خيري عبدالعزيز - متاهات البحر

تتجه صوبي كمقذوف يحذق بغيته, في جلباب أسود واسع الذَّيل, تخبُ فيه. لا يثني من عزيمتها جموع الصَّيادين العائدين من غمار البحر, ينقلون من بطون قواربهم طاولات أسماك الرُّوسي. هذه المرأة أعلم بغيتها وأدق ما يدور برأسها. منحتني الأيام الدَّربة لأشتمُّ الأثير المشبَّع بالأنفاس المجهدة, وأسبر أغوار الخُطى التي تبحث عمَّا يسدُ الرَّمق. لا غير الحشد الملتف من الأفواه الجائعة ما يدفع لهذا الاتجاه: أنا. وبأسفل الشَّمسية المهيأة لمجلسي أمام الشَّاليه المتاخم للبحر, جعلت أهيئ نفسي للمهمة القادمة, أرتب أفكاري, وأؤكد من رباطة جأشي. أنا الجزء الذي صار لا يتجزأ من المتاهة. ربما بؤرتها. ربما محيطها. ربما النِّعمة التي طرأت عليّ ما تلهب خيالهن وتوحي بخوض المغامرة. تأنيب الضَّمير لن يفيدني بشيء. أنا محض دُمية يتملَّك رقبتها حسابات باتت بلا حصر, تتحكم خيوطها في أطرافي جميعها. فكيف بدمية أن تعلم شيئاً عن الإرادة أو تغيير الأقدار؟! المرأة صارت قُبالتي على شط ميناء الصَّيد, نشاب أحمق يلتمس الطَّريق إلى قوس جبَّار سيحيله فتاتاً. انكسار عينيها لا جديد فيه, الفقر هكذا يصبغ ذويه. مغروس في الوجدان منذ الأزل أنَّ الحاجة لا تتماشى مع شموخ الرُّوح, تطأطئها وتضع على عنقها قدم الذُّل. قالت: "مبلغ من المال لأتاجر في السَّمك الرُّوسي, الأفواه كُثر, والدُّنيا غلاء!" اعتقلت الهاتف الذي أعلن التَّمرد ويجاهد للإطلال من نافذة عينيّ, أخمدت صراخه القادم من زنازيني القصيّة: ابتعدي أيتها المسكينة, أيتها البلهاء. كنت أظنَّني انتهيت من العاصين لواقعي, دفنت المتمردين لرغبة الخيوط العفية, أحسبهم ماتوا وتعفنوا بأغواري السَّحيقة. أخذت شهيقاً حانقاً كمارد كبَّلت أطرافه لعنة, وأطلقت زفيراً كنار تشبُّ, والتمعت عيناي كهرة شيطانية تستعد لقنص عصفور غافل بريء. وأكدتُ للملاعين بداخلي أنَّني لن أثنيها وأمنع النِّشاب الأحمق عن شَرك القوس. وأبداً لن يعود الفقر اللَّعين إلى عالميّ: الجوع والذُّل والحاجة والمرض. وهذه المتاهة التي تتكون دروبها الملتوية المراوغة أمام ناظريّ- لابد لها أن تكتمل. ولا بدّ من سقوط المرأة المروع, والذي ما دفع إليه أحدٌ إلا العوز. وبحيادية تامَّة همست بصوت خفيض: "كم تطلبين؟". لاح بشّرٌ باهت على محياها الغائم في الفكر: "ما يكفي لشراء كرتونة سمك!" هذا السَّمك الرُّوسي صارت حياتي مضمخة بلزوجته, مفخخة بروائحه: ملابسي, روحي, وتلك النَّسمات القادمة من عمق البحر حيث تستقر أسماك الرُّوسي مسالمةً قبلما تقنصها شباك الصَّيادين. لماذا سُمي بالرُّوسي؟! لم أعد أمتلك الرِّقة لأحرر الأسئلة المصلوبة على خطاف الاستفهام. الزَّمن المشحون بالقنابل الموقوتة لا يمنحني الرَّفاهية لهذه التَّفاصيل. يطلقون عليه أيضاً السَّمك "أبو عيون وسعة", وأيضاً السَّمك "أبو شوكة", ويطلق عليه من يتفاخرون بإلمامهم بصحيح الأشياء: السَّمك "الماكريل". ويوجز الصَّيادون القول: هذه أنواع متشابهة من السَّمك اجتمعوا على تسميتها بالرُّوسي. وقال كيلاني, خادم الشَّاليه الذي أمارس فيه مهمتي كعروسة ماريونيت دءوبة مطيعة, يرشف بتلذذ آخر ما تبقى من قدح شايه ذات عصر: "أسماك الرُّوسي رديئة, والتَّجميد يفقدها الكثير من قيمتها الغذائية, ولهذا أسعارها زهيدة, ولا يُقبل عليها سوى الفقراء!" ومن غيرك يعلم بخبايا المتاهة التي تبدأ من البحر وتنتهي إلى الفقر يا كيلاني؟! تتشابك دروبها الملتوية على مرأى ومسمع منّك. وحدك من يسمع الأنين ونشيج الأرواح المجهدة! ولحظات النِّهاية, حيث روائح التَّعرق, والخوار أحادي المصدر. لكم أغبطك على سكينتك أيها الخادم الأبنوسي الصَّلد, المنحوت من الصَّمت المطبق! والتمعت عيناها بسعادة غامرة, عابرة, بينما تتناول من يدي بغيتها من المال. نقود ملتمعة جديدة تشخشخ كفرحة عيد. الآن يظن الغريق إمساكه بطوق النَّجاة. ذاك الرَّب القابض على أطراف الخيوط فطن بخبايا النَّفس البشرية, ذاك المستتر خلف الكالوس. وقد كانت استرعت انتباهي الدِّبلة الذَّهبية ببنصرها المدموغ بالقذارة. باغتها بما يليق بآلة يحركها روتين: "أحتاج ضمان." ارتبكت, وفشل البحر في اختطافها من مواجهة المقايضة المحتومة. وخلعت الدِّبلة عن بنصرها الذي جففت سمنته الأيام. ماذا تبقى لديها من ذكرى زوجها الذي أخذه البحر؟! دحرت الشَّفقة التي هاجمت خواطري مغبة تذكر أولادها الخمس. العيون الجائعة ذات البريق القاتل ما زالت تمتلك سطوة عليّ. البكاء, العويل, والقِدر المخادع على موقد الكيروسين لا يطهو شيئاً سوى الماء. لا بأس, الأيام كفيلة بتجفيف مثل هذه الآبار السَّامة! وغادرتني موازية للبحر. الهواء يملأ جلبابها الأسود موحياً بامتلاء غير موجود. والرَّذاذ الشَّارد يداعب ملامحها الخمرية بما لا يتوافق مع أعاصير الفكر. طبقة كثيفة من تراب الزَّمن ما تطمر روعة أنثى في ريعان الشَّباب والصِّبا. يا بلهاء, تجارة الرُّوسي لن تُفضي سوى لمزيد من الفقر. داهمني صوت كيلاني قد جاء من عمق الشَّاليه: "مسكينة!" حالي لم يكن بأفضل من حالها –يا كيلاني- في ذاك اليوم, وعيون أولادي تهاجمني كقطط صغيرة جائعة. خامرني قبس أمل أنَّ كرتونة سمك مجمد قد تحلُّ تأزمي مع الحياة. سميناً وملتفاً كطائر بطريق في جلبابه البلدي- كان سيدك أسفل هذه الشَّمسية. قرأ حاجتي من بين سطور صمتي, ولم تكن قراءته تلك تكفي ليمد يد العون. كم هو ربٌ ضليع بطبيعة النَّفس البشرية! لابد من نفير العلن يزعق بحاجتي في أركان الوجود. عليّ أن أتصاغر, أتصاغر, أتصاغر بقدر ذلي وفقري. وبأدنى درجات صوتي خفوتاً ومذلة طلبت المال بغرض تجارتي المزمعة. لا أملك سوى جلبابي حائل اللَّون, وقرطي الذَّهبي كذكرى وحيدة للزوج الذي طوح به صيد الرُّوسي في خضم البحر! كيف استحلتُ إلى أرملة مُعدمة على هذا النَّحو؟! خامرني إحساس بالتَّعري في مواجهة عينيه النَّاعستين. هل الحزن المخيم بملامحي, وملابسي السَّوداء, ارتفعا بقدر أنوثتي وحسني؟! وجعل يمتص بنهم سجائر لفّ مطعمه بالحشيش. ويقذف في فمه, وبذات النَّهم, حبَّات العنب. أعجبتني فكرة التَّحرر مثلما هذه السَّحائب الدُّخانية, أتصاعد للسماء تاركةً الأرض ومن عليها. وأولادي؟! مساكين يا صغاري, رأيت حبَّات العنب في عيونكم مساء أمس. وكيف السَّبيل للعنب الذي رأيتموه في أيديّ أولاد الجارة؟! أفلت زوجها وهاجر بعيداً عن غدر البحر, نجا ونجوا معه. وما يحتل ذهني منذ غدر بنا أبوكم وتركنا وجهاً لوجه مع الحياة- هو القِدر الممتلئ بالماء. سأمت الماء الذي يغلي ويفور بلا هوية معلومة. وارتفع الرَّجل بحاجبه الأيسر في إشارة لقرطي المتدلي بمرح لا يتوافق مع حالي الحزين. لا مجال للمفاجأة, ثمَّة منعطف في الحياة عنده كل الاحتمالات متوقعة, وبالسَّير على دربه الشَّائك تفقد كل المفاجأات مفعولها الصَّادم. وأمي لم تحزن يوم خلعت قرطها لتشتري لنا ملابس العيد. ملأتها الفرحة وهي تقارنها بملابس أولاد الجارة التي يعمل زوجها بالعراق. أبي كان قد غدر بنا وأخذه البحر. وبمجرد فتح كرتونة الرُّوسي وجدتها قُبالتي, أشد من بؤسي بؤس, الأفواه فاغرة من بعد الزَّوج الذي نال منه الرُّوسي في عرض البحر, تطلب كيلو من السَّمك القاتل لتسد رمقهم. تماهيت مع فكرة الثأر لزوجي وأبي وزوجها. الصِّغار الجائعة تقتص من قاتل الآباء والأجداد لعله تخمد النَّار المشبوبة بالصِّدور. والجوع الذي ينهش يقتات على الأسماك التي أودت بحياة الرِّجال. أعمتني فورة الانتقام أنَّه لا أموال تتداول بين الفقراء, فقط الأيمان الكاذبة ووعود بالتَّسديد لن تُبر. بالكاد مر اليوم وتفرقت كرتونة الرُّوسي بين بيوت شهداء البحر. عُدت إلى الرَّجل أبتغي قرضاً لكرتونة جديدة. لا يسعفني عقلي لأجد ضماناً هذه المرة. الرَّجل أكثر منِّي حيلة, وعيناه أكثر يقظة وجرأة من المرة السَّابقة. حقاً, كيف فاتتني هذه المقايضة؟! والوقت صباحاً في مجلسه أسفل الشَّمسية المتاخمة للبحر. وسيجارة الحشيش بين إبهامه ووسطاه تنتظر استهلاله لهذا اليوم. توجهت إلى جوف الشَّاليه بلا كلمة زائدة. سدَّدت الدَّين واسترددت القرط, ووجدت السَّبيل لتجارة بديلة.

خيري عبدالعزيز

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى