قد يكون طوق نجاة مما أعاني منه من أزمات، بدأت في إعداد أوراقي جنبا إلى جنب مع إنهاء مشاكلي مع الشركة، لم أرد أن أترك شيئا ما يقلقني وأنا بالخارج، كان إغلاقي لهذا الملف بصورة نهائية قبل سفري معجزة حقيقية لم أحلم حتى بها.

سمر

للمرة الأولى منذ زواجي بمحمد أشعر أنني وحيدة تماما، ورغم وجود عمي وزوجته ووفاء من حولي ومحاولاتهم جميعا تخفيف صدمة سفره علي إلا أنني بالفعل أشعر بوحدة لا حدود لها، كنت أحلم أحيانا أنني أعيش أنا ومحمد في جزيرة مهجورة، أنا وهو وحدنا لا نعرف شيئا عن العالم ولا يعرف العالم عنا شيئا، كان حلما ساذجا أعرف يقينا أنه لن يتحقق أبدا، لكنه الآن تحقق جزئيا، وذهبت بمفردي إلى هذه الجزيرة المهجورة، حتى طفلي .. طفل محمد الذي ينمو يوما بعد يوم داخلي .. أجهضت فرحتي بانتظار مولده، ملابسه ولعبه وأشيائه التي كنت أتمنى أن أشتريها له مع محمد أخرج لشرائها مع وفاء أو زوجة عمي فلا أدر ماذا اشترينا، صحيح أن محمدا أتصل بي عدة مرات بعد وصوله وطمأنني على أحواله إلا أنني لا أشعر بالراحة على الإطلاق، بالليل أتخيل أنه ينام إلى جواري، أنتظر أن يحتضنني، يداعب شعري، يقبلني، يحتويني تماما فأذوب بداخله ويذوب بداخلي، أنتظر وأنتظر ثم أكتشف أنه ليس موجودا فأظل أغلب الليالي ساهرة لا أنام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى