حيدر الناصري - أجمل المسوخ

"أَيُّهَا الرَّبُّ الجَميل، إِنْ كُنتَ الخَالقَ، فكَيفَ اِنسَرَبتْ مِنْ بَين أَصَابِعِكَ هَذهِ المِسُوخ!"

لم يكن قبحي حديثا، كـ (غريغور سامسا) حين أفاق في صباح ذاك اليوم، ليجد نفسه مقلوبا على ظهره منتميا بهيئته إلى فصيلة الحشرات الرمّامة، إنّما هو وجهي الرسميّ، اندلق مع سوائل من رحم أمي، في ليل بارد مشوم.
لا أذكر متى وأنا حبيس في غرفتي المشبّعة بالروائح العطنة من أثر زبد القروح، والأعضاء الملتهبة..... كلّ ما أعرفه أن مرضا ولاديّا نادرا، دمغني ختمُه بشدّة.
أمي، لم تكفّ ساعة عن التبسّم في وجهي، ومناداتي: "ملاكي الصغير الجميل"
كانت تحرص على دسّ ثلاث وسائد تحتي، كي يكون رأسي عال وأنظاري تراقب السابلة بارتياح، من خلف زجاج النوافذ المقفلة...... ما أن ينتصب السأم في لحم وجهي الشائه، حتى تدير السرير صوب الجهة الثانية.


أبي لم يفكر لمرّة واحدة في دخول غرفتي، والقاء نظرة يتيمة عليّ، أسمع صوت جزمته وهي تهوي على البلاط، يقف برهة أمام باب غرفتي، ثم ينعطف صوب الرواق باتّجاه الدرج.
مامعقود في قرارته أن وجودي لم يكن سوى كارثة حلّت على البيت.
كان يقول لأمي:
لانفع منه، مصيره الموت، لِمَ لا نريحه ونريح أنفسنا وندّخرأموالنا، ندخله المشفى الخيريّ... أنا ذهبت هناك ورأيت غرفة عزل المرضى: جميلة، وجدرانها مطلية باللون الأزرق المخضرّ، وأسرّتها وثيرة، وخالية من النوافذ... نتركه فيها، بين يد خالقه الرحيمة، وأيادي الممرّضين.
كانت تتوسّل به أن يخفض صوته؛ كي لا أسمعه، لكنه يصرّ على الزعيق.
لمحتُ الخوف والرعب يرتسم على وجه أمي مرّات ومرّات، حين كانت خطواته تقترب من غرفتي.
كانت تقول لي بحزن:
سيتغيّر، هو أب وله قلب طيّب.
سريري مركب يركس في القاع، وغرفتي زنزانة لا حرّاس على بوّابتها ومن دون مزلاج، لكنّي لا أقوى على الفرار.
كبرت ولم تعد تستهويني القصص التي كانت تقرأها أمي لي قبل النوم عن: الأقزام السبعة وبياض الثلج، بابا نويل وعربة الظباء المحمّلة بالهدايا، علاء الدين ومصباحه السحريّ ، بائعة الكبريت، حديقة المارد الأنانيّ، الأميرة والضفدع، الأمراء السبعة، الأمير السعيد، ليلى والذئب، نيلز والبجعة العجيبة، أحدب نوتردام، وقصص كتاب الأدغال.
أغفو وفي مسامعي صوتها:
"يوما سأخذك برحلة صوب مكان تختاره".
كانت تلوح في خاطري جزيرة معزولة، يسير على سككها المشوّهون والقباح والمسوخ وأهل العاهات والدميمين.
يومها سأرتاح من سجني هذا، ويكون وجهي أكثر من أليف.
كعادتها تمرّ الصباحات عليّ رتيببة ومملة، لاشيء جديد يأتي ليغير حياة هذا الكائن النازف القبيح
لكن!
هذا الصباح لايشبه الصباحات التي مرّت بي، نور الشمس على النوافذ تغيرت ألوانه، وهواء الغرفة ليس ذاك الهواء الثقيل المشبع بروائح المطهّرات والتقرّحات، وعصافير تصطف على أسلاك الكهرباء توجّه أنظارها إليّ، حتى أوجاع جسمي خفّت فجأة.
ضلفة الباب انزاحت، أمي تتأهب للمغادرة ثيابها تشي بذلك، قالت بفم يشعّ ابتسامة، وتومأ لي بتذكرتين:
سيقلّنا القطار إلى نهاية المدينة، ومنها الى الميناء، حلمك تحقّق.
كأنَّ أجنحة نمت لي، في تلك اللحظة، وددتُ أن أطلق العنان لصوتي المكتوم.
أبي لم أسمع صوته، ربما غادر أو تغافل، على أمل أن لا أرجع لهذه الغرفة، التي كانت قبل ولادتي مكان للياليه الماجنة، وضيوفه الثقال.
وضعتني في الكرسي المدولب، لفت وجهي بإيشاربها، بعد ان أعانتني على هبوط السلالم... وصلنا المحطّة كانت تعجّ بالوجوه الملوّنة والغريبة، فشعرت ساعتها بأن ساقي دبّت فيهما الحركة.
المسافرون لم تبد على وجوهم علامات الاستغراب كانوا طبيعيّين، لم ألمح تلك النظرة المزرية والاشمئزاز، التي كانت تلاحقني أيام زيارات أقاربي وأصدقاء العائلة.
قصدنا إحدى القاطرات، عُلّم على مدخلها رقم(4).
قالت أمي: "هذا رقم قاطرتنا"
مُزرّر التذاكر هالني وجهه، حتى في كتب الغيلان والوحوش التي شاهدتها، لم ار هكذا وجه، ربما كان قناعا يلبسه.
نزلنا واتّجهنا إلى الميناء حيث كانت السفينة راسية، وكان معنا نفس ركّاب القطار.
أبحرت بنا إلى أن وصلنا الجزيزة، على رمل سواحلها هيكل عظمي كبيرة، عليه أطواق من الزهور بألون مختلفة، ونوارس وكّرت عليه، أطلقت صيحات متناوبة.
فيما علت أصوات احتفالات وأغاني وموسيقى صاخبة وسط الجزيرة.
وجه أمي وحده الغريب بين كلّ الحاضرين.
عرف سيّد الجزيرة أني لا أقدر على مفارقتها، أهداني قبلة وقال بصوت خاشع:
"مرحبا بك أيها الفاتن الرقيق"
سرت كلمة "فاتن" في جسدي كدفء، فقدته على مدى ليالي القارصة.
بعدها رافقنا إلى بيت كبير وجميل، على عشب حديقته: ألعاب وأراجيح وأحصنة قزمة.

لم تكن تلك الرحلة الشاقة المتعبة لي، أمي أراحت بدنها على إحدى الآرائك، وأنا أخذتُ أستطلع غرف المنزل.
سمعت طرقا على درفة الباب:
سيّد الجزيرة يقول لابد أن تحضروا الاحتفال، الليلة ستقام مسابقة أجمل شخصا في الجزيرة، الفتى سيكون ضمن المشاركين.
قلتُ:
كيف أشارك، وأنا على هذا الحال، وجهي أبشع من وجوه جرذان المجارير!.
آزرتني أمي بقولها:
لاعليك، سنحضر ونرى لا تخف.
ألبستني وحرصت ان تبقي تسريحة الأمس، الجروح جفّت، وبقت: الشقوق والتضغّنات والندب والفم المتهدّل والعينين الجاحظتين.
التحقنا بالاحتفال، بعض المحتفلين كانت وجوههم مكسوّة بالشعر وأنوفهم الكبيرة تملأها البثور، وآخرون بأسنان بارزة، وحدبات كبيرة، وأيدي وأصابع معوجّة.

أضأت الألعاب الناريّة سماء الجزيرة، الفرح والصخب والرقص والضحك ملأ أرجاء مكان الاحتفال.
فتيان بعمري شوّهتم الحروب والأمراض والإشعاع والأدوية التالفة، ظهروا معي على المسرح.
قال سيّد الجزيرة:
من يفوز سيذهب في رحلة إلى أعماق المحيط،على الجمهور أن يختار الليلة، أجمل فتى من الفتيان العشرة، الماثلين أمامكم.
بدأ التصويت، فوق المسرح شاشة كبيرة لعد نقاط المتسابقين، توالت الأرقام بالصعود.....
رقم (4): هو الفائز.
نفس رقم القاطرة التي صعدنا بها، طارت أمي من الفرح وأبتل خدّيها بالدموع.
قلّدني سيّد الجزيرة قلادة الوسامة؛ فانتشيت.
قالت أمي: سيفرح أبوك بهذا الفوز، ونظرته ستتغير حتّما.
قلت بفرح: سأهديه له.
ردّت أمي:
احتفل مع أصدقائك، لا تضيّع الليلة إلا بالفرح والرقص والغناء.. هذه الأوقات لن تنعاد، لاتهدر ثانية منها.. اذهب الآن وانطلق.
ركضنا سوية، تسلقنا الأشجار، وقفزنا في الماء وبلّلنا الحاضرين.
كانت ابتسامتهم تحرّضنا على المزيد، دخلنا مدينة الملاهي وركبنا ظهور "الخيول الصغيرة المزيّفة" وعربات أنفاق الأشباح، وتفرجنا على مشاهد عرائس الدمى، إلى أن خفّت أرجل المحتفلين، وانقطعت الأصوات.
فتّشت عن أمي وجدتها بانتظاري، أخذتني إلى أحضنها، وبصوت منكسر لم أفهم سببه:
عليك النوم لا تتأخر، رحلتك إلى أعماق المحيط غدا.
بكّرت في النهوض، وعلى مهل، دارت عيناي في جدران المكان، لم تكن الغرفة تشبه غرف منزل الجزيرة، ولا تشبه الغرفة التي نمتُ فيها لسنوات طوال في بيتنا؛ الغرفة محصّنة، جدرانها مطلية باللون الأزرق المخضرّ، وبباب حديديٍّ سميك!.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى