فنون بصرية عباس محمود العقاد - «متحف مصرى للتصوير اقتراح على وزارة المعارف»

من أعمال وزارة المعارف المأثورة أنها تعنى بتشجيع رجال الفنون واقتناء بعض الصور الجيدة التى يعرضونها فى معارضهم لحثهم على مواصلة العمل من جهة والانتفاع بها فى تدريب الطلبة على التصوير من جهة أخرى.
وقد علم قراء البلاغ أنها اشترت من المعرض الفرنسى الذى كان مقاما فى القاهرة إلى زمن قريب صورا بثلاثة آلاف جنيه، فشكر لها العارفون هذه اليد الجميلة على الفن الجميل ورأوا فى ذلك توطئة حسنة لإنشاء المتحف الدائم الذى فكرت فى إنشائه وعزمت على أن تودعه كل ما لديها من الآثار الفنية وكل ما يهبه إياه أنصار التصوير الذين جمعوا من ذخائره الشىء الكثير النفيس، وقد نما إلينا أن الأستاذ محمد محمود خليل بك ــ وهو صاحب أكبر وأنفس مجموعة للصور القيمة فى مصر ــ قد أظهر عزمه على إهداء صوره كلها إلى وزارة المعارف حتى تنشئ متحفها وتبتنى له الدار التى تليق به وتجمل بسمعة هذا البلد الأدبى، وهذه المجموعة هى ثروة فنية غالية لا تقدر قيمتها المالية بأقل من مائتى ألف جنيه ولا يوجد مثلها إلا عند الأفراد القلائل من هواة الصور فى العالم.
فإذا ضمنت الوزارة هذه الهبة مع ما ينفق لها من الهبات والمقتنيات الأخرى إلى أن تنجز نيتها وتفرغ من إنشاء متحفها فتلك بداية حسنة تدعوها إلى التفكير الجدى بل إلى الشروع العملى فى إنجاز تلك النية التى يتشوق إلى تحقيقها كل محب للفنون عارف بما لها من الشأن فى حياة كل أمة تستحق أن تسمى أمة فى هذا الزمان.
ونحن نرجح جدا أن الصور التى اشترتها وزارة المعارف من المعرض الفرنسى كانت كلها من رسم المدرسة الحديثة لأن صور المتاحف لا تباع ولأن أصحاب الصور الأخرى ــ ومنهم الأستاذ محمد بك محمود خليل ــ لم يعرضوها هناك ليبيعوها بمال. فإذا كان ما نرجحه صحيحا فكل الذى نرجوه أن يكون الاختيار قد وقع على الصور المعقولة الممتازة من عمل الأساتذة المقتدرين الذين لم تفسد صناعتهم «نظريات» هذا الخلط المشوه الذى يسمونه بالفن الحديث، فإن آثار هذا الفن الحديث لا تساوى شيئا ولا يجنى منها الطلبة إذا هى عرضت عليهم إلا ضلال الذهن وفساد الذوق والشك فى كل قاعدة من قواعد التعليم الصحيح، ونكاد نؤمن ــ دون أن نرى تلك الصور التى اختارتها الوزارة ــ بأنها لم تشتر صورة من آثار المدرسة الحديثة التى نعنيها لأنها جميعا بمكان من القبح والرداءة لا يختلف فيه اثنان لم يفتنا بتلك الفتنة العمياء. اللهم إلا إذا كان القصد من شرائها أن تنصب مثالا للطلبة والمبتدئين يفهمون منه ضلال.. (جزء مقطوع من ورقة الجريدة يقدر بست وثلاثين كلمة).. كان من نصيب الأجانب الذين يشتغلون فى هذا البلد ويعرفون بوسائلهم الخاصة كيف يقدمون مصنوعاتهم للشراء بالثمن الكثير.
ولا حاجة بنا لأن نقول إن الغرض الأول من التشجيع هو إنشاء فن مصرى شرقى وليس مساندة كل أجنبى يفد إلى مصر ولا تدل أعماله ــ وإن كانت حسنة ــ على نهضة فنية فى البلاد. والعجب الذى يستوقف النظر أن يقام فى القاهرة معرض لصور المعابد المصرية والمناظر المصرية وأن يعنى فيه عناية خاصة بتمثيل الشمس المصرية وألوان الجو المصرية ثم لا يلتفت إليه خبراء وزارة المعارف لأن صاحبه ليس بفرنسى ولا إيطالى ولا أوروبى على العموم، وإنما هو شرقى تركى وليس لشرقى نصيب من أنصاف هؤلاء الخبراء ولو كان هو الأستاذ هدايت صاحب المقام المعروف فى عالم التصوير، ونقول صاحب المقام المعروف ويجب أن نقول إنه معروف عند أولئك الخبراء قبل سواهم لأننا رأيناهم يقدرون أعمالا لتلامذته الذين نعلم أنهم لا يزالون يتلقون عليه أصول فن التصوير ويقتبسون من طريقته فى الرسم والتلوين..!
فهذا الإجحاف وأمثاله هو الذى يدعونا إلى أن نقترح على وزارة المعارف تعديل الخطة المتبعة فى ترشيح الصور للشراء حتى نأمن المحاباة ولا يقال إن «الشخصيات» التى يتحدث الناس بها هى المحور الذى يدور عليه التفضيل والمكافأة لأناس لا تقربهم من ذوى الشأن فى هذا الصدد كفاءة ولا سعى حميد.
أما الاقتراح فهو أن تسند مهمة الانتقاد والتقدير إلى لجنة متعددة الأعضاء لا إلى شخص واحد هو الحكم الأخير فى كل معرض وكل صورة، وأن يلاحظ فى هذه اللجنة ألا تختار من جنس واحد أو يغلب عليها جنس واحد، بل ربما كان الأفضل والأقرب إلى الإنصاف أن يتخلى الفرنسيون من أعضائها عند التصدى لنقد الأعمال الفرنسية وأن يتخلى البلجيكيون والطليان والإنجليز عند نقد الأعمال التى يعرضها أبناء وطنهم تحاشيا للعصبية والمآرب الشخصية التى تفسد الغرض من التشجيع ومن بذل أموال الأمة فى اقتناء الصور والآثار الفنية.
ونظن أن تعديل الأعضاء كفيل بمنع الأغراض الشخصية التى يتحدث بها بعض الناس جهد المستطاع، ثم هو كفيل بالإصابة وحسن الانتقاء وسلامة التقدير.
أما بقاء الحالة على ما هو معهود معلوم الآن فقد أوشك أن يقنع الكثيرين بعبث المساعدة الحكومية فى فن التصوير كما اقتنعوا من قبل بعبثها الظاهر فى فن التمثيل.
وربما كانت الأسباب هنا لا تختلف عن الأسباب هناك، وفى هذه الإشارة كفاية.


-----------------
جريدة البلاغ 3 إبريل 1928

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى