أدب السجون محمود الورداني - كشف تاريخي نادر (1 – 2) مذكرات السجين 516

على الرغم من مرور أكثر من مائة عام على ثورة 1919 إلا أن بعض أوراقها مازال مطمورا، ومازالت الحفائر تكشف عن خفاياها. ومذكرات السجين 516 التي صدرت أخيرا في سلسلة ذاكرة الكتابة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، للسجين السابق عبد الحميد عمار، وتحقيق ودراسة وليد عبد الماجد كساب ، تم الكشف عنها بمحض الصدفة ولولا احتفاظ أحد أبناء الأسرة بنسخة قديمة مهملة منها لغابت إلى الأبد.
أما الرحلة التي قطعتها هذه المذكرات منذ كتبها السجين 516 عبد الحميد عمار( 1901- 1963 )إبن مركز كوم حمادة- مديرية البحيرة إبان اشتراكه في ثورة 1919 ، وهو مايزال طالبا في مدرسة المساعي المشكورة الثانوية بشبين الكوم، وحتى نشرها أخيرا أكثر من طويلة.ا
ليس معروفا لماذا تعذر نشر المذكرت، على الرغم من أنها كتبت أثناء وبعد خروج صاحبها من سجن امتد اربع سنوات ونصف السنة، ويبدو أنه لم يضف إليها إلا الإهداء" إلى زين المجاهدين وسيد الأحرار جمال عبد الناصر"، والصفحة الأخيرة التي يحمد الله فيها على أنه عاش حتى عهد جمال عبد الناصر" الذي حقق للوطن كل ماوسعه الخيال، وكل ماقصّر دونه الزعماء والمتزعمون".
وحسبما يشير محقق المذكرات فإنها وصلت إليه من أحد أقارب عمار وهو المستشار محمد عمار الذي عثر عليها عند أحد مثقفي القرية، وهو الأستاذ سامي العيسوي الذي أوضح أنه كان" يراجعها للأستاذ ابراهيم يونس الصحفي بأخبار اليوم وجريدة الوفد- وهو من قرية مجاورة لقريتنا- استعدادا لنشرها في جريدة الوفد عام 1990، لكن لم يتم النشر، ومن ثم ظلت المذكرات في علم الغيب" .. وهكذا انتظرت المذكرات ثلاثين عاما أخرى حتى أتيح لها النشر.
من جانب آخر، نقل المستشار عمار عن الأستاذ العيسوي( 1937 – 2012 ) الذي كان يحتفظ با لمذكرات وتربطه علاقة متينة بصاحبها، أن الرجل فرح بعد قيام الثورة عام 1952، وشعر أن أمانيه قد تحققت أخيرا، ورغب بشدة في أن يلتقي بأحد الضباط الأحرار ليطلع على فكرهم، ونظّم له إبن عمه الفريق عبد الواحد عمار مدير الكلية الحربية بعد الثورة، لقاءَ مع عبد الحكيم عامر، إلا أن اللقاء أسفر عن مشادة عاصفة بين عامر وصاحب المذكرات، وشعر الرجل أن المستقبل مظلم ، وازدادت عزلته ونأيه بنفسه.
غير أن هذه الرواية تتناقض مع الإهداء الذي كتبه صاحب المذكرات لجمال عبد الناصر، وخاتمة الكتاب وأضافهما بعد سنوات من إنهائها، وأغلب الظن أنه كلام مرسل لايستند إلى أي مصدر.
على أي حال، فالقارئ أمام وثيقة نادرة حقا، لطالب صغير السن، بسيط، دفعته مشاعره الوطنية الملتهبة لخوض تجربة مخيفة، تجربة العيش في الجحيم. جحيم تبدو سجون هذه الأيام مقارنة به نزهات غي حدائق غناء.
وتعود أهمية هذه المذكرات الاستثنائية لأكثر من سبب، فهي لاتكشف فقط عن الدور الذي لعبه البسطاء من الفلاحين والأعيان والطلاب على السواء، فالثورة والخلاص من الاحتلال ودحر الاستعمار، لم تكن مجرد شعارات بل واقع يتشكل ويتحقق بانضمام مئات الألوف كل يوم على الرغم من القمع اليومي وإلقاء القبض على الكثيرين، ومن بينهم سعد زغلول نفسه ورفاقه.
فعلى سبيل المثال، توجهت إلى قرية عمار للقبض عليه قوة من ألف رجل مدججين بالسلاح، وقامت بحصار القرية، مما دعا عمار لتسليم نفسه لينقذ قريته من الحصار، ليبدأ جحيم حقيقي امتد لأربع سنوات ونصف السنة من السجن مع المجرمين والقتلة..
الأسبوع القادم، إذا امتد الأجل، نقلّب معا صفحات المذكرات..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى