فنون بصرية جميلة عناب - ما هي السينما؟ لمحمد الشريف الطريبق (تركيب الذات السينمائية)

لنتفق، أولا، على أن السينما وسيط عاطفي، كما يذهب إلى ذلك الناقد الأمريكي روجي إيبرت. بيد أن بإمكان هذا الوسيط أن ينتج، مع ذلك، صورةً للفكر؛ وهذا ما تحدث عنه جيل دولوز بقوله: «إن كبار المؤلفين السينمائيين هم مثل الرسامين الكبار أو الموسيقيين الكبار: إنهم أفضل من يمكنهم الحديث عما يفعلون. ولكنهم حين يتحدّثون يصيرون شيئا آخر. يصيرون فلاسفة أو منظّرين» (الصورة-الزمان، ص 366).
في هذا الأفق، إذن، يأتي انشغال المخرج والناقد محمد الشريف الطريبق بالصورة عموما، وبالسينما على وجه التحديد. وهو انشغال تؤطره السينما باعتبارها ترجمة فنية لدهشة الفكر، وأيضا باعتبارها آلية لإنتاج دورات فكرية وإبداعية جديدة غير محصورة بنموذج استطيقي ثابت. فالسينما، في نظره، «تدفعنا إلى تغيير نظرتنا للحياة وتساعدنا على إعادة اكتشاف الحواس وتربيتها وتجديدها وجعل الأشياء والتفاصيل التي حولنا أقل تفاهة وإعادة اكتشاف ما يبدو اعتياديا وعابرا والتمتع به».
إن الكتاب، الذي يقترحه علينا الطريبق، بحثٌ مستمر عن السينما، وعن نماذجها الأكثر إفادة وقربا من تصوراته الذاتية عنها، من وجهة نظر مخرج ممارس ومتلقي مضطلع وعارف باللغة السينمائية، وبحدودها وتعقيداتها وانزياحاتها وتقاطعاتها مع أشكال التعبير المجاورة لها، حيث يميز، مثلا، في هذا العمل، بين الحكاية داخل الرواية والحكاية داخل السينما التي لها خصائص ومقومات دلالية أرحب وأوسع من اللغة المكتوبة. بل إنه يسعى بوضوح، عبر استحضار مجموعة من الأفلام، إلى بناء معنى موثوق وأصلي للسينما (الثابث والمتحول/ الكلي والجزئي/ الجوهري والزائل)، أي إلى كشف “قواعد اللعبة” التي تنبني على عيوب الأصل وإبراز نقائصه في أفق تجاوزها، وأيضا على إسناد الأهمية لوقائع تافهة وغير ذات جدارة.
يفكر الشريف الطريبق في السينما خارج الصورة المكرّسة للنقد، لأنه لا يكتفي إطلاقا بنقد الأفلام بالمعنى التقليدي. بل يبني تصورات بعمق فكري لا يمكن النظر إليها باعتبارها نسخة طبق الأصل من الجاهز والمتاح. إنه لا ينطلق من أحكام مسبقة درج النقد المتخاذل على امتطائها لتبرير وجوده، بل يبني تصورات تخضع لمعطيين. الأول: الخبرة الذاتية والتماس المباشر مع السينما، كتابة وقراءة ومشاهدة وإخراجا ونقدا. والثاني: الانفتاح الفكري المكثف على حدود ما هو مرئي وما هو تخييلي. وسنده في ذلك هو العمل على بناء شكل دقيق للموضوع السينمائي، تأسيسا على التفكير بالسينما، أو على الأقل انطلاقا من الصورة السينمائية باعتبارها خصوصية قائمة على آلية لإنتاج الحركة. إنه يضعها في مواجهة مباشرة مع الخطابات الموازية، ومع بلاغاتها وشعرياتها، ليكشف لنا، ما يميز السينما، وما يجعلها مستقلة عن الخطابات الأخرى. ويظهر ذلك من خلال تطرقه لموضوعات من قبيل (الشريط السينمائي- التوظيف السينمائي للموسيقي- اللقطة- نهايات الأفلام- خصوصية الفيلم الوثائقي/البوليسي/ الوبسترن.. إلخ)، أي للغة السينما ووحداتها. بل إنه يذهب أبعد من ذلك حين يتحدث عن أن الأشكال الفنية، عموما، ليست فقط تدابير فنية محايدة، بل إنّها وجهة نظر تحمل في طياتها موقفاً من العالم. إنها ليست تدابير تقنية محضة وموضوعية نستعملها أينما شئنا. إنها تصورات تقتضي وجودا أنطلوجيا في زاوية رؤية ما. وبعبارة أخرى، إنها تمرين فكري صعب وجريء يؤسس منجزه على لغة الصورة، وعلى فكرها.
إن الطريبق، في هذا الكتاب، يتعامل مع المبادئ الأساسية للسينما (لغة السينما) باعتبارها أشكالا دالة على الهوية السينمائية، إلى الحد الذي يمكننا أن نقول إنه يسعى إلى تأصيل الخطاب السيتمائي بالتركيز على الموثوق والحقيقي فيه، أي على الهوية. بيد أن هذه الهوية لا تقع خارج التصور. إنها ليست معطى قبلي، بل يجري بناؤها بواسطة الفكر الذي لا محيد عنه لإجلاء الخصائص والفروقات.
يمكن النظر، إذن، إلى هذا المنجز، الذي بين أيدينا، باعتباره سردا للذات السينمائية أو نوعا من “الميتاقراءة” للسينما، كما يمكن النظر إليه، على نحو واضح، باعتباره “سيرةً ذهنية” استرجع فيها الكاتب أطوارا من حياته السينمائية، كاشفا عن مرجعياته الفكرية والثقافية.
يضعنا الطريبق، تأسيسا على ذلك، في قلب ما اعترضته من ترددات وتقلبات واضطرابات، ويطلعنا أيضا على ما حازه من معارف سينمائية (على مستوى التفكير في السينما، وليس فقط على مستوى تجربة الكتابة أو الإخراج أو النقد)، وما اصطدم به من تيارات فكرية وإيديولوجية. وقد فعل ذلك على مستويين:
الأول: نقد الموضوع. ويمكن أن نطلق عليه “الميتاسينما”، وفيه نوع من الاشتباك التفاعلي الممتع مع “الحقيقة” السينمائية، أي مع الثابت والمتحول فيها. ذلك أن “الميتاسينما”، في العمق، ترفض أي ذائقة امتثالية؛ فهي تتأسس على تركيب معقد للحدث الفيلمي، تفكيكا وتحليلا ودراسة نصية. ومعنى ذلك أن كل نقد يقوم على استراتيجاتها يتجه نحو الإبداع وليس العكس، نهوضا على وضع المحكي أمام مرآة تعكس محكيات أخرى وتتقاطع معها، وعلى لعبة كشف “المرجعيات/ المشاهدات” وإدخالها في علاقات جديدة. وبذلك، تصبح المادة الحكائية (المضمونية) مجرد تطعيم وإضاءة لفكرة نقدية، بل تحيزا لاختيارات جمالية بعينها دون الأخرى، تسعى إلى الإحاطة بالسينما باعتبارها خطابا مشفرا وذا خصوصية واستقلالية. ولعل هذا ما نجده في الجزء الأول من الكتاب الذي يتضمن: (“أكون أو لا أكون” أو السفر المعكوس؛ الشريط الصوتي؛ الفيلم الكلاسيكي كفرجة مطلقة؛ “Paterson”، الهايكو سينمائيا؛ الواقع لغة السينما).
الثاني: تركيب الذات، وفيه استعراض للسيرة الذهنية التي يسعى عبرها الكاتب إلى إثبات حقيقة فكرية عبر سرد “أصل الحكاية” مع السينما أو “الطريق نحو الحكي”، كما نقرأ في الكتاب؛ فالكاتب ينقل إلى القارئ الضمني أو الواقعي معلومات ذاتية ومعارف فكرية وتجارب حياتية، محاولا إقناعه بأهمية “المنطقة” التي أتى منها. إنها صيرورة تتضمن أبعادا تعليمية يسمح بها ذلك التوازن بين التأمل والفعل، أي بين الفكر والتجربة. إنه البرنامج السردي الخاص الذي ينقل الذات من وضعية الصفر إلى وضعية المعرفة، كما يتيح إمكانية الكشف عن المسار الفكري وعن العناصر المؤثرة فيه.
إن الطريبق يستعرض، في هذا المستوى الذهني، العوامل التي تفاعلت معها الذات، بطريقة نقدية مشيدة على جمالية التشخيص، وعلى فعل البناء المتنوع والمشترك. فالطريبق مخرج سينمائي مر من تجارب متعددة: مارس المسرح، وخاض في الصراع الإيديولوجي السياسي الذي رافق تجربة “الاتحاد الوطني لطلبة المغرب”. كما مر من تجارب قرائية متنوعة إلى أن اكتشف السينما وآلياتها بشكل تدريجي، مشاهدة ونقدا وكتابة وإخراجا.
إنه يضعنا في قلب حكايته مع السينما، راسما منعرجات الحكاية وتضاريسها وانفلاتاتها وتمفصلاتها. ومعنى ذلك أنه يدرك “ماضيه” و”مرجعياته” والعناصر المؤثرة في تجربته الإبداعية، مثلما يدرك أن “السينما خطاب شامل ولغة مركبة”، وأنها تقوم على الصدق الفني، وليس على الاستنساخ المناهض لجوهر الإبداع.
إن هذا الكتاب، في نظري، يخلص سعي الذات للتأمل في التجربة التي هي أصل كل أفكارنا، كما يرى الفيلسوف الإنجليزي جون لوك. فكل كاتب/ مبدع، في العمق، يعتقد أنه تحوّل إلى شخص مختلف بفعل تأثير سياقات أخرى مختلفة عنه كلياً. فثمة تأثيرات خارجية على جوهرنا الذاتي تدفعنا إلى القفز نحو الضفة الأخرى من طبيعتنا الأصلية إلى جوهر الإبداع.
إن الطريبق يقدم إلينا، بوضوح ممتع وبوعي تام، تلك التحولات التي تقف وراءها التجربة: التجربة مع الذات والتجربة مع الموضوع (السينما) والتجربة مع المنجز (الأفلام).

جميلة عناب



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى