سعد عبد الرحمن - قصور الخلفاء العباسيين في شعر البحتري

يوشك ديوان البحتري أن يشبه ما يعرف الآن بالخارطة المجسمة Relif Map أو الدليل المصور Illustrated Giude لكثير مما وقعت عليه عيناه من مشاهد الطبيعة والعمران في عصره، ومن أبرز مشاهد العمران التي أولع البحتري بوصفها القصور فقد وصف البحتري كثيراً من قصور الخلفاء العباسيين وولاة العهد وكبار رجال البلاط العباسي الذين عاصرهم وكبار رجالات البلاط العباسي، وإن لم يشتهر من قصائده التي وصف فيها تلك القصور سوى قصيدتين: أولاهما سينيته الشهيرة التي وصف فيها إيوان كسرى والثانية رائيته الرائعة التي رثى بها الخليفة المتوكل ووصف فيها قصره الجعفري حيث قتل، والفترة التي عاش فيها البحتري( 204 - 285 هـ) تمثل أزهى فترة في حياة الدولة الإسلامية من حيث النهوض الحضاري، ويمكن تلمس مظاهر ذلك النهوض في ميادين كثيرة يعنينا منها هنا العمران.
لقد بلغ فن العمارة ابان تلك الفترة شأواً لم يبلغه من قبل في حياة العرب، وقد مهد لهذا ذلك الثراء الكبير الذي غرقت فيه المدن والأمصار الإسلامية حتى آذانها وبخاصة العاصمة بغداد(1) ، ومصادر ذلك الثراء الذي غرقت فيه المدن والأمصار الإسلامية يمكن إرجاعها إلى مصدرين رئيسيين هما :
أ. أموال الخراج، وكانت تجبى إلى الخلفاء من سواد العراق ومن أقاصي الدولة وأدانيها .
ب. المكوس والضرائب، وكانت تفرض على واردات الدولة وصادراتها(2) وقد هيأ ذلك الثراء الكبير للخلفاء والأمراء العباسيين ومن حولهم من رجال الحاشية أن يعيشوا حياة بالغة الترف، وفي حضن هذا الترف الذي تجاوز كل حدود ازدهر فن العمارة كشأن الفنون في كل زمان ومكان .
وقد شغف الخلفاء العباسيون بتخطيط المدن الجديدة واهتموا بعمارتها وبناء القصور وتشييدها مقلدين في ذلك أكاسرة الفرس وأباطرة الروم وتابعهم في ذلك الأمراء والوزراء والولاة وغيرهم من كبار رجالات الدولة وأثريائها من التجار والكتاب(3) وكلما تقدموا في المدنية وأغرقوا في الترف والرخاء تزايد شغفهم بالعمارة بيد أن نفراً منهم بلغ شغفهم بالبناء واهتمامهم بالتشييد حداً لافتاً للنظر ومثيراً للدهشة وأول أولئك النفر الخليفة المعتصم الذي بنى مدينة (سامراء) لجنوده وغلمانه الأتراك وأقطعهم فيها القطائع(4) والمتوكل على الله الذي بذل الأموال الطائلة في عمارة القصور وتشييدها وأحدث في إبانه طرزاً من الأبنية لم يكن الناس يعرفونها من قبل وهي
المعروفة بالحيرى والكمين والأروقة(5) ومنهم أيضا الواثق والمعتضد ثم المكتفي، وتروي كتب التاريخ أن المعتضد وصل بين قصريه (التاج) و(الثريا) بسرداب يمتد إلى مسافة ميلين لتمشي فيه جواريه وحريمه وسراريه(6) ولم تكن قصور الخلفاء العباسيين مجرد دور للسكنى فقط، بل كانت أشبه ما تكون بالمدن الكبيرة فقد كانت تشتمل على دور وبساتين ومسطحات تظللها الأشجار كما كانت تشتمل على قاعات ذات قباب وأروقة أثثت جميعها بأروع الأثاث وفرشت بأفخم أنواع البسط والرياش من سجاجيد وطنافس كما ازدانت بالمناضد الثمينة والزهريات الخزفية والتربيعات المرصعة والمذهبة(7) وبتأثير الفن الفارسي تميزت عمارة القصور العباسية بتفصيل الأكتاف أو الدعامات على الأعمدة في حمل البواكي وبالاقبال على استخدام الجص في كسوة الحوائط والجدران، وزينت القصور من الداخل والخارج بالرسوم والزخارف والفسيفساء الزجاجية التي يغلب عليها اللون الأخضر وزينت أيضاً بصور ونقوش من الجص كما غطيت نوافذها وطيقانها بستور من الديباج المزين بالرسوم المختلفة(
😎
وكثيراً ما كانت تلحق بهذه القصور حدائق لتربية الأنواع المختلفة من الحيوانات والطيور وبرك صناعية ونافورات للمياه من الرخام الملون واسطبلات واسعة لتربية الخيول وحلبات لسباقاتها(9).
وصف البحتري - كما سبق أن ذكرنا - كثيراً من قصور الخلفاء العباسيين وولاة العهد وكبار رجال البلاط العباسي الذين عاصرهم، وقد حظيت قصور الخليفة جعفر المتوكل على الله بالنصيب الأوفى من اهتمام البحتري، ولا غرو فقد ربط بين البحتري والمتوكل علاقة وثيقة تتجاوز حدود العلاقة التي تربط بين حاكم وشاعر في بلاطه، هذا بالإضافة إلى أن ذروة الشغف والاهتمام بالعمارة وبناء القصور وتشييدها كانت على عهد المتوكل (222 - 247هـ) لقد شغف المتوكل بالبناء والتشييد شغفاً فاق كل الحدود حتى ليقال: أن النفقات لم تبلغ في عصر من العصور ما بلغته في عصره وخاصة في بناء القصور(10) ويكفي أن نعرف أنه بنى وحده على حساب إحدى الروايات عشرين قصراً بلغ ما أنفقه عليها مائتين وأربعة وسبعين مليوناً من الدراهم(11) وبلغ ما أنفقه على واحد منها فقط وهو القصر المعروف (بالبرج) مليوناً وسبعمائة ألف دينار(12) وأشار ياقوت إلى أن النفقة عليه بلغت عشرة ملايين درهم (13) كما أنفق على بناء (الماحوزة) وسماه (الجعفرية) أكثر من مليونين من الدنانير (14) وقيل خمسين مليون درهم(15) ولم يكن هذا البذخ والترف وحُمّى بناء القصور وتشييدها مجرد مناخ عام أظل البحتري كما أظل غيره من المسلمين ورعايا الامبراطورية العظيمة المترامية الأطراف، بل كان يمثل أيضا للبحتري مناخا خاصا فقد عاش أغلب عمره في حجر النعيم بقصور الخلافة وأعمدة الحكم العباسي، وكل شيء يؤكد أن البحتري أُثري ثراء كبيراً لاسيما في خلافة صديقه المتوكل الذي أغدق عليه عطاياه بلا حساب ونثر عليه أمولاً جمة ومنحة الكثير من الإقطاعات هذا بالإضافة إلى ما أغدقه عليه الخلفاء الآخرون قبل المتوكل وبعده وما أغدقه عليه أيضا كبار رجالات الدولة مثل الفتح بن خاقان وغيره من أعيان رجال الحاشية والدواوين وبخاصة آل المدبر(16) وقد مكنت هذه الحياة التي عاشها البحتري في كنف الخلفاء العباسيين الذين عاصرهم أن يكون شاهد عيان عن كثب لكل تلك الإنجازات العمرانية العظيمة التي تمت في حياته وأن ينيط بنفسه مهمة التقاط صور من زوايا فنية مختلفة لكثير من تلك الإنجازات ووسيلته في آداء هذه المهمة ملكته الشعرية وقدرته الفائقة على الوصف(17) وكأنه - مع الفارق - ذلك (المصور الفوتغرافي الرسمي) الذي نعرفه في عصرنا الحديث ونجده دائماً بكاميراه حاضراً في كل مناسبة من المناسبات الرسمية لتسجيلها.
وربما كان (الرسام الانطباعي) أدق دلالة على البحتري الشاعر الوصافة وأوضح مثلاً على طريقته الفنية في تسجيل موضوعاته من (المصور الرسمي)، فالمتصفح لديوان البحتري يجد أنه معني - مثل فناني المدرسة الانطباعية - بالألوان والحركة في الأشياء عناية تدل على شغفه وافتتانه الشديد بهما، ويجد أنه أيضا لا يهتم في وصفه للأشياء بالأشياء في ذاتها وإنما هو يهتم فقط بمظاهر الحياة فيها(18)
وفي حياة البحتري الناعمة المترفة - التي أشرنا إليها - يكمن التعليل المناسب والتفسير الصحيح لهذه الطريقة التي اعتمدها البحتري وتميز بها بين شعراء عصره في وصف الحياة بحيث لا يتغلغل إلى أعماقها لاستجلاء العلائق الخفية بين عناصرها ومفرداتها وكشفها بقدر ما يتلكأ على سطوحها البراقة اللامعة، لقد عاش البحتري حياة مكنت لنفسه من حب الحياة والتعلق بمظاهرها الزاهية التي تعود عليها، ومثل هذه الحياة التي عاشها البحتري لا تتيح إلا القليل من الفرص للتأمل فيها واستكناه أسرارها والبحث عن المغزى الكامن وراء أحداثها ووقائعها الظاهرة، ولكن من الجدير بالذكر أن هذه الحياة أضافت إلى موهبة البحتري في الوصف والتصوير خبرة ودراية كبيرة بشكلها الخارجي وزودته بدقة في الملاحظة وحساسية بصرية عالية تجاه ما يراه من تحولات في هذا الشكل سواء في الطبيعة أو العمران.(19)
ولذلك فلا عجب أننا نستطيع دون أدنى تكلف أو عناء أن نتخيل المشاهد التي رسمها لنا البحتري بريشته التأثرية، وأن تتجلى أمام أعيننا صور القصور والبساتين والبرك والنافورات وحلبات سباق الخيل وغيرها من مظاهر الحضارة الإسلامية في العصر العباسي بكل زهاء ألوانها وبهاء خطوطها وظلالها ووضوح أشكالها وأحجامها وما ينعكس على مراياها من حركة وحياة، وفي مقدمة قصور المتوكل التي وصفها البحتري قصر (الجعفري) (بناه المتوكل سنة 245هـ)(20) وهو من أجمل صوره وأوسعها، ويبدو أن قصر الجعفري لم يكن مجرد قصر بل كان مدينة كبيرة أو ما هو أشبه بذلك بدليل أن المتوكل حين انتقل من سامراء إليه انتقل كذلك عامة أهل سامراء(21)، قال ياقوت الحموي في معجمه: "دخل أبو العيناء على المتوكل في قصره المعروف بالجعفري فقال له: ما تقول في دارنا هذه ؟ فقال أبو العيناء: إن الناس بنوا الدور في الدنيا وأنت بنيت الدنيا في دارك، فاستحسن كلامه"، وذكر ابن سرابيون في كتابه (عجائب الأقاليم السبعة) أن القاطول الكسرويّ(22) كان يسير مماسا له، وفي هذا القصر شهد البحتري فاجعة مقتل المتوكل على يد أحد غلمانه الأتراك، ولذلك فد حظي قصر الجعفري من البحتري بقصيدتين: الأولى يصفه فيها البحتري قبل الفاجعة حين تم بناؤه، والثانية يصفه فيها بعد أن وقعت الفاجعة ويد الخراب تعيث فيه.
يقول البحتري في القصيدة الأولى:(23)
قد تم حسن الجعفري ولــــم يكن ليــــــــــتم إلا بالخليــــــفة جعفر
ملك تبوأ خيـــــر دار إقــــــــــامة في خيــر مبدي للأنام ومحضر
في رأس مشــرفة حصاهــــا لؤلؤ وترابهـــــا مسك يشــــــاب بعنبر
مخضرة والغيــث ليـــــس بساكب ومضيـــئة والليل ليــــــس بمقمر
ظهرت لمخترق الشمال وجاورت ظلل الغمــــام الصيــب المستغزر
فرفعت بنيـــــــاناً كأن زهــــــاءه أعلام رضوى أو شواهق صنبر(24)
عال على لحظ العيـــــــــون كأنما ينظرن منه إلى بيــاض المشتري
ملأت جوانبـــــه الفضاء وعانقت شرفاتــــه قطــع السحاب الممطر
ويسيـــــر دجلة تحتــــــه ففناؤها من لجة غمــــــر وروض أخضر
يرسم لنا البحتري في تلك الأبيات السابقة صورة متكاملة الخطوط والملامح لقصر (الجعفري) وذلك بعد الانتهاء من بنائه كما تخبرنا بذلك في بساطة شديدة عبارة (قد تم حسن الجعفري) وغريزة الرسام لدى البحتري - كما هو واضح - قوية جداً، لذلك فهو لكي ينقل إلينا صورة القصر واضحة لم يجد غضاضة في أن يتدخل بريشته حيث يضيف إلى التفاصيل من خياله الخصب ما يؤكد زهاء ألوانها وخطوطها ويزيد الإحساس بأبعادها، فالربوة التي بُني عليها قصر الجعفري(25) والتي دلنا عليها قوله (في رأس مشرفة) لا يكفي أن تكون مرتفعة فالبحتري يزيد أن حصاها لؤلؤ وترابها مسك مشوب بالعنبر، وكونها خضراء مضيئة لا يكفي أيضاً فهو يضيف أن الاخضرار من طبيعتها وليس متوقفاً على مياه الأمطار، وكذلك الإضاءة ليست متوقفة على ظهور القمر وكأنما يريد أن يشير إلى اغتناء الربوة بمياه دجلة التي يجري أحد فروعه تحتها عن مياه الأمطار، وبارتفاعها الذي يقربها من السماء الصافية والنجوم اللامعة عن ضوء القمر.
وعلى هذا النسق يصور البحتري القصر المنيف تصويراً كله بصري لا يعكس أية عاطفة قلبية أو شعور نفسي نحو الموضوع الذي يصوره ويستمر البحتري في عرض بقية جوانب الصورة فنشاهد زهاء القصر (جرمه أو شخصه) كأنه في ارتفاعه جبل شاهق أو قلعة شامخة، وهو عال على لحظ العيون فكأنك وأنت تدنو إليه من أسفل ترنو إلى كوكب المشتري البعيد ثم أنه فوق هذا كله يملأ جوانب الأفق بقبابه وأبراج أسواره ويعانق بشرفاته قطع السحاب، وتكاد تكون اللقطة التي يعرضها البحتري في الأبيات الأربعة الأخيرة أشبه باللقطات التي يأخذها المصور الفوتغرافي المحترف بعدسة الكاميرا من أسفل إلى أعلى بزاوية حادة لتأكيد الإحساس بالضخامة والارتفاع.
ويقول البحتري في القصيدة الثانية:(26)
تغير حسن الجعفــري وأنسه وقوض بادي الجعفـري وحاضره
تحمل عنه ساكنــــوه فجاءة فعادت ســـــــــواء دوره ومقابره
إذا نحن زرناه أجدّ لنا الأسى وقد كان قبل اليوم يبهج ناظره
ولم أنس وحش القصر إذ ريع سربه وإذ ذعرت أطلاؤه وجاذره
وإذ صيح فيه بالرحيل فهتكت على عجــــل أستـــــاره وستائره
ووحشته حتى كأن لـــم يقم به أنيــس ولم تحسن لعيــــن مناظره
ولم تجمع الدنيا إليه بهاءها وبهجتها والعيـش غض مكاسره
فأين الحجاب الصعب حيث تمنعت بهيـبتها أبوابه ومقاصره؟
وأين عميد الناس في كل نوبة تنوب وناهي الدهر فيهم وآمره؟
تتفق هذه القصيدة والقصيدة السابقة في البحر (الطويل) وحرف الرويّ (الراء) وتختلف عنها فيما عدا ذلك في الغرض والجو النفسي وبقية خصائص القافية، وأهم من ذلك كله في طريقة البحتري في الوصف، فالغرض من كتابة هذه القصيدة رثاء الخليفة المتوكل الذي قتل تحت سمع وبصر الشاعر(27) من خلال تصويرها الخراب والدمار والوحشة التي دفعت كل شيء في القصر العظيم والجو النفسي للقصيدة مكتظ بمشاعر الأسى والحزن واللوعة النازفة التي تتضافر كل الوسائل - لغوية وصوتية - في تكثيفها، نلاحظ ذلك في:
سيطرة الزمن الماضي على النص فأغلب الأفعال فيه ماضية مثل (تغير - قوض - كمل - عاثت - زرناه - ريع - ذعرت - صيح ... الخ) أو منقلبة إلى الزمن الماضي بلازمة نحوية مثل ( كان يبهج - لم تقم - لم تحسن - لم أنس ... الخ ) والزمن الماضي ذو قيمة إيحائية كبيرة بأحاسيس الفقد والضياع ومشاعر الحسرة والألم.
كثرة حروف المد (الألف والواو والياء) في القصيدة وهذه الحروف ذوات خصائص صوتية معينة تسهم في تشكيل الجو النفسي للقصيدة فهي حروف صوائت يخرج الهواء أثناء النطق بها حراً طليقاً لا يعترضه شيء فيشبه التأوهات التي تعبر عن شدة الألم والمعاناة (بادي - حاضره - ساكنوه - فجاءة - سواء - دوره - مقابره - زرناه - ريع - أطلاؤه - جآذره - صيح - الرحيل - أستاره - ستائره ... الخ).
كثرة المفردات المشحونة بمعاني الحسرة والألم وإيحاءات الخراب والدمار مثل (تغير – قوض – تحمل – فجاءة – مقابره – الأسى – ريع – زعرت – صيح – الرحيل – هتكت – على عجل – وحشته ... الخ).
انتهاء القافية بهاء ساكنة (هاء الوصل عند العروضيين) والهاء كما هو معروف في الدراسات الصوتية حرف حنجري احتكاكي يسمح بمرور الهواء إلى الخارج محدثاً صوتاً أشبه بلهاث المصدور بقطعة السكون الذي يرمز إلى كل معاني الفناء والعدم والضياع التي صار إليها قصر الجعفري.
وطريقة البحتري في الوصف هنا تختلف كثيراً عن طريقته التي اعتاد عليها، فصورة القصر هنا يعرضها علينا البحتري لا من خلال عدسة عينيه وإنما من خلال عدسة نفسيته المفجوعة بمقتل المتوكل وقد قتل - كما سبق أن المحنا - تحت سمعه وبصره دون أن يحاول الدفاع عنه لجبنه وما نظنه كان سيعيش ليقول هذه المرثية لو أنه حاول أو حتى هم بالمحاولة.
لقد ادعى البحتري أن سيفه لم يكن معه في تلك اللحظة تبريراً يداوي به خذلانه لصديقه وجبنه في الدفاع عنه (28):
أدافع عنــه باليديـــــن ولــــــم يكن .. ليثني الأعادي أعزل الليــل حاسره
ولو كان سيفي ساعة القتل في يدي .. درى القاتل العجلان كيف أساوره
وقد كان موقف البحتري بالغ الخزي بعكس الموقف البطولي الرائع للفتح بن خاقان - وقد دفع حياته ثمناً له - الذي ارتمى على جسد المتوكل ليحول بينه وبين سيوف قاتليه ويتلقاها عنه فقتل معه(29) بيد أن محاولة التبرير ذاتها التي ساقها البحتري في البيتين السابقين تشي بمدى جبنه وحرصه على الحياة وتشبثه بها كما تشي بمدى ما كان يعتمل في صدره في أثناء كتابة مرثيته من شعور ثقيل بالذنب وتأنيب الضمير، لذلك فلا يجب أن نندهش إذا لم نعثر في هذه القصيدة على ما قد اعتدنا أن نعثر عليه في اللوحات التي يرسمها البحتري من الوان وخطوط زاهية واضحة، إنها لوحة غائمة تبدو لنا من خلف ستار كثيف من الدموع وشعور بالذنب شديد الوطأة على نفسيته.
ومع ذلك فإن بإمكاننا إذا تمعنا في الأبيات أن نضع أيدينا على بعض المعلومات القيمة عن قصر الجعفري، أن البحتري يخبرنا مثلاً أنه كان قصراً بهيج المنظر أنشأ المتوكل فيه حديقة للحيوانات ذكر البحتري بعضاً من أنواعها كالأسود والظباء والحمر الوحشية (هذا باعتبار أن الصورة في البيت الرابع حقيقية لا مجازية)(30) وكانت حوائط القصر ونوافذه تغطيها الستائر كما تقوم الأستار على أبواب مقاصيره وردهاته، وقد كان قصر الجعفري يحظى بإقامة الخليفة فيه أكثر من غيره، أي أنه بالتعبير المعاصر (المقر الرسمي للحاكم) وتؤكد ذلك متآزرة عدة أشياء في القصيدة منها قول البحتري: "لم تبت فيه الخلافة طلقة"، وقوله أيضاً : "الحجاب الصعب" فحيث يكون مقام الخليفة تكون الخلافة والحكم ويكون الحجاب، وقوله كذلك: "لم تجمع الدنيا إليه بهاءها" فالدنيا لا تجمع بهاءها وبهجتها إلى قصر الجعفري بغير أن يكون الخليفة جعفر المتوكل فيه .
هذه أبرز الملامح التي بإمكاننا تلمسها في صورة قصر (الجعفري) بهذه المرثية الرائعة، ولعلنا من خلال الصورتين المتباينتين اللتين رسمهما البحتري للقصر نستطيع أن نتخيل صورة قريبة من الأصل بعض الشيء.
ومن قصور المتوكل أيضا التي وصفها البحتري قصر يعرف بـ "الصبيح"، وقد ورد ذكره في معجم البلدان بصيغة "الصبح" وربما يكون ذلك تصحيفا، وقد ذكر صاحب المعجم أن المتوكل أنفق على بنائه خمسة آلاف ألف درهم (31)، يقول البحتري(32):
واستتم الصبيــح في خيــر وقت .. فهــــو مغنى أنـــس ودار مقام
ناظر وجهه المليـــــح فلـــــو ينـــــــــــــطق حيــــاه معلنا بالسلام
ألبسا بهجــــــة وقابـــــل ذا ذاك فمـن ضاحك ومـــن بسام
كالمحبيــــــن لـــــــو أطاقا لقاء .. أفرطا في العنــــــــاق والالتزام
تنفذ الريـــح جريــها بيـــن قطـــــريه فتكبــــو من ونيـــــة وسآم
مستمد بجـــــدول من عباـــب المــاء كالأبيـــض الصقيــــل الحسام
فإذا توسط البــــركة الخضــــراء وألقت عليــــــه صبـــــــغ الرخام
فتراه وكأنـــــه مـــــــــاء بحر .. يخدع العيــــــن وهــــو ماء غمام
والدواليـــــب إذ يـــــــــدرن ولا ناضح يــسقى بهــن غيــــــر النعام
جاور الجعفــــري وانحـــــاز شبـــداز إليـــــــه كالراغـب المستهام
حلل مــــن منــــــازل الملك كالأنجـــم يلمعــــن في ســـــــواد ظلام
مفحمات تعيي الصفـــــــــات فمـــــا تـــــدرك إلا بالظــــن والإيهام
فكأنا نحسهـــــا في الأمــــــاني أو نراهـــــــا في طــــارق الأحلام
وتشير كلمة "استتم" في البيت الأول من الأبيات المذكورة أن القصيدة أنشئت عقب الانتهاء من بناء القصر بوقت قصير، ويأخذ البحتري في تلوين صورة القصر التي التقطها بعدسة كاميراه الشعرية بادئا باستحسان الوقت الذي انتهى فيه بناؤه فقد غدا "مغنى أنس ودار مقام" للخليفة المتوكل بعد أن مل من الحياة في قصوره الأخرى، ونلمح في زاوية من الصورة قصرا آخر يسمى "المليح" يقع قبالة "الصبيح" كما تفصح جملة"ناظرا وجهه المليح" وجملة "وقابل ذا ذاك" ولكنه أسبق منه في البناء، وقد ذكر صاحب معجم البلدان أن تكلفة بناء القصرين واحدة(33)، ويبدو أن منظر القصرين المتقابلين كان جميلا ومثيرا لمشاعر الإعجاب مما جعل البحتري يمثلهما كعاشقين لو تمكنا من اللقاء لأفرطا في العناق والالتزام ثم يعود البحتري ليركز اهتمامه على صفات "الصبيح" وفي مقدمتها الرحابة والاتساع حتى إن الريح لتكبو إجهادا وهي تعدو فيه من ناحية إلى أخرى.
ونعرف من أبيات البحتري أن القصر قد شق إليه جدول من نهر دجلة (مستمد بجدول من عباب الماء) وان المتوكل ألحق بالقصر بركة من الرخام تصب فيها مياه الجدول ،وتستمد البركة مياهها من الجدول المذكور عن طريق دواليب ركبت عليه وتلك الدواليب يديرها النعام، ورخام البركة الملون جعل الماء العذب الصافي أشبه بماء البحر في لونه، ومن المعلومات القيمة التي يسوقها إلينا البحتري عن قصر "الصبيح" أنه كان مجاورا لقصر "الجعفري" الشهير وعلى مسافة غير بعيدة منه يقع قصر آخر اسمه "شبداز" وقد ذكر ياقوت الحموي في معجمه أن بناءه تكلف عشرة آلاف ألف درهم(34)، وفي الأبيات الثلاثة الأخيرة يعتذر البحتري بشكل غير مباشر عن تقصيره في الوصف فقدرات الشعراء تعجز عن وصف جمال تلك القصور وروعة بنائها وقصارى ما يستطيعونه هو الاستعانة بالظن والتخيل للإحاطة بما لم تستطع الحواس الإحاطة به، وكأن تلك القصور في عالم غير واقعي؛ عالم يتجاوز مدارك الحس (عالم سحري فانتازي)، ولذلك فهي لا تحس إلا في غيبوبة الأماني ولا ترى إلا في طوارق الأحلام .
وثمة قصر آخر من قصور المتوكل عني البحتري بوصفه أيضا اسمه "الفرد"، وقد ذكر ياقوت في معجمه أن بناءه تكلف ألف ألف درهم(35)، يقول البحتري في وصف ذلك القصر (36):
أحسن بدجلة منظرا ومخيما .. والفرد في أكنــــــاف دجلة منزلا
خضل الفناء متى وطئت تــرابه .. قلت الغمــام انهل فيــه وأسبلا
حشدت له الأمواج فضل دوافع .. أعجلــن دولابيــــــه أن يتمهلا
تبيــــض نقبته ويسطع نـــوره .. حتى تكل العيــــن فيـــه وتنكلا
كالكوكب الدري أخلص ضوؤه .. حلك الدجى حتى تألـــق وانجلا
رفدت جـوانبه القبـاب ميمامنا .. ومياسرا وشغلن عنـــه واعتلى
فتخالـــه وتخالهـــــــــن إزاءه .. ملكا يديــــن له الملــــوك ممثلا
وعلى أعاليـــه رقيــــــب ما يني .. كلفا بتصريــف الريـاح موكلا
من حيث دارت دار يطلب وجهها .. فعل المقاتل جال ثــــم استقبلا
وثمة معلومات جمة عن قصر "الفرد" تزخر بها الأبيات السابقة أهمها أن لونه أبيض، نستنتج ذلك من قوله (تبيض نقبته ويسطع نوره) وقوله أيضا (كالكوكب الدري أخلص ضوءه)، وأن القصر كان مزدانا بالقباب من جانبيه (رفدت جوانبه القباب ...) وأخيرا أن بأعلى القصر كان ثمة تمثال في شكل فارس يدور مع الرياح حيث تدور نفهم ذلك من قوله (وعلى أعاليه رقيب ...) ومن حيث دارت دار يطلب وجهها) وقوله (فعل المقاتل جال ثم استقبلا).
ومن قصور المتوكل التي أشار إليها البحتري بشكل عابر قصرا "البرج" و"البديع"، وقصر البرج ذكره الشابشتي في "الديارات" فقال "إنه أحسن أبنية المتوكل"(37)، كما ذكره اليعقوبي في تاريخه قائلا إن المتوكل أنفق على بنائه ألف ألف وسبعمائة ألف دينار(38)، أما صاحب المعجم فقد ذكر أن نفقة بنائه بلغت عشر آلاف ألف درهم (39)، وممن ذكروا هذا القصر أيضا النويري الذي وصفه بما يشبه وصف الشابشتي له(40)، وسبب هدمه كما يروي الشابشتي أن المتوكل جلس فيه سنة 239 هـ فمكث ثلاثة أيام فحُم فانتقل إلى "الهاروني" قصر أخيه الواثق فقام به ستة أشهر عليلا وأمر بهدم "البرج".
أما قصر "البديع" فقد ذكر ياقوت في معجمه نقلا عن الحازمي أن "البديع" اسم بناء عظيم للمتوكل بـ "سر من رأى"(41)، ولسنا نعلم متى أقام المتوكل ذلك القصر إلا أننا نعرف تاريخ هدمه فقد روى الطبري في أخبار سنة 245 هـ أنه لما أنشأ المتوكل قصره "الجعفري" أمر بنقضه ونقض قصر آخر اسمه "المختار" وحمل ساجهما إليه (42)، ويقابل البديع قصر "الغرد" وذكر ياقوت في معجمه أنه بناء للمتوكل بسر من رأى في دجلة وأنفق عليه ألف ألف درهم (43) وعلق حسن كامل الصيرفي شارح الديوان على اسم "الغرد" فقال: وقد يكون "الفرد"(44)، يقول البحتري(45):
تؤم القصــــــور مــــن أرض بابل .. بحيـــــث تــــلاقي "فـــردها وبديعها"
إذا أشرف "البرج" المطل رميـنه .. بأبصــــار خــوص قد أرثت قطوعها
يضيء لها قصد الســرى لمعانه .. إذ اســــود مــن ظلماء ليــــل هزيعها
وأولى المعلومات التي نستقيها من الأبيات السابقة أن قصري "الفرد والبديع" كانا قصرين متقابلين وذلك في قوله "تلاقى فردها وبديعها" وأن "البرج" كان أكبر وأكثر ارتفاعا منهما ومن قصور أخرى كثيرة في نفس المنطقة، ويتسق هذا مع ما ذكره صاحب الديارات عن أن البرج "كان من أحسن أبنية المتوكل"، كما يتسق مع وصف الحسين بن الضحاك له حيث يقول(46):
ما كان بالبرج مذ كانت أوائلنا .. ولا يكـــــون بناء مثله أبدا
كأنه فلــــك تختـــــال أنجمــه .. إذا التهلل من تيجانه اطردا
ويصف البحتري قصر "البرج" بأنه يطل بضخامته وارتفاعه على القصور الأخرى التي ترميه بعيون غائرة من جهد التطلع والتشوف إليه، ومن شدة بياضه يضيء طريق السارين في ظلمة الليل الحالكة.
وقد بنى المتوكل أغلب قصوره في مدينة "المتوكلية" التي اختطها بالقرب من سامراء، وقد ذكر الطبري المتوكلية في حوادث سنة 245 هـ (47)، وفي المتوكلية يقول البحتري(48):
أرى المتوكليــــــة قــــــــد تعالت .. محاسنهــــا وأكمــــلت التماما
قصـــــور كالكـــــــواكب لامعـات .. يكدن يضئن للســـاري الظلاما
وبر مثل بـــرد الوشي فيـــــــــه.. جنى الحـوزان ينشر والخزامى
غرائب من فنــــــون النبت فيها .. جنى الزهـــر الفرادى والتؤاما
تضاحكها الضحى طورا وطورا .. عليها الغيــــث ينسجم انسجاما
و يتحدث عنها في أبيات أخرى فيقول(49):
يهنيــــــك في المتوكليـــــــة أنها .. حسن المصيف بها وطاب المربع
فيـــحاء مشرفة يرق نسيــــــمها .. غيث تدرجه الريــــــاح وأجرع
وفسيحة الأكناف ضاعف حسنها .. بر لهـــــا مفض وبحــــــر مترع
قد سر فيها الأوليـــــاء إذا التقوا .. بفناء منبــــرها الجديــــد فجمعوا
فارفع بدار الضــرب باقي ذكرها .. إن الرفيـــــــع محله مـــــن ترفع
وأهم ما يلفت انتباهنا في حديث البحتري عن المتوكلية سعتها وكثرة القصور التي تبدو ببريقها ولمعانها كأنها نجوم السماء كما يلفتنا جمال الطبيعة في المنطقة التي اختطت فيها مدينة المتوكلية فهي خصبة ذات مناخ معتدل لطيف، وفي البيت الاخير من الأبيات السابقة يشير البحتري إلى المسجد الجامع الذي بناه المتوكل في المدينة، وعن هذا المسجد الجامع يقول ياقوت الحموي في معرض حديثه عن سامراء: "ثم ولي المتوكل فأقام بالهاروني وبنى أبنية كثيرة وأقطع الناس في ظهر سر من رأى في الحير الذي كان قد احتجزه المعتصم و(اتسع) الناس بذلك وبنى مسجدا جامعا وأعظم النفقة عليه وأمر برفع مناره لتعلو أصوات المؤذنين فيها وحتى ينظر إليها من فراسخ فجمع الناس فيه و تركوا المسجد الأول"(50)، وقد جمع مع الناس في هذا المسجد الجديد أبناء المتوكل الثلاثة: المنتصر والمستعين والمعتز وهم المقصودون بلقب "الأولياء" أي أولياء العهد في البيت ما قبل الأخير من نفس الأبيات، أما في البيت الأخير فنجد أن البحتري يقترح على المتوكل أن يكمل بناء المدينة ببناء دار لسك النقود بها حيث يقول (فارفع بدار الضرب باقي ذكرها).
-----------------------------------
ووصف البحتري من قصور الخلفاء بعد المتوكل قصر "الساج" الذي بناه الخليفة المعتز ( 232 - 255 هـ ) وهو قصر لم تذكره المعاجم وقد رجح الدكتور أحمد سوسة في كتابه القيم "ري سامراء" أن يكون هذا القصر هو قصر "الدكة" الذي كان يقع على الضفة اليمنى لنهر القاطول الكسروي، ويستند في رأيه هذا إلى تحليل ما جاء في شعر البحتري عن قصر الساج فيقول :ويرجح أن يكون قصر الدكة هو القصر الذي يعرف بقصر "الساج" بدليل أن البحتري لما وصف القصر أشار إلى نهر كان يبدأ من قرب "الجعفري" وينتهي عنده فيوصل بينه وبين قصر "الجعفري"، ولا شك أن النهر المذكور هو النهر الذي كان يتفرع من قناة سامراء، وقد ذكر البحتري أيضا أن هذا القصر يقع خارج سامراء في ساحة خضراء مليئة بالاشجار المورقة والمزهرة والمثمرة ولكنه غير بعيد منها وإني لم أجد أثرا ينطبق عليه وصف البحتري كما انطبق على أطلال قصر "الدكة"(51).
ونحن نتقبل ترجيح الدكتور سوسة بناء على أمر واحد هو أن تكون نسبة القصر إلى الخليفة المعتز غير صحيحة وأنه قصر من قصور المتوكل خاصة أن اسم "الساج" لم يرد في أي من المعاجم بينما ذكر النويري قصر "الدكة" في قصور المتوكل، ولكن السؤال الذي سيظل معلقا دون إجابة يحسن السكوت عندها هو: لماذا يسمي البحتري قصر الدكة بقصر " الساج"؟، على أية حال سواء أكان الأمر كما رجح الدكتور سوسة أو كان الأمر خلاف ذلك فمما لاشك فيه أن البحتري وصف في شعره قصرا يسميه "الساج" فقال(52):
وكأن قصــــر الساج خلة عاشق .. برزت لوامقهـــا بقلــــــب مونق
قصر تكامــــل حسنـــــه في قلعة .. بيــضاء واسطة لبحـــــر محدق
داني المحل فلا المزار بشاسع .. عمن يزور ولا الفنـــــاء بضيق
قدرته تقديــــــر غيــــــــر مفرط .. وبنيـــته بنيــــان غيـــــر مشفق
ووصلت بـــين الجعفري وبيـــنه .. بالنهر يحمل مـن جنوب الخندق
نهر كأن الماء في حجـــــــــراته .. إفرنــــد متـــــن الصـارم المتألق
و إذا الرياح لعبن فيه بسطن من .. موج عليــــه مـــــدرج مترقرق
ألحقه يا خيــــــر الورى بمسيله .. وامدد فضـــــول عبابـه المتدفق
فإذا بلغت بـــه البديـــــــــع فإنما .. أنزلت دجلة في فنـــاء الجوسق
وتبدو صورة قصر "الساج" في الأبيات السابقة واضحة بالرغم من عدم اشتمالها على كل التفاصيل الخاصة بالقصر، فالبحتري ينتقي ويختار من كم التفاصيل التي أتيحت له رؤيتها واستوعبتها ذاكرته ما يرى أنه عنصر ضروري تكون الصورة الفنية التي يرسمها بريشته الشعرية للقصر ناقصة غير مكتملة.
يبدأ البحتري أبياته السابقة بإبراز تأثير جمال القصر على نفوس مشاهديه فهو يبدو لمن يراه كالحبيبة عندما تبرز لحبيبها في كامل حسنها وأناقتها ، ثم يذكر من عناصر تكامل حسن القصر أنه بني داخل قلعة بيضاء اللون كما يوحي بذلك قوله "تكامل حسنه في قلعة بيضاء"؛ وربما كان البحتري يقصد بالقلعة ذلك السور الذي يحيط بالقصر مدعوما بالأبراج، وأن لونه أبيض فقد كانت حوائط القصر والسور والأبراج مكسوة بالجص، ولسنا ندري على وجه الدقة ما كان يقصده البحتري بقوله "واسطة لبحر محدق" وإن كنا نرجح انه يشير بذلك إلى أن المياه تحيط بالقصر من جميع جوانبه وفي الغالب أن تلك المياه هي مياه الفرع الذي شقه الخليفة من قناة سامراء وأوصله إلى المنطقة التي بني بها القصر.
والتمعن في الصورة التي رسمها البحتري للقصر يزودنا بمعلومات أخرى قيمة عنه فنعرف مثلا أن القصر يقع خارج مدينة سامراء ولكن على مسافة قريبة كما يشي بذلك قوله "داني المحل" وتأكيده الأمر بقوله "فلا المزار بشاسع"، ونعرف أيضا من الأبيات أن القصر كان متواضعا في حجمه واتساعه بالقياس إلى كثير من القصور الأخرى، نستدل على ذلك من محاولة البحتري نفي الضيق عن فنائه حين يقول "فلا الفناء بضيق" ويؤكد ذلك قوله مخاطبا الخليفة بعد ذلك "قدرته تقدير غير مفرط" ثم يتطرق البحتري في حديثه عن القصر على فرع المياه الذي أوصله الخليفة إليه فلا يفوته أن يمتدح صفاء المياه ولمعانها في حالة هدوء الجو ويمتدح تلألؤ سطحه الذي تكسوه الأمواج المتدرجة بفعل النسيم.
ويقترح البحتري على الخليفة في البيتين الأخيرين أن يمد فرع المياه إلى قصرين آخرين هما البديع والجوسق لكي تصب المياه مرة أخرى في منبعها بقناة سامراء أو نهر دجلة، ولكن ذكر قصر "البديع" في هذه القصيدة أمر مربك ومثير للحيرة لان الطبري في تاريخه يذكر - كما سبق ان أشرنا - إلى أن المتوكل قد هدمه سن 245 هـ وحمل ساجه وساج قصر آخر اسمه "المختار" إلى حيث بين قصر "الجعفري" فهل تكون رواية الطبري غير صحيحة أم أن البديع المذكور في أبيات البحتري قصر آخر بنفس الاسم ؟.
ويذكر البحتري في أبياته قصرا آخر هو قصر "الجوسق" ولكنه ليس للمعتز بل هو أحد قصور المتوكل وقد ذكره ياقوت في معجمه فقال إن المتوكل "أنفق على بناء الجوسق في ميدان الصخر خمسمائة ألف درهم"(52)، وقد يكون هو نفسه "الجوسق الجعفري" الذي ينسب بناؤه إلى المتوكل فالمسعودي في مروجه يقول في سياق حديثه عن المتوكل إنه "أنفق على الهاروني والجوسق الجعفري أكثر من مائة ألف درهم (53).
ومن قصور الخليفة المعتز التي وصفها البحتري قصر "الكامل" وهو كشأن "البديع" لم يرد ذكره في معجم البلدان ولكن ابن أبي العون ذكر الكامل في كتابه "التشبيهات"(54)، وروى الصولي في اخبار ابن المعتز هذا الخبر، قال: "حدثني أبو الغوث (ابن البحتري) قال: حدثني أبي قال: لما بنى المعتز "الكامل" دخلت عليه فأنشدته "لو كان ......" أي القصيدة حتى أتيت على آخرها فقال لي: يا وليد، ما أنشدتني إلا أطربتني؛ ولا رأيتك إلا سررت للملك ببقائك، فقبلت الارض وقلت: عبدكم الذي أغنيتموه"(55)، يقول البحتري في وصف "الكامل"(56):
لما كملــــت رويــــــة وعزيــــــمة .. أعملت رأيــــك في ابتنــــاء الكامل
وغدوت مــن بيـن الملــــوك موفقا .. منـــــــه لأيــــمن خلــــــة ومنازل
ذعر الحمــــــام وقـــــد ترنم فوقه .. مــن منظــــر خطــــر المـــزلة هائل
رفعت لمنخرق الريــــــاح سموكه .. وزهــــت عجائب حسنــــه المتخايل
وكأن حيـــطان الزجــــاج بجــــوه .. لجج يمجن عــلى جــــــوانب ساحل
وكأن تفويــــف الرخــام إذا التقى .. تأليــــــــفه بالمنظـــــــــــر المتقابل
حبك الغمـــام رصفـــن بيــن منمر .. ومسيـــــــر ومقـــــــــارب ومشاكل
لبست من الذهب الصقيــل سقوفه .. نـورا يضيء عــــلى الظــلام الحافل
وترى العيون يجلن في ذي رونق .. متلهب العـــــــالي أنيـــــــق السافل
فكأنما نشـــــرت على بستانـــــــه .. سيـــــراء وشي اليـــمنة المتواصل
أغنته دجلة إذ تلاحق فيـــــــضها .. عن فيض منسجم السحـــاب الهاطل
وتنفست فيــــــــه الصبــــا فتقطعت .. أشجاره مـــــن حــــــيّل وحوامل
يربط البحتري في بداية الأبيات بين شروع المعتز في بناء قصر الكامل و اكتمال رويته وعزيمته كناية عن استتباب أمر الخلافة له واصفا إياه بأنه غدا موفقا بين ملوك عصره ببناء هذا القصر الجميل .
ثم يأخذ البحتري في وصف القصر بطريقته الخاصة؛ طريقة الفنان الذي لا ينقل ما يراه نقلا حرفيا وإنما يتصرف في المنظر إضافة وحذفا وتلوينا وزخرفة ليقدم لنا في النهاية لوحة زاهية الألوان واضحة الخطوط مثيرة للإعجاب، فهاهو مثلا يصور لنا ارتفاع مبنى القصر وعلوه تصويرا فنيا بعيدا عن المباشرة فالحمام يترنم فوق أسطح القصر قد ذعر حين فطن إلى المسافة البعيدة بينه وبين الأرض، والقصر في ارتفاعه الشاهق يبدو لمن يراه كأنه شخص يتخايل عجبا بحسنه وجماله.
ويستطرد البحتري في وصف القصر فينقل إلينا في تضاعيف وصفه معلومات متنوعة عنه، فنجن نعرف من الأبيات مثلا أن من المواد التي استخدمت بشكل ملحوظ في بنائه الزجاج والرخام فمن حوائط القصر ما استخدم الزجاج في تشييدها وتزيينها وتلك الحوائط تبدو لمن يراها كأنها لجج البحر حين تموج على الساحل كما تبدو حوائط القصر الأخرى التي استخدم الرخام الملون في تشييدها وتزيينها متآلفة مع الحوائط المقابلة فكأنها قطع الغمام المرصوفة المحبوكة إلى جوار بعضها البعض، هذا بالرغم من تباين ألوان قطع الرخام ما بين منمر أي يشبه جلد النمر ومسير أي مخطط ومابين مقارب في اللون ومشاكل في هيئته.
وقد زخرفت سقوف قاعات القصر وحجراته وردهاته بلون ذهبي لامع براق فكأنها طليت بالذهب، وحين كان بريق السقوف المذهبة ينعكس على ما يقع أسفل منها فكأنه شعاع الشمس يضيء حلكة الظلام الدامس .
ولروعة عمارة القصر وجمال زخرفته فإن العيون تجول إعجابا وانبهارا ما بين سقوفه اللامعة البراقة وحوائطه وأرضياته الأنيقة، وتحيط بالقصر حديقة غناء يشببهها البحتري في حسن تنسيق أشجارها ونباتاتها المتنوعة بنوع من البرود اليمنية الجميلة التي كانت تصنع من الحرير وتوشى أطرافها وحواشيها بالذهب، والحديقة كما نفهم من الأبيات تستمد حاجتها من المياه من نهر دجلة ولذلك فنباتاتها مورقة خضراء وأشجارها بعضها مثمر وبعضها واعد بالإثمار.
أما الخليفة المعتمد (256 - 284 هـ) فقد وصف البحتري قصرين من قصوره هما المعشوق والمشوق وقد وصفهما معا، بْني المعشوق في الجانب الشرقي من سامراء غربي نهر دجلة، وقد ذكر ياقوت في معجمه أن "المعشوق اسم لقصر عظيم بالجانب الغربي من جلة سامراء في وسط البرية وباق إلى الآن (زمن ياقوت) ليس حوله شيء من العمران، يسكنه قوم من الفلاحين إلا أنه عظيم مكين محكم لم يبق في تلك البقاع على كثرة ما كان هناك من القصور غيره، وبينه وبين تكريت مرحلة، عمره المعتمد"(57).
أما المشوق فهو قصر لاحق في بنائه على المعشوق ويبدو أنه حين كتب البحتري قصيدته لم يكن بناؤه قد اكتمل بعد إلا أن شارح الديوان يرجح أن المشوق هذا هو نفسه القصر المعروف بالهاروني وهو قصر من قصور الواثق بالله(58)، ويستند في ترجيحه هذا إلى أن ياقوت في معجمه قال عن الهاروني على بعد ميل من مدينة سامراء وبإزائه بالجانب الغربي قصر المعشوق، ونحن لسنا مع الأستاذ حسن كامل الصيرفي (محقق الديوان) فيما ذهب إليه لأن الهاروني قصر قديم يعود إلى عصر الواثق بالله بينما المشوق قصر كما ذكر البحتري في أبياته لاحق في بنائه على قصر المعشوق، يقول البحتري في وصف القصرين، يقول البحتري (59):
لا زال معشوقك يسقى الحيــــا .. من كل داني المزن واهي الخروق
فما خلـــــــونا مذ رأيــــناه من .. فتح جديــــــد وزمــــــــــان أنيق
أشــــــرف نظارا إلى ملتقى .. دجلــــة يلقاهــــا بوجــــــه طليق
وطالــــع الشمس عــلى موعد .. بمثل ضوء الشمس عند الشروق
لم أر كالمعشــــــوق قصرا بدا .. لأعيـــن الرائيــــن غيـر المشوق
هذاك قد برز في حسنه مسبقا وهــــــذا مســـــــــــرع في اللحوق
هما صبــــــوح باكر غيــــــمه .. ثــــــني في أعقابــــــــه بالغبوق
لأن قصر المعشوق كان فاتحة خير على الخليفة المعتمد والدولة فقد دعا له البحتري بالا ينقط المطر عن سقياه فمذ بني القصر والفتوح تتوالى والزمان باسم أنيق، وتكشف الأبيات عن أن القصر لم يكن حديث البناء عندما وصفه البحتري فهو قصر قد بني فيما يبدو في فترة باكرة من خلافة المعتمد، يدلنا على ذلك قول البحتري (فما خلونا مذ رأيناه ...) ونعرف من خلال الأبيات أيضا بضعة أمور عن قصر المعشوق مثل أنه كان مبنيا على أرض مرتفعة تشي بذلك كلمة "أشرف" وأنه كان لشدة بياضه يعكس أشعة الشمس عندما تشرق عليه، وقد انتهز البحتري فرصة إعجابه الشديد بجمال المعشوق فذكر قصرا آخر اسمه المشوق كان في طور البناء حين أنشأ البحتري قصيدته، وهذا ما نفهمه من قوله "وهذا مسرع في اللحوق"، ويشبه البحتري القصرين في لذة النظر إليهما بالصبوح والغبوق فإذا كان النظر إلى المعشوق بمثابة شرب الغداة فالنظر إلى المشوق هو بمثابة شرب العشي.



هوامش وتعليقات:
1 - العصر العباسي الثاني للدكتور شوقي ضيف صـ 53، 54
2 - المصدر السابق صـ 55، صـ 67
3 - تاريخ الإسلام للدكتور حسن إبراهيم حسن ج 3 ص 405، ص 428
4 - تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي زيدان ج 3 ص 625
5 - مروج الذهب للمسعودي ج 4 ص4، تاريخ التمدن الإسلامي - مرجع سابق - ج3 ص625
6 - تاريخ التمدن الإسلامي - مرجع سابق - ج3 ص625، العصر العباسي الثاني ص56
7 - فنون الإسلام للدكتور زكي محمد حسن ص3، ص57، تاريخ الإسلام - مرجع سابق - ج3 ص428، 429، ص434
8 - تاريخ الإسلام - مرجع سابق - ج3 ص405، فنون الإسلام - مرجع سابق - ج3 ص54، العصر العباسي الثاني - مرجع سابق - ص71، 72
9 - تاريخ الإسلام – مرجع سابق - ج 2 ص 424، فنون الإسلام مرجع سابق - ص 70، 71.
10 - مروج الذهب - مرجع سابق - ج 4 ص504، العصر العباسي الثاني – مرجع سابق - ص55
11- الديارات للشابشتي ص159، ويصل ياقوت الحموي بالمبلغ إلى (مائتين وأربعة وتسعين مليوناً من الدراهم)، معجم البلدان لياقوت الحموي ج 2 ص175
12 - تاريخ اليعقوبي ج 2 ص600.
13 - معجم البلدان - مرجع سابق - ج3 ص175
14 - البداية والنهاية لابن كثير ج 10 ص 346، تاريخ الأمم للطبري ج 9 ص212 ، الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 5 ص298
15 - معجم البلدان - مرجع سابق - ج 3 ص 175
16 - العصر العباسي الثاني - مرجع سابق - ص 281
17 - المرجع السابق ص276
18 - أبو عبادة البحتري للدكتور محمد صبري السربوني ص28، البحتري بين نقاد عصره للدكتور صالح حسن ص109:78، العصر العباسي الثاني – مرجع سابق - ص295 ، الرمزية عند البحتري للدكتور موهوب مصطفاي ص280.
19 - المصادر السابقة
20 - تاريخ الأمم – مرجع سابق - ج5 ص 258، الكامل في التاريخ - مرجع سابق - ج5 ص 127.
21 - كتاب البلدان لابن الفقيه ص 373 تحقيق يوسف الهادي ط1 1996.
22 - ذكر ياقوت ما معناه أن القاطول الكسرويّ نهر حفره كسرى أنو شروان العادل ونسب إليه وهو يأخذ من جانب دجلة الشرقي ويقع جنوبيه نهر آخر يعرف بالقاطول أيضاً حفره الرشيد وردم حين شرع المعتصم في بناء مدينة سامراء) راجع معجم البلدان ج 4 ص 337
23 - ديوان البحتري تحقيق وشرح حسن كامل الصيرفي ط دار المعارف 1963 ج 2 ص1 ص1040، 1041.
24 - قال ياقوت: (صنبر) اسم جبل (بالحجاز) في قول البحتري يصف قصر الجعفري الذي بناه المتوكل، معجم البلدان - مرجع سابق - ج 3 ص 482
25 - يبدو أن هذه الربوة هي تلك التي تقع في وسط ساحة التل قرب القاطول وموقعها هو نفس الموقع المعروف الآن بالمشرحات على مسافة زهاء ستة كيلومترات شرق مدينة سامراء الحالية) راجع كتاب (ري سامراء) للدكتور أحمد سوسة انظر ص22 ، ص299، وكذلك ديوان البحتري ج 4 هامش ص2413
26 - ديوان البحتري - مرجع سابق - ج 2 ص2 ص1046، 1047
27- العصر العباسي الثاني - مرجع سابق - ص277، ومما هو جدير بالذكر أن الطبري لم يورد في روايته لحادثة مقتل المتوكل أدنى إشارة إلى أن البحتري كان من شهودها، انظر تاريخ الأمم - مرجع سابق - ص 364 : 370.
28 – ديوان البحتري مرجع سابق - ج 2 ص 1048.
29 - تاريخ الأمم - مرجع سابق - ص368.، والكامل في التاريخ - مرجع سابق - ج 6 ص 133.
30 - نستند في ترجيح هذا الاعتبار إلى رأي كُل من د. محمد صبري السربوني في كتابه (أبو عبادة البحتري) والأستاذ حسن كامل الصيرفي محقق الديوان وشارحه وما أورده أيضاً د. أحمد سوسة في كتابه (ري سامراء) عن حديقة الحيوان التي أنشأها المتوكل خارج مدينة سامراء ويزيد من ترجيح هذا الاعتبار أيضاً أن البحتري أشار إلى حيوانات هذه الحديقة في قصيدتين أخريين من ديوانه، الأولى في ج1 ص200:199 والثانية في ج 4 ص 2412.
31 - معجم البلدان - مرجع سابق - ج 3 ص 197.
32 - ديوان البحتري - مرجع سابق - ج 3 ص 2005 ، 2006.
33 - معجم البلدان - مرجع سابق - ج3 ص197.
34 - المرجع السابق ج3 ص 197.
35 - معجم البلدان - مرجع سابق - ج4 ص 218.
36 - ديوان البحتري - مرجع سابق - ج 3 ص 1152، 1153.
37 - الديارات للشابشتي تحقيق كوركيس عواد ص 160.
38 - تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 600.
39 - معجم البلدان - مرجع سابق - ص 197.
40 - نهاية الأرب للنويري ج1 ص 391، 392.
41 - معجم البلدان - مرجع سابق - ج 3 ص197.
42 - تاريخ الأمم - مرجع سابق - ج 5 ص 358.
43 - معجم البلدان - مرجع سابق - ج 4 ص 218.
44 - ديوان البحتري – مرجع سابق - ج 2 هامش ص 1267.
45 - المرجع السابق ج 2 ص 1267.
46 - الأنوار ومحاسن الأنظار للشمشاطي تحقيق صالح مهدي العزاوي ص 235.
47 - تاريخ الأمم - مرجع سابق - ج 5 ص 358.
48 - ديوان البحتري - مرجع سابق - ج 3 ص 2011، 2012.
49 - المرجع السابق ج3 ص 1311، 1312.
50 - معجم البلدان - مرجع سابق - ج 3 ص 197.
51 - ري سامراء في عهد الخلافة العباسية للدكتور أحمد سوسة ج 1 ص 122.
52 - ديوان البحتري - مرجع سابق - ج 3 ص 1483 ، 1484.
53 - معجم البلدان - مرجع سابق - ج3 ص 197.
54 - التشبيهات لابن أبي العون عناية محمد عبد المعتمد خان ص 253 ‘ 254.
55 - انظر هامش ص 1646 ج3 من ديوان البحتري.
56 - ديوان البحتري - مرجع سابق - ج 3 ص 1648، 1649.
57 - معجم البلدان - مرجع سابق - ج 5 ص 182 ، .183.
58 - انظر هامش ص 1464 ج 3 من ديوان البحتري.
59 - ديوان البحتري - مرجع سابق - ج 3 ص 1467 ، 1468.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى