أدب السجون زينب يعقوب صنوبر - البهجة بِعُرْفِ الأسير

لقد تعبتْ سيالاتي العصبية لكثرة ما نقلت شعور بالجوع من أمعائي فاستسلمتْ أمام إصراري. تخلّصتُ أخيرًا من وخزات الجوع التي كادت أن تفتك بمعدتي الفارغة، توقَّف جهاز الإنذار في جسدي عن العمل. لكنَّ القشعريرة أبت مفارقتي، لقد ضعف سمعي فلم أعُدْ أصغي لكل ما يُقال حولي، لكنني أراهم جيدًا كيف يأكلون ما لذَّ وطاب فوق سريري كي يُعذِّبوا ما بقي فيّ من روح! أُصاب بالدوار، تأتيني الهلوسات خلال الغثيان أرى ناسًا كُثر يتجمعون ويتضامنون معي، يأتيني صوت طفلةٍ في الشارع تسأل أباها: «لِمَ لا يأكل يا أبي لِمَ؟»
الموت يتزيّن أمامي ويغريني كي أقترب منه فيعانقني، لكنني أصمد وأقاوم بكل ما تبقى لديَّ من ذرَّة تحمُّل. صار مجرد وقوفي مستحيلاً. أما ذهابي إلى الحمامات فكان أصعب مرحلة تمرُّ علي في اليوم الذي اضطر فيه لذلك، ليس من أجل تأخير الموافقة على طلبي ولا من أجل اقتيادي بالسلاسل خلال نقلي على الكرسي المتحرك، بل من أجل الحارس الذي يأبى مفارقتي حتى خلال ممارستي أبسط حقٍّ من حقوقي. أرجوه كثيرًا كي يتركني وشأني لكنه يأبى ويصرُّ على إذلالي.
أمي تتقدّم الجمع الغفير، تمسك صورتي وترفعها كي تُحلّق بشموخ. ثمَّ تصدح أفواه المسيرة بالهتافات تضامنًا معي. رغم المسافات التي بيننا أستطيع رسم صورتهم في مخيّلتي، أراهم رغم غباش عينيَ، أُصيخ السمع لجلبتهم رغم طنين أذنيّ. أسمع الطفلة ذاتها تسأل أباها من جديد: «لِمَ لا يأكل يا أبي، لِمَ؟»
ها أنا ذا مسجًى على السرير، أنام على ظهري الذي أكلت منه الفطريات، قدماي متباعدتان ومثبتتان في السلاسل ويداي مقيّدتان؛ كي لا تقودني قوّتي الخائرة على الهرب مثلًا! تدهورت حالتي الصحية، رجَّح الطبيب استسلام قلبي في أي لحظةٍ ونصحني بأن أتراجع عمّا أنا مصممٌ عليه، لكنني أرفض عرضه -فهو على أي حالٍ سجانٌ أيضًا- قائلًا: «الموت وإن اختلفت كيفيّته يظلُّ موتًا. إذن فليكن بإرادتي لا بإرادتكم»
ابنتي تبكي تودُّ عناقي. زوجتي تشعر بالغصَّة المؤلمة. أمي تتألم ولا تفارق محرابها، تدعو لي بحرقةٍ كي أظلَّ ثابتًا ولا أخذل من وقفوا معي... الهبَّة الشعبية انتشرت. صدى الشارع والرأي العام كان لصالحي. الكل يطالب بإنصافي، أستطيع تخيّل أصوات هتافاتهم التي تناصرني وتشدُّ من أزري، لكنّي أسمع صوتًا يخترق الحشد. ذات الطفلة عادت تسأل: «لِمَ يفعل هكذا بنفسه يا أبي، لِمَ؟»
منذ مدّةٍ طويلةٍ وجفوني لم ترَ النوم، الآلام المبرحة تتسامر معي ليلًا وتحرمني أن أغفل لو قليلًا، لا أحزن منها البتّة فحتى لو نأت عني، هناك من يمنع غفوتي المستحيلة؛ ما إن أغمض عيني -بغية حجب الضوء الذي يظل مُنيرًا ليل نهار فوق سرير العيادة- حتى أسمع زعيق السجّان يخترق طبلة أذني، وأشعر بأنفاسه الغاضبة تلفح وجهي. كنتُ محظورًا من النوم حتى، فكيف سأتنحى عن معركتي هذه؟! تالله لن أتراجع! كلَّ هذا الصلف سيزيدني إصرارًا على إتمام ما عقدتُ العزم عليه. في الواقع لا وسيلة لديّ لأعبّر عن غضبي وثورتي سوى خواء بطني. جوعي هو سلاحي الوحيد الذي لا ثاني له.
كنتُ أُهان منذ البدء، جرّدوني من إنسانيتي، لم تبق بوصةٌ من جسدي إلا وأكلتها الكدمات، وبعضها الآخر تقيّحت جروحه. بصقتُ في وجوههم وأبرحتهم ضربًا دون أن أمسّ شعرة منهم، فتلك لم تكن إلا في خيالاتي؛ فهي الحقُّ الوحيد الذي أمارسه بحرّية. لا يستطيعون اختراق أفكاري رغم أنهم لو سنحت لهم الفرصة لما قصّروا... يترنّح المصباح ذو الإنارة المتوهجة أمام عيني، يبدو أنني سأصاب بالإغماء من جديد، لكنني أسمع تمتمة الطفلة تكرّر سؤالها: «لِمَ يستمر لِمَ؟»
مرّ عشرون يومًا وأنا على هذا الحال، جسدي شرع يقتات على نفسه، أنسجتي تحلّلتْ. لحسن الحظّ أنَّ الماء والملح منع أمعائي من التعفّن. هل سأنجو أم سأهلك؟! على أيِّ حالٍ إن لم أسلم من الموت، سأنجو من عبء العجز والتخاذل! يقولون لمن يسأل أنّ وضعي مستقر، ويقولون لي أنني قريبٌ من الموت، فأي الرأيين أصدق؟ أنا أعلم أنهم لا يريدون أن تهتز إنسانيتهم الكاذبة أمام العالم، لكن كيف سيبررون موتي إن مِتُّ هنا؟ هل شكّلتُ خطرًا عليهم وأنا مجرَّدٌ من كلِّ شيء ومن اللاشيء حتى؟! قضيتُ عشر سنوات بين قضبان الحديد، أحيا حسب أمزِجة السجّان وأهوائه، لم أختبر مرور اليوم دون العدّ ثلاث مرّات، كنت مجرّد رقمٍ ليس إلا. ولم أعرف كيف يكون مذاق الماء حين يرقد في كأسٍ زجاجية، وكيف يكون طعم الأكل حين يُغرف بملعقةٍ معدنية. حتى أنني نسيتُ كيف يُمضغ اللحم لِندرته.
التحركات الشعبية المتضامنة تزداد يوميًا، توحدّت الصفوف في تقديم الدعم. كلّ ذلك لم يثنهم عن القمع والتنكيل، الأمر يحتاج المزيد من الالتفاف حول قضية الأسرى، تعوز الحاجة لدعمٍ عربيٍ دوليٍ. ورصّ الصف في وجه الصهيونية السادية. ليت صوتي يصل كي يتم تعرية الاحتلال وإسقاط شعار الديمقراطية الذي يلوح به أمام المحافل الدولية. لكنَّ صوت الطفلة وصل أذني وهي ما زالت تسأل بتوسلٍ: «لِمَ لا يأكل يا أبي، لِمَ؟»
ما زالوا يحاولون كسر إضرابي، هددوني باستخدام التغذية القسرية التي طبقوها سابقًا على رفاقي في الأسر، حيث كان يتم ركلهم بالبساطير على وجوههم لدفعهم للطعام. وبعد فشلهم، يقومون بزجّ أنبوبٍ في الأنف قسرًا، حتى يسيل الدم منه، من ثم يُدفع باتجاه المريء ومن ثم المعدة، وبعد ذلك تُحقن المواد الغذائية فيه. يصاحب هذه العملية ألمٌ جسديٌّ ونفسيٌّ، وقد تودي بالحياة وهو ما حدث فعلًا، وأدى لاستشهاد عددٍ من الأسرى الفلسطينيين!
لا أنكر أنني للوهلة الأولى خفتُ من توعُّدهم، لكنَّ صوتًا رتّل بغتةً: "لا تخف ولا تحزن إنا منجوك" لم تسمعه أذنٌ ما خلا أذني، لقد كان الصوت في عقلي يردِّد تلك الآية ربما لطمأنة قلبي.
ثمَّ أتى اليوم الثامن والعشرون. لقد ازداد اقتراب الموت مني بعد أن تضرَّرتْ غالبية أعضائي. دعاني لزيارته فقبلتُ دعوته، هممتُ أن أغادر معه لولا صوت أحدهم: «خُذْ البشرى، لقد انتصرتم؛ وأخيرًا اضطر السجّان لتلبية مطالبكم فقد امتثل أمام صمودكم». ما ألذ نشوة الانتصار! أنستني كلَّ جوعٍ وألمٍ عانيته. دفعتُ الموت قائلًا: «ليس وقتك الآن». علا صوت تكبيرات النصر واخترق طبلة أذني، تخلّل الصوتَ صوتٌ آخر كان لذات الصغيرة: «لِمَ فعل ذلك يا أبي لِمَ؟»
آه يا صغيرة لو أنك لا تُصرِّين على معرفة السبب. أنا يا صغيرة مؤمنٌ بأنَّ الحق الذي وراءه مُطالب لن يضيع. لقد جزمتُ على نيل حقوقي، حتى لو كان الثمن حياتي! لذا خضتُ وزملائي في الأسر إضرابًا جماعيًا عن الطعام؛ كي نحصل على حقِّنا كبشرٍ ليس إلا! تلك طريقة احتجاجٍ لمن ليست لهم سبلٌ أخرى للتعبير عن مطالبهم. أتودين معرفة الأسباب التي جعلتنا نُفضِّل الموت على حياة السجن؟ جيدٌ أنك لا تسمعينني الآن؛ فأنّى لك أن تعي ما سأقول؟! على أيِّ حالٍ سأجيبك. نحن نطالب بمنع التفتيش العاري. نعم، نحن نناضل من أجل أن نُبقي قطعة قماشٍ صغيرةٍ تغطي عورتنا خلال تفتيش الجنود لنا؛ فقد كنا نُجرَّد من الملابس قسرًا، نقاوم بكلِّ ما تبقى لدينا من قوّةٍ كي لا نسمح بأن تُمرّغ كرامتنا في التراب أمام ثلّة منهم!
ما زلتُ رهن الاعتقال. لم يخرج العصفور من قفصه بعد مرفرفًا بالحرية، لكنَّ فرحتي بالنصر كبيرة؛ نصر لقائي بزملائي الّذين خرجوا من العزل الانفرادي تلبيةً لمطلبنا. حيث كان هنالك أسرى مضى على عزلهم أكثر من عشر سنوات متتالية في زنازين انفرادية تفتقر لمقومات الحياة البشرية والنفسية. كذلك نصر لقائي بعائلتي الّذين لم أرهم منذ سنواتٍ طوال من منع زيارة ذوي الأسرى. ها أنذا لا تسعني الأرض وأنا أرمق ابنتي واقفةً خلف الزجاج العازل. تُمسك سماعة الهاتف وتقول «بابا». تلك هي فرحة عمري.

زينب يعقوب صنوبر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى