مقتطف شريف محيي الدين إبراهيم - رحيل الفرعون الأخير.. (فصل من رواية شارع العزب)

رغما عن الأخطاء الكارثية ، والفساد المقنن الذي استشري، في عهده، كشبكة عنكبوتية مرعبة ، والوصول لمستويات متدنية في منظومتي التعليم والصحة، وما حدث من تدمير للقطاع العام، وإهمال كبير للتنمية الاقتصادية، والسماح بظهور كيانات احتكارية كبرى تحكمت في مفاصل الدولة اقتصاديا، وسياسيا، وضاعفت الفوارق الطبقية في المجتمع،بخلاف سماحه لنمو التيارات المتاسلمة حتى توحشت، فكادت تفتك بالدولة ....
مع شبهة التجهيز والإعداد لتوريثه الحكم،لنجله والتمسك المقيت بالسلطة…
بيد أنني ، ورغما عن كل هذا لا أستطيع أن أنسى، أخر قرار قد اتخذه وهو رئيس للجمهورية!!
و كيف أنه واجه بكل شجاعة غضب، وثورة الشعب عليه، لم يركب طائرته الخاصة ويترك البلاد مثلما فعل غيره من حكام.
كان يدرك أنها ليست مجرد ثورة عادية، ولكنها مؤامرة كبرى لإسقاط الدولة كلها، تمهيدا لتقسيمها لعدة دويلات منها واحدة في الشمال، وأخرى في الجنوب، بخلاف منطقة سيناء التي سيتم ضمها على الفور إلى الكيان الصهيوني.
كان يعلم أطراف المؤامرة بداية من أمريكا وإسرائيل، ونهاية بقطر وتركيا، رفض مغادرته للبلاد، رغم ترحيب كثير من زعماء الدول به ، بل وتخصيصهم، له، قصورا ومبالغ باهظة، لتكون تحت تصرفه هو وأسرته،عرفانا منهم وتقديرا لما قدمه لهم، وللأمة العربية، وللعالم كله، من خدمات هي في نظرهم، لا تعد ولا تحصى.
مبارك ، قام بتفويض، صلاحياته، لحكم البلاد للمجلس العسكري، ثم تنحي ليقبع، هو وعائلته، في قصره الخاص الكائن في المدينه المحببة إلى قلبه، شرم الشيخ، كان يعلم مدى خطورة أن يترك الحكم لأي فرد، كرئيس مجلس النواب أو رئيس المحكمة الدستورية، كما ينص الدستور المصري ، وكأنه كان يدرك سهولة اغتيال فرد واحد، ووقوع البلد في حالة فوضى مطلقة ، مخطط لها من قبل والتي أطلق عليها المتأمرون نظرية (الفوضى الخلاقة)، كان مبارك يتصرف بحكمة وحنكة كبيرة، أظهرت مدى عشقه لتراب هذا الوطن، حتى وهو يقوم بخلع نفسه كان يفكر في الكيفية التي تحافظ على بقاء الدولة....
ورغم تحذيرات كبار رجالات الدولة له، مثلما طلب منه رئيس جهاز مخابرات الدولة اللواء عمر سليمان ، الذي جهز له طائرة حربية خاصة لمغادرة البلاد سرا، حرصا عليه من بطش الكيانات المتأسلمة، وأنه على أقل تقدير سيتعرض للمحاكمة، بل وربما يتم اغتياله ، ومعه كل أفراد أسرته، إلا أنه رفض أن يتخلى عن مواصلة دوره في الحفاظ على تراب، ووحدة وطنه،وقال له:
فليكن، يحاكموني فأنا لست مجرما أو خارجا على القانون، حتى أفر من وطني كالفأر المذعور، أنا حسني مبارك زعيم الأمة العربية،وسأعيش، وأموت على أرض مصر، وأدفن في ترابها.
كان يعلم أن المخطط كبير، وأن خلف ثورة الشعب، العديد من الدول الغربية، بل والعربية وقد اتفقوا جميعا على سقوط الدولة المصرية،وأن مسألة سقوطه هو، هي مجرد بداية لسيناريو كارثي، ونشر حالة َمرعبة من الفوضى بين ربوع المحروسة.
لم ينس أنه واحد من كبار أبطال حرب أكتوبر المجيدة، وأنه لم يبع حفنة تراب واحدة من تراب الوطن، وكيف رفض إقامة أي قواعد عسكرية أجنبية على أرض مصر، طوال فترة حكمه، رغم بشاعة الضغوط، وتعدد الإغراءات.
فعليا مبارك له ما له، وهو الكثير …
وعليه أيضا ما عليه، وهو أيضا كثير جدا.
ولكن يبقى مبارك كواحد من كبار رؤساء العالم، ورمزا يصعب انتزاعه من أعماق كل مواطن عربي ، وقد كانت نهايته كما أراد، وكما قال في آخر حديث له مع الشعب قبل تنحيه عن السلطة حينما، أعلن أنه ولد في مصر وسيموت على أرض مصر، وأن التاريخ وحده هو من سيحكم عليه.
مشهد حمل جثمانه في جنازة عسكرية مهيبة، يؤكد أن قيادات الدولة قد أحسنت في تعاملها معه، بهذا النهج الراقي الذي يليق بزعماء العالم ، ربما لأن التاريخ لا يكتب فقط على أوراق يمكن تمزيقها بفعل فاعل، وإنما التاريخ الحقيقي هو ما يكتب في وجدان الشعوب ربما كنا شعبا، يمتلك جينات حضارية عبقرية، ولكننا في النهاية، صرنا نحارب، حروبا ضارية لمجرد، البقاء على قيد الحياة.
حين سقطت مني دمعة، وأنا أرى آخر فراعنة مصر، وقد وراه الثرى، تعجبت من نفسي بشدة،بل ونهرتها بقسوة، و صحت غاضبا فيها، من بين دموعي، أليس هذا الذي أبكيه الآن هو نفسه من لعنته سرا وجهرا، مئات المرات؟!
أليس هو من أعلنت للجميع عدائي وكرهي له؟!
أليس هذا هو من قلت عنه:
جاهل، فاسد، مخرب؟!
قلت عنه:
هو مجرد موظف روتيني، وأنه السبب الرئيس في تدهور الدولة، فهو لم يضع البلد إلى جوار مثيلاتها من الدول المحترمة، بما يليق بها من إنشاء مشاريع تنموية ، بل هو من دمر الاقتصاد والصناعة والزراعة والصحة وأدخل المبيدات، والكيماويات، والهرمونات التي أتلفت الأرض، ودمرت صحة المواطن وجعلت الأمراض تنهك جسده، حتى صار في مصر، أعلى نسبة مصابين بالسرطان والفشل الكبدي والكلوي...
قلت أشياء كثيرة وجاهرت ببغضي له، وتظاهرات مع المتظاهرين في ٢٥ يناير، وطالبت بإسقاطه ومحاكمته، وهتفت فرحا مع جموع هادرة من الشعب يوم أعلن تنحيه.....
الآن وبمنتهي الغرابة أبكيه !
ربما كنت أبكي الشخصية الأولى لمبارك،
فمبارك حتما يمثل شخصيتين منفصلتين تماما...
مبارك الأول…
المقاتل، البطل، المكافح، النزيه،الزعيم العربي، قاهر اليهود الفرعون الذي أذلهم في حرب أكتوبر وسار على درب سلفه الرئيس الراحل محمد أنور السادات، حتى استعاد كل حبة رمل من الأراضي المغتصبة فلم يترك وسيلة من وسائل السلم أو الحرب، حتى سلمت مصر بكل أراضيها من دنس المحتل الصهيوني.
مبارك الأول هو ملك فرعوني عظيم، لا يمت بصلة لمبارك الثاني الفاسد، الجاهل المستبد، ولكن مهما فعل مبارك الثاني من موبقات إلا أنه لم يستطع أن يقضي على مجد مبارك الأول الذي يبدو أنه كان عظيما بحق.
موت مبارك بلا شك، هو إعلان عن انتهاء، وزوال حقبة تاريخية مهمة في ثقافة ووجدان كل مواطن عربي.
............................................

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى