مقتطف خيرة جليل - الفصل الاول: أحداث فرقها القدر وجمعتها الجائحة .....مقتطف من رواية نساء الڭِرِّيرُوس ....خيرة جليل

الفصل الأول

حين قررت كتابة هذه الرواية والتي أقل ما يقال عنها أنها رحلة تعددت أزمنة حكيها ما بين الماضي البعيد والقريب والحاضر المشوش والمستقبل الغامض ...شخوصها سقطت غائبة عن أجسادها حين احتجزت بقاعة انتظار بمطار دولي، فأحست وكان أجسادها ليست ملك لها، وبينها وبين الأجساد الأخرى حقيقة يجهلونها وتفصلها مسافة أميال حتى تستوعب حقيقة بسيطة لوضعها الراهن.هؤلاء الأشخاص يحتاجون لتجاوز ذواتهم في حد ذاتها بقدرة فائقة لاستيعاب كل ما يدور حولهم بصفة مستمرة. في امكانية هذا التجاوز هناك نسج لأحداث روايتهم فترافقه متعة سقوط الوجود في حد ذاته حيث يسقط معه الحاضر المضارع والمستقبل الغامض وتسافر هذه الذوات في طيات الماضي البعيد لتغرق في أحداثه الموغلة في التفاصيل الدقيقة والأحداث المتشابكة .
الكثيرون قد يتسىآلون عن من أكون؟
في الواقع، ليس مهم لقارئ أحرفي هذه أن يعرف من أكون ككاتبة ؟ لأن ليس لاسمي وزن بين كتاب احتكروا الساحات الأدبية وواجهات البرامج التلفزية العبثية والجدية على حد سواء، لكن سألخص من أكون بدون تضخيم للاشياء، أنا كاتبة متمردة حتى على صورة وجهها بالمرآة حين تقف أمامها كل صباح. أنا إلهام الطاهري جليل، يقولون عني أني خيْطٌ يرتق جروح أحداث فرقها القدر بسخاء وجمعتها جائحة كورونا بمكر، لكن الشيء الأكيد هو أن لذلك حكمة إلهية نجهلها نحن الآن. فأنا لم أكن إلا كاتبة وجدت نفسها محتجزة رفقة بعض أفراد عائلتها المغربية الإسبانية الأرجنتينية وصديقتها الفرنسية المكسيكية بمطار محمد الخامس الدولي بجائحة كورونا أو ما أطلق عليه كوفيد
19. أحسست بأهمية مقولة "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم" كما أدركت معنى : إنَّ في العِلل (المصائب) لَنعما لا ينبغي للعاقل أن يجهلها، فهي تمحيص للذنوب، وتَعْرض الثواب للصبر، وإيقاظ من الغفلة، وتذكير بالنعمة في رحال الصحة واستدعاء للثوبة وحث على الصدقة ."
في اليوم الأول، فرض علي كباقي المسافرين حظر السفر في ظل إغلاق المطارات الدولية في إطار الاجراءات الاحترازية، لكن لم يفرض علي ضرورة مغادرة قاعة الانتظار كباقي المسافرين الذين تشبثوا بحقهم في السفر وعدم عودة أدراجهم. هكذا كنت بصلب الحدث وجمعني القدر برفقة ستكون محور كتاباتي وتشاطرني أسباب تواجدها بنفس المكان والزمان، فحملتني على أحنجة السرد إلى عوالمها البعيدة في الزمكان. الحديث معها كان سجيا فكانت مغامرة رفقتهم بالحكي وجبة دسمة وثقيلة ومسلية للذاكرة؛ وتصور احداثها محاولة لقطف فاكهة من شجرة مقدسة كلماتها جارية خرساء ترقص عكس ايقاع الموسيقى وأجراس تحركها عواصف الماضي البعيد والقريب على حد سواء... ترمم شروخ فراغات الرغبة الجائعة المتجولة بين دروب النسيان وأزقة الخذلان بشواطئ الغياب على حافة الانتظار الممل والمفزع، أما مارد الفضول فقد قام بتقطيع سلاسله وحاول التنفس بروية وحذر ليتسلل للأرواح المشرئبة للحياة والتي تطوف بمعابد المكان كي تتعطر بذكرى المحاولة لتصبح الكتابة سلطة كيان من نور وذات من لجين هلامية الشكل منزلقة بين الاصابع كالامساك بسمكة ؛ كلما مارست طقوسها زادت حريتها وطارت بأجنحة شفافة مع نسيم الصباح حيث شاءت لا كما شاؤوا لها لكن إن زادت في بوحها زادت خطاياها واتهموها بالتعري، وهذا ما لم يكن يوما رمزا من رموز الرقي والحضارة. فكل الأشياء كلما كانت غامضة زاد وهجها؛ وإن افتقدنا جزء منها زادت الرغبة فيها؛ وأصبحنا اكثر اشتهاء لها ولا تعلا عن لذتها لذةمادام كل كل ممنوع بالنذرة المفروضة أو المنع المقصود مرغوب. من كان يصدق أن هذه الجائحة ما هي إلا جرسا أيقظ بداخلنا أشباح الماضي من طاعون أسود ومجاعات ومخاويف الحاضر وأزمة تدبير وضعياتنا المشكلة التي لم نكن ندرجها في برمجة مخططاتنا اليومية، فعرت المستور المخزي والمسكوت عنه الجماعي وأصبحت ذواتنا عارية أمام أعيننا كجسم نحيل بجلد أصفر تبرز منه أضلعنا....حاضر برهن وبكل المقاييس أننا مستهترين إلى درجة العبث ومهملين حد الامتعاض وخنوعين حتى النخاع وغير مقدرين لقيمة لا الوقت كرأسمال حقيقي ولا الزمن كبعد منطقي وما يلقنه لنا من دروس يومية. وقفنا أمام غموض المستقبل وارتجالية حلولنا لتدبير أزمتنا ماديا ونفسيا واجتماعيا......يا لفظاعة أنظمتنا ولفداحة واقعنا وهشاشة تدبيرنا وخسارة احترامنا لأنفسنا...... قد تحير العقول وسط متاهات الكلام؛ وأحيانا يجب انتعال قلوبنا حتى نمر بدروب لم نرغب يوما بالمرور منها، وأحيانا أخرى نكافىء يد الغدر ونقبلها حتى نستطيع قطعها، فالكلمات تتمازج ببعضها البعض كالخمر المعتقة و"ماء الحياة " فتزداد المرارة مرارة مضاعفة بوثيرة اقبالنا عليها؛ ومع ذلك نقبل عليها بلذة وشغف فيزيد غباءنا ونزداد نحن ثمالة ويزيد بعضنا نذالة، ليصبح الجيد منا أكثر مكرا مما كنا نتوقعه.
ماذا سنفعل لو أنَّ الحياة اختارت لنا قصة غريبة أدخلتْنا في حكاية عجيبة؟ ماذا لو كتبتْ لنا سيناريو دخول دروب وعرة بمداخل متفرقة وبلا مخارج محددة حتى ندور في نفس الدوامة المغلقة ؟ هل سنبقى متمسِّكين بها مهما كلفنا الثمن؟ أم أننا سنتركها بإرادة قوية غير آسفين عليها؟ أم سنواجها ونتبث لأنفسنا أننا نحن من يغير القدر بالأفعال المسؤولة والإرادة القوية؟ هل فعلا لدينا القوة على الإيمان العميق بأن دروبنا خيرأهدانا إياه رب العالمين، ونصيبنا كان مكتوبًا عنده حتى قبل أن نطلق أول صرخة مقبلين لعالم نجهل كل تفاصله وأحداثه ومطباته ومدبرين عن عالم أتسع لنا مدة تسعة أشهر دون أن نحس بجوع أو عطش أو ضنك عيش... عالم استنزف معادن عظام الأم ودمها وهوائها دون أن نكون له شاكرين ؟
ها نحن الآن هنا، كلٌّ منَّا له حياته، وكلٌّ يهتم بها ويحافظ عليها، ولكنَّ هذه الحياة دائمًا تصدمنا بأحداث عكس توقُّعاتنا.
بعد اليوم الأول من الحجر وفي انتظار الفرج، هنا بقاعة الانتظار بمطار محمد الخامس بالدار البيضاء نساء من مختلف الفئات العمرية يجلسن بجانب بعضهن البعض، لكن بين الواحدة والآخرى مقعدين فارغين وضعت عليهما علامة ممنوع بشريط بلاستيكي أحمر، هي تدابير احترازية اتخذت بشكل ارتجالي إلى جانب توزيع بعض القنينات الصغيرة للمعقمات . لا شيء يوحي بأنه تربطهن أية علاقة غير هذا الانتظار الممل وسط ضجيج المسافرين وجلبة صوت مكبرات الصوت المعلنة عن فتح بوابة أو إغلاق أخرى لتوجيه المسافرين نحو إحدى الطائرة الأجنبية التي أفرج عنها لتدخل لبلدها.
رتابة يومية ملها العاملون والعاملات بهذا القطاع، وروتين يومي كسر ظهور العاملين بقطاع النظافة طيلة النهار والليل. المطار مصنف ضمن المطارات الدولية الكبرى التي تستقبل أسراب الطائرات من جميع اتجاهات العالم على مدار الأربعة والعشرين ساعة لتتوقف به الحركة فجأة وبدون سابق إنذار. أمام تكدس الوفود البشرية في ردهات المطاريجب أن تُتخذ جميع الاحتياطات الوقائية ضد انتشار هذا الوباء اللعين الذي ينهش خاصرة الإنسانية في صمت وبتكتم شديد. منذ يومين فقط كان المسافرون يجلسون في تأهب شديد، ففي أي لحظة قد تلغى رحلتهم بصفة نهائية أو قد تؤجل لاجل غير مسمى وتغلق المطارات الدولية ويعلن عن حالة الطوارئ القسوى للدخول في مرحلة الحظر النهائي بسبب انتشار الوباء والدخول في حجر صحي شامل خوفا من أن يسوء الوضع . في إطار هذه الاحتياطات الوقائية وطول الانتظار، معظم المسافرون يجلسون بتوثر، منهم من كان يضع قناعا صحيا واخرون ابتكروا أقنعة من الثوب أو من المنادل الورقية . جميع الوجوه تتشابه بهذه الأقنعة الوقائية مما جعل الإحساس بالرهبة والخوف يزداد، خصوصا أن أمام هذه الوجوه المتجمدة والمتشابهة تغيب أدنى علامات الفرح أو الحزن. كل ما يمكن أن نستشفه هو حالة الثوثر النفسي التي انعكست على انقباض الملامح بين الحاجبين عامة مما يعطي الانطباع وكأننا بقاعة عزاء بالمجتمعات الشرقية.... هنا لا أحد قرر أن يكون وحيدا و لكن الوحدة صارت ملاذاً آمناً وصدراً دافئاً يفر إليه الفرد من الجميع، حيث لا ألم لا اشتياق لا فراق وربما لامشاعر.....جميع المشاكل والتناقضات بداخلهم سببها هو أنهم تظاهروا بالغباء عندما فهموا، وابتسموا وقت الحزن، والتزموا الصمت وقت الكلام. في هذا الوقت كل واحد مطالب بأن يكون عقلانيا أكثر مما هو عاطفي، مطالب بأن يجعل مشاعره باردة اتجاه الأشياء والأشخاص على حد سواء. على الكل أن يتقن جيدا فن التجاهل واللامبالاة لهذا الضجر الذي يلف الجميع، باختصار شديد على الفرد أن يبحث عن راحته رغما عن الوضع الغير المريح الذي يعيشه. أما البعض فقد انهمك في مكالمات هاتفية طويلة وبين الحين والآخر تتخللها قهقهة مصطنعة فيها الكثير من التكلف.
هكذا هي الحياة هنا إذا، نحن هنا نعيش كثيرا من الضحك وقليلا من الفرح .....والآن كل الارتسامات اختفت لتنتصب محلها الدهشة بالوجوه، مظهر خادع وجوهر فارغ. لم يهجرالكلام جميع المسافرين ولكن هجرتهم صيغه المناسبة. لنسلم جدلا أننا نؤمن بتقمص الأرواح وانتقالها بين الأجساد! ترى هل عاشت أرواح البعض منا في حياة أدنى من هذه؟ أم أنهم الآن يعيشون في آخرتهم ولو غير خالدين! هل كانت أرواحهم شريرة هناك حتى تعلق بين الضجر المحير بين الأمل واليأس، وهم هنا الآن سابحون في هذا الجحيم الحقيقي! ربما هم الآن يكفرون عن آثامهم التي لا يعرفون متى اقترفوها ومع من اقترفوها!
يا لها من لحظات عصيبة على صفيح ساخنة توحي بأننا سنموت وسوف نموت جميعا أكيد ؟ ام هي لقطة من فلم هليودي للحظة قيام القيامة ؟ أم جزء من أفلام الرعب التي تستمد سيناريوهاتها من الخيال العلمي للأزمات المتوقع التي ستكتسح العالم وما يرافقها من هلع وفوضى.؟ لنصلي من أجل عدم خروج الأمور عن السيطرة في ظل أي انفلات أمني متوقعأما الموت فهو مصير محتوم ومقرون بالحياة وبقدر ما نتشبت بالحياة يجب أن نتهيأ للموت كمرحلة عبور نحو حياة أبدية وحقيقية هذا إن كا على درجة من الايمان القوي، أما من غير هذا فقد تدخل في سؤال مستفز وهو : وماذا لو لم يكن هناك حياة أخرى تحسم فيها الأمور ويفرق فيها الجزاء
، أما من غير هذا فقد تدخل في سؤال مستفز وهو : وماذا لو لم يكن هناك حياة أخرى لتحسم فيها الأمور ويفرق فيها الجزاء بقدر العمل؟ هل سيستكين الجميع للظلم وتضيع الحقوق وانتهى الأمر؟ ولأن موضوع الموت شغل الفن،الفلسفة، الدين، والعلم؛ في النهاية لا يسعناي سوى الوقوف احتراما له، لأني لا أشعر نحوه لا بالحب ولا بالكره.أنا عن نفسي أشمئز من السؤال الروتيني في الجنازات : كيف مات؟ وأفضل عليه سؤالا أكثر عمقا لا نتداوله كثيرا في ثقافتنا القبورية هو : كيف عاش حتى مات؟ لأن ذلك هو المعيار الحقيقي بأنه عاش حياة فعلية أما الموت فهي إعلان عن افراغ مكانك لآخر قد يكون أكثر امتنانا منك بهذه الحياة.
ما أرغب في ترديده الآن، وفي ظل هذا الموت المتواصل، والمزيد من الموت! هو تلك المقولة الممتازة: ( إن أصبحت اليوم حيا، فأعلم أن هذا هو أول يوم في ما تبقى من عمرك) لذا عش يا صديقي وأحسن عيش اللحظة بالاحسان إلى الأخرين ولمحيطك والمخلوقات والأرض، لأننا في النهاية سنموت، أو سوف نموت جميعا. وقد يمتلك الجميع قلیلا من الکلام وکثیرا من الصمت في لحظة الوقوف على حافة المرور نحو العالم الآخر، لأن بذاکرتهم کثیرا من الوجع وقلیلا من الفرح، وبین الکل ابتسامة راحلة. وأنت تتأمل المارة والواقفين والجالسين تحس وكأن أحدا يخاطبهم:

- ابتسموا فقط إن رحل أحدكم بسلام ...ليکن كل واحد مسکا فی لیلة مقمرة وعود طيب يحترق ليهدي العابرين لدربه رائحة الطيب، ما دامت الأغلبیة اختارت أن تکون ترابا أحمرا حملته عواصف أيام مظلمة بلا كسوف متوقع فلكيا .....مقتطف من رواية نساء الڭِرِّيرُوس ....خيرة جليل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى