أ. د. عادل الأسطة - محمود درويـش في الوعـــي الشعبي

قبل شهرين تقريباً تلقيت رسالة من د. فيصل درّاج، عَبر تغريد عصافيري/ متحف محمود درويش، يطلب فيها مني أن أكتب دراسة عن محمود درويش في الوعي الشعبي، لكتاب يعده عنوانه "دفاتر محمود درويش"، ولم يغلق د. دراج الباب أمامي إذا لم يرق لي الموضوع، فبإمكاني أن أقترح موضوعاً ما.
سأتذكر دارسة عربية من اللد ما زلت أحفظ اسمها الأول، هي منى. ولم أعد أذكر اسمها الثاني، فقد قالته لي ـ أعني اسم عائلتها ـ مرة واحدة هي حين اتصلت بي أول مرة وعرفتني بنفسها وبما تقدم عليه. وكانت منى في العام 2007 والعام 2008 تكثر من الاتصال بي، لأنها كانت تعد رسالة دكتوراه في جامعة إسرائيلية، أظنها جامعة بار ايلان، عن تأثير محمود درويش في الوعي الشعبي الفلسطيني أو ـ إن لم تخني الذاكرة ـ في الشعب الفلسطيني، وحسب ما أذكر، فقد طلب منها مشرفها الإسرائيلي أن تستعين بي، فيما يشكل عليها، وهي تقرأ بعض نصوص درويش. وبعد تلقي رسالة د. دراج سيلتبس الأمر عليّ، فهل قرأ شيئاً عن رسالة الطالبة؟ وهل نشرتها بالعربية عن دار نشر عربية؟ لقد أعلمتني في 2008، أنها ستنشر دراستها في العالم العربي، ومنذ ذلك الاتصال الذي كان في 10/8/2008، اليوم التالي لوفاة الشاعر، لم أعد أسمع صوتها، ولم أسأل عن أخبارها.
في إحدى رواياتي أوردت عبارة سمعتها من أحد معارفي نصها إن القضية الفلسطينية دوّلت ثلاثة أسماء ـ أي جعلتها دولية عالمية ـ ياسر عرفات ومحمود درويش وإدوارد سعيد. ولا أدري إن كان من قال العبارة مثقفاً أو إنساناً عادياً له بعض اهتمامات بالثقافة ـ ومؤخراً كنت أقرأ في رواية الفلسطيني عيسى لوباني "شمس وقمر" (1995) والصادرة في (2007)، فلفت نظري عبارة وردت عن الشاعر، صدرت عن إحدى شخصياتها المثقفة المهتمة بالشعر والشعراء، لأنها أستاذ جامعي يدرس في الغرب، قالها لشاعر فلسطيني زار المدينة الأوروبية، والتقى بالأستاذ اللبناني، وأتيا على ذكر الشعراء الفلسطينيين، والعبارة هي:
"إنه كنار لا يتقن سوى الغناء، أما الثورة.. والثوار.. فقد كرههم منذ زمن طويل" (ص 66).
هل آخذ بالعبارة على أنها تمثل رأي مثقف وناقد شعر؟ وأدرجها وأنا أكتب عن الشاعر في الوعي الشعبي؟ ثم ما مدى صحة العبارة التي قالها صاحبها وهو في حالة سكر، بل وهو يعيش حياة بوهيمية في ذلك البلد الأوروبي؟
وربما أمتحن العبارة ومدى صحتها. وسأشير إلى أنني شخصياً، في روايتي "الوطن عندما يخون" اعتمدت على نص من كتاب درويش "ذاكرة للنسيان" (1986) يأتي فيه على الثورة وبعض قياداتها، يعزز قول الشخصية الروائية في جانب "أما الثورة .. والثوار.. فقد كرههم منذ زمن طويل." فقد نقد الشاعر الثورة وبعض رموزها نقداً عنيفاً، ولكنه كان وفياً للشهداء وللمناضلين الصادقين، وهذا ما كتبه: "لعل المحاكمة التي تستحقها الثورة هي أنها كانت خالية، وما زالت خالية، من تقاليد محاكمة أعضاء القيادة على جرائمهم المدوية، واقتصرت المحاكمة على تتبع جنايات أخلاقية يرتكبها شهداء المستقبل خلال بحثهم عن متعة عابرة في سيجارة حشيش أو امرأة تغوي، قبل أن يتحولوا إلى منصة للخطابة" (ص27).
بعد ان انحاز الشاعر إلى السلطة الوطنية، وكتب قصيدته "أنت، منذ الآن، غيرك" وهجا فيها "حماس"، قال لي أحد أتباعها: إن الشاعر يحتاج إلى فاتورة شهرية مرتفعة تسدد ما يشربه من عرق. فهل اعتمد هذا الشاب على ما ورد في فقرة درويش السابقة، وحين حان الوقت لمهاجمة الشاعر، لمواقفه السياسية، قال ما قال؟ ولم يكن مسلسل "في حضرة الغياب" الذي أنتج بعد وفاة الشاعر، عرض ليرى المشاهد مقطعاً من حياة الشاعر في بيروت، بصحبة اللبناني الروائي إلياس خوري، وهما يشربان المشروبات الروحية التي تغنى بها إلياس.
قبل وفاة الشاعر بأسبوع اتصلت بي منى شاتمة لاعنة غاضبة نادمة، وقالت لي: من هو محمود درويش هذا؟ من يظن نفسه؟ ولما سألتها عن السبب وعن سر ثورتها أجابتني قائلة: استمع .. استمع إلى آخر حوار بيني وبين محمود درويش، كانت منى تتصل بي في الوقت الذي تشاء. تتصل بي صباحاً أو ظهراً أو عصراً أو مغرباً أو ليلاً، ولم أكن أنا أهتم كثيراً. أحياناً تتصل بي على هاتف أهلي الأرضي، فتناديني أمي، وأحياناً على جوالي. ويبدو أنها كانت تفعل الشيء نفسه مع الشاعر الذي كان يعاني من خلل في الشرايين، وكان في السابعة والستين من عمره، وقد أخرجته اتصالاتها عن هدوئه فصرخ في وجهها غاضباً: "وبعدين معك، أنا قررت أن أغير رقم هاتفي لأجلك". وبعد أسبوع من إسماعي ما قاله لها، اتصلت بي منى، وكان نبأ وفاة درويش قد شاع وأقر، وعبرت عن أسفها، فيم قلت لها: كان يجب أن تلتمسي له عذراً، فلم يكن في حالة صحية جيدة تمكنه من استقبال المكالمات في أي وقت.
وأنا أفكر في الكتابة عن محمود درويش في الوعي الشعبي تساءلت: ماذا سمعت من الناس العاديين، رجالاً ونساء وأطفالاً، سواقين وباعة وربات بيوت، عن محمود درويش؟ وهل كان موضع حوار ونقاش مع من أخالطهم من هؤلاء؟ وهل كتب هؤلاء شيئاً عنه على الفيس بوك أو في الصحف؟ وهل يمكن إدراج كتابات القراء النقاد أو النقاد القراء في أثناء الكتابة تحت العنوان المقترح؟ عمّ سأكتب، حين أكتب، عن محمود درويش في الوعي الشعبي؟
سأتذكر أبي في سنواته الأخيرة. أغلب الظن أنه لم يسمع بالشاعر حتى أواسط 90 ق20. منذ أواسط 90 ق20، وحين بدأت الفضائية الفلسطينية تبث قصائد الشاعر بصوته وصورته، وبعدها قناة "الجزيرة"، بدأ أبي يصغي إليه ويسألني عنه، وإذا ما كنت في شقتي أخذ يصرخ علي ويقول لي: عادل، عادل: محمود درويش يقرأ الشعر. وسيصبح الشاعر في نظر أبي شخصاً مهماً موهوباً لافتاً ومثالاً يحتذى، فلطالما سألني أبي، بوعيه البسيط: ألا تستطيع أن تصبح مثله؟
سؤال منى: من هو محمود درويش هذا؟ من يظن نفسه؟ ذكرني بالعبارة التي شاعت: لقد جعلت القضية الفلسطينية من ثلاثة أسماء أسماء دولية. وذكرتني منى، من خلال سؤالها الغاضب، بعبارة وردت في قصيدة الشاعر "مديح الظل العالي"، حين يأتي فيها على استشهاد قريبه سمير درويش، وقد أتى على ذكره أيضاً في كتابه "ذاكرة للنسيان"، ومن شاهد المسلسل "في حضرة الغياب" يعرف أكثر وأكثر عن سمير.
في معارك بيروت 1982 استشهد سمير درويش، فأشيع أن الشهيد هو محمود درويش، وتنوقل الخبر: لقد استشهد محمود درويش. وسيأتي درويش على الحادثة، فيخاطب ابن عمه/ قريبه في القصيدة: أتعرف من أنا حتى تموت نيابة عني؟ والسؤال يعيدنا ثالثة إلى العبارة التي قرنت اسم الشاعر بالقائد السياسي وبالمفكر العالمي، ويبدو أن اهتمام الأدباء والنقاد وجماهير الشعر بالشاعر وأشعاره ولدت لديه أحساساً بالعظمة، وهذا ما لاحظه فيصل دراج الذي كتب دراسة جيدة عنوانها "ثلاثة مداخل لقراءة محمود درويش" ("الكرمل"، 90، ربيع 2009)، فتوقف أما الأنا المتضخمة/ المقدسة العالية. وهذه الأنا ظلت تبرز في أشعار الشاعر حتى أوسلو تقريباً، وربما قبلها بقليل، وتحديداً حين ضعفت الثورة وانهار الاتحاد السوفييتي واستكان العرب للذل. ولما دخل الشاعر في الخمسينات من عمره، وبدأ الجسد يضعف، أخذ يخاطب جماهيره: "من أنا لأقول لكم ما أقول لكم/ أنا مثلكم أو أقل قليلاً". حقا إنه ما زال يعرف مكانته في ضمير قرائه وفي أعينهم، ولكنه أمام المرض والموت والزمن أدرك أن الموت سيهزم الأقوياء، وأن الزمن سيعود إلى ليلته، فيما سنسقط جميعاً في حفرة هذا الظل.
لقد فكرت طويلاً في الموضوع الذي اقترحه عليّ د. دراج. ما الطريقة التي يمكن اعتمادها للخوض في موضوع "محمود درويش في الوعي الشعبي"؟ هل هناك حكايات شعبية نسجت عنه؟ وهل دوّنت؟ هل أقابل الناس وأسألهم؟ هل أتبع منهج (سانت ييف) في رسم صورة للشاعر؟ عليّ إذن أن أزور الأماكن التي عاش فيها، وأن التقي الناس الذين التقى بهم، بل وأن ألتقي غيرهم؟ أن أزور حيفا والجديدة وبيروت وتونس وباريس، وأن أسأل الناس العاديين في رام الله السؤال التالي: هل سمعت بالشاعر محمود درويش؟ وما هو تصورك له؟ كان (سانت ييف) صانع صور. كان يكتب عن الأدباء والسياسيين والنساء ومشاهير العصر، وكان يجمع المعلومات عن الأشخاص الذين يريد أن يكتب عنهم من معارفهم وأصدقائهم وأساتذتهم وتلاميذهم ومن أعدائهم أيضاً، ويضع هذه المعلومات فيما يسميه "وعاء الكاتب"، ثم يرسم صورة للشخص، فإن أحبه أبرز صورة إيجابية له، وإن كرهه سوّى به الأرض، كما نقول.
وأنا، أنا لا أعرف الناس العاديين الذين عرفهم الشاعر، وكثير من هؤلاء رحلوا، و"القدماء تماثيل مهشّمة"، ولا يمكن تطبيق منهج (سانت ييف) عليهم. ومحمود درويش مات ومات أبوه من قبل، وماتت أمه، ومات كثير من أقربائه وأصدقائه. ولا أعرف من بعض معارفه إلاّ السيدة (ر).
كانت السيدة (ر) تقيم في حيفا يوم كان الشاعر يقيم فيها، وكان يومها فقيراً جداً، حتى إنه كان أحياناً يستدين ثمن وجبة طعام، وهذا ما أورده هو وسميح القاسم في رسائلهما المتبادلة التي أتيا فيها على مرحلة الشباب، وهما في الحزب الشيوعي معاً. ظلت السيدة (ر)، وأنا آتي على ذكر الشاعر تكرر على مسامعي أنه مدين لوالدها، فقد ابتاع درويش من والدها الحيفاوي (بيجامة) ـ منامة ـ وغادر حيفا ولم يسدد ثمنها. ولقصة السيدة (ر) دلالة، فمحمود شاب مناضل فقير لا يملك من متاع الدنيا إلاّ القليل القليل. ومن المؤكد أن هذه الصورة له ستظل تعيش في ذهن السيدة (ر)، ولكنها لن تكون ذات حضور في ذهن الشاب "الحمساوي" الذي قرأ قصيدة "أنت، منذ الآن، غيرك" (2007)، الشاب الذي قال: معلوم ما قاله الشاعر، فهو بحاجة إلى من يسدد له فاتورة المشروبات الروحية، وأظن أنه ذكر رقماً فلكياً.
هل كان الشاعر يعرف ما هي الصورة التي شكلتها مخيلة الآخرين له؟ هنا أتوقف أمام قصيدته "رأيت الوداع الأخير" من ديوان "ورد اقل" (1986).
يوم كتبت نصي "ليل الضفة الطويل" (1993)، اخترت قصيدة درويش لأزيّن بها المقدمة، ولا أدري كيف سقطت من تصويرات النص اللاحقة، علماً بأنني ما زلت أمتلك المخطوط الأول للنص. لقد نسج لي الآخرون في خيالهم صوراً عديدة على قدر كبير من المتناقضات، حتى أنني ظننت أن الشاعر كان يعبر عني وهو يكتب قصيدته، علماً أنه كتبها قبل كتابتي نصي بسبع سنوات. فهل ما يُروى عني، بسبب مشاكل عديدة، هو ما كان يروى عن الشاعر، يوم كتب قصيدته؟
يكتب درويش:
سيذكر أكثر من قارئ أنني كنت أسهر في بيته كل ليلة ستأتي فتاة وتزعم أني تزوجتها منذ عشرين عاماً.. وأكثر ستروى أساطير عني، وعن صدف كنت أجمعه من بحار بعيدة.
...........
ولكني لا أرى القبر بعد، ألا قبر لي بعد هذا التعب؟".
كان هذا في العام 1986 حين كان الشاعر في السادسة والأربعين من عمره، وقد قضى أحد عشر عاماً في بيروت، تنقل خلالها بين مدن وعواصم كثيرة، وغدا من أبرز الشعراء العرب، إن لم يكن أبرزهم، وفوق هذا فقد كان وسيماً مهندماً. "سيذكر أكثر من قارئ أنني كنت أسهر في بيته كل ليلة" وماذا سيذكر القارئ من حكايات وطرائف ونوادر؟ وستزعم فتاة أنه تزوجها منذ عشرين عاماً. ماذا ستقول عنه؟ كان كريماً وكان شجاعاً وكان حنوناً وكان.. وكان.. أم أنها ستقول العكس؟ وهكذا ستروى أساطير عنه، والشعراء الذين رويت عنهم الأساطير معروفون.
في دراسته للشاعر عمر بن أبي ربيعة توقف د. طه حسين أمام آراء الدارسين في عمر. هل فعل الشاعر كل ما قاله في شعره؟ هل كان عمر يقول ولا يفعل؟ تبنى دارسون الرأي الأول، فيم تبنى آخرون الرأي الثاني، ووقف الدكتور طه حسين موقفاً وسطاً، وحجته أن عمر كان وسيماً وابن الطبقة الأرستقراطية التي تقيم في المدينة التي عمل الأمويون على إبعادها عن السياسة، ولا يعقل ألا يكون أقام علاقة مع النساء.
بعض معارفي من المتعلمين ـ لا أقول المثقفين، لأن هذه صفة نادرة لا تنطبق على كثيرين من حملة الدكتوراه ـ كان يقول إن الشاعر وزميله الشاعر أيضاً زيرا نساء. علام أعتمد؟ لست أدري، فدرويش ـ كما ذكر بعض أقرب مقربيه، ومنهم حسن خضر ـ كان جد حذر في علاقاته وفي الحديث عنها. هذه أمور شخصية لا يجب أن يطلع أحد عليها، وكل ما كتبه درويش هو علاقته بريتا اليهودية، وقد أعطى القصائد بعداً وطنياً سياسياً إنسانياً، وكتب في الغزل، لكنه لم يذكر واحدة باسمها، كما فعل الشعراء العرب القدامى. لم يذكر فاطمة أو نعم، ولم يكتب عن تغزل الفتيات والنساء به، مثل عمر: قالت الكبرى : أتعرفن الفتى. ولا أدري ماذا كان سيفعل لو امتد به العمر وكتب سيرته. هل سيكتب كما كتب سميح القاسم في "ملعقة سم صغيرة ثلاث مرات يومياً" (2011)؟ كتب القاسم عن بطله مأمون في فترة الستينات من ق20 ، ما لم يكتبه من قبل، وأتى على مغامرات مأمون العاطفية، كما لم يكتب سميح، من قبل، عن سميح.
وحين درس العقاد أبا نواس، في كتابه "الحسن بن هاني" ليدرس الشاعر وأشعاره، اتبع منهج (ادموند ولسن) الذي تتمثل خلاصته في سرد الوقائع الضرورية المستمدة من حياة الأديب، ثم الاستنساخ منها حول نفسيته، ثم تطبيق هذا على أشعاره. ولما كان أبو نواس شخصية إشكالية، فقد رويت عنه الحكايات والأساطير، وألفت فيه وفي حياته الكتب التي كان بعضها علمياً وبعضها بعيداً عن العلم، وهكذا كان على العقاد أن يميز بين نوعين من الكتب عن أبي نواس، وأن يستبعد كتب العامة التي ألصقت بأبي نواس من الصفات ما لا يدخل رأس عاقل. أبو نواس غدا مثل جحا شخصية أسطورية، فهل الأساطير التي ستروى عن درويش، كما كتب، ستجعل منه شخصية أسطورية، فتحير الدارس والباحث إذا ما أراد أن يدرس الشاعر اعتماداً على المناهج غير النصية؟ ربما.
يذكر محمود درويش نفسه أن كثيرين من فلسطين المحتلة في العام 1948، كانوا يقولون له بعد أن التقوا به في العام 1996 وفي الأعوام اللاحقة، حين زار فلسطين بعد غياب ربع قرن، كانوا يقولون له: لقد كنت معك في الصف المدرسي نفسه، وعقب هو قائلاً: إن صفي المدرسي هو أكبر صف في العالم، فهل من صف مدرسي بلغ عدد طلابه الألفين. ومن المؤكد أن هؤلاء سيروون قصصاً اخترعوها ليؤكدوا ما يذهبون إليه، وبعض هذه القصص ستغدو مثل الأساطير.
على كثرة ما كتبت عن محمود درويش فإنني لم ألتق به إلاّ مرات قليلة. أردت أن أعرف هذا الشاعر الذي شغلني، فكان لي ـ وربما لغيري ـ مثل المتنبي لنقاده: شاغل الدنيا أو مالئ الدنيا وشاغل الناس. زرته في الفندق الذي حل فيه يوم قدم إلى رام الله، فرحب بي، على الرغم من زيارتي التي كان بلا موعد، ثم زرته في السكاكيني مرتين، وكان شخصاً لطيفاً ودوداً على الرغم من أن دراساتي لأشعاره، لتركيزها على الجانب السياسي في جانب منها، لم ترق له كثيراً. ولا أستطيع أن أكتب الكثير عن شخصيته من خلال اللقاء به، وما أكتبه عن أشعاره، وما أرسمه لصورته من أشعاره، هو اجتهاد شخصي يعتمد على فهمي لمناهج نقدية، وعلى فهمي لنصوصه.
وأنا أفكر في الكتابة عن تأثير محمود درويش وفي الوعي الشعبي التفت إلى بعض الدعايات التي تنشرها وتذيعها محطة "أجيال"، فقد اتخذت من عنوان قصيدة له، ظهرت في ديوان "كزهر اللوز أو أبعد" (2005) لازمة لها. هذا يعني أن القصيدة تركت أثرها في الوجدان الشعبي وراقت كثيراً لقارئها أو للمستمع إليها: "فكر بغيرك". يدعو الشاعر المخاطب/ المستمع إليه أن يتخلص من أنانيته، وأن يكون ذا شعور إزاء الآخرين، فيلتفت إليهم ويحسن إليهم. وربما تعيد هذه القصيدة قارئ أشعار الشاعر إلى مرحلة الستينات وإلى قصيدة "سجل أنا عربي" التي أتى درويش عليها في كتابه "ذاكرة للنسيان" وأعطى تصوره لفعل الشعر في الآخرين. استقبال القراء العرب في الناصرة وبقية فلسطين، يوم قرأ القصيدة، تبين لنا مدى تأثير الشاعر في الوعي الشعبي:
"سجل : أنا عربي، قلت ذلك لموظف قد يقود ابنه إحدى هذه الطائرات. قلتها باللغة العبرية لأستثيره، وحين قلتها باللغة العربية مسّ الجمهور العربي في الناصرة تيار كهربائي سرّي أفلت المكبوت من قمقمه.
لم أفهم سرّ هذا الاكتشاف، كأنني نزعت الصاعق عن ساحة ملغومة ببارود الهوية، حتى صارت هذه الصرخة هي هويتي الشعرية التي لا تكتفي بأن تشير إليّ بل تطاردني" (ص140).
وستغدو لدرويش، إثر كتابة هذه القصيدة، مكانة بارزة ومهمة بين أبناء شعبه، فهو شاعر القبيلة ـ إن جاز هذا ـ الناطق باسم شعبه في فترة كان أبناء شعبه فيها خائفين وصامتين وغير قادرين على المواجهة. هكذا غدا في الوعي الشعبي الشاب الشجاع الجريء الذي "يشرب كأسه" كما يُقال، وسيشار إليه: هذا هو الشاعر الذي كان يجرؤ في وجه الضابط الإسرائيلي. هذا هو الشاعر الذي لا يخجل من هُويّته القومية في الوقت الذي كان كثيرون من أبناء شعبه يضطرون إلى تغيير أسمائهم حتى يظفروا بفرصة عمل: يوسف يصبح يوسي وابراهيم يغدو ابراهام، فالاسم/ الهُويّة مجلبة للبطالة والمعاناة. هكذا كان العرب يعيشون في الدولة العبرية. "العرب في إسرائيل" و"أن تكون عربياً في إسرائيل" كتابان لكاتبين عربيين فلسطينيين أفصحا عن اضطهاد الأقلية العربية.
لكن القصيدة هذه، القصيدة التي أبرزت للشاعر صورة إيجابية في الوعي الشعبي سرعان ما انقلبت على الشاعر وأظهرت له صورة سلبية، فغدا درويش شاعراً يتهرب من ماضيه ولا يفخر بعروبته. غدا شاعر السلطان وشاعر النخبة وشاعراً برجوازياً و... و...
حين غادر الشاعر حيفا واستقر في العالم العربي أخذ جمهوره يطالبه بقراءة قصيدة "سجّل أنا عربي"، ولم يراع الجمهور اختلاف الظروف والأوضاع، فالشاعر الآن في العالم العربي، يقيم بين العرب، ولا ضرورة لأن يقرأ القصيدة على مسامع العرب في بلادهم:
"لم أدرك أنني كنت في حاجة لأن اقولها هنا في بيروت: سجّل، أنا عربي. هل يقول العربي للعرب إنه عربي؟ يا للزمن الميت، يا للزمن الحيّ!" (ص 140).
إذا ما أراد المرء حقاً أن يكتب عن صورة محمود درويش في الوعي الشعبي، فعليه ألا ينسى علاقة الشاعر بالتنظيمات الفلسطينية. وربما كانت قصيدة "مديح الظل العالي" من أبرز القصائد التي جعلت أفراد التنظيمات ينشطرون إلى شطرين في تكوين صورة للشاعر.
محمود درويش متنبي العصر. إنه شاعر البلاط. إنه شاعر ياسر عرفات. هكذا قال أبناء التنظيمات اليسارية عن الشاعر، بعد أن اقترب من القيادة الفلسطينية. الشاعر برجوازي ويعيش كما يعيش الأمراء. ولم يقتصر الأمر على أفراد التنظيمات العاديين، فلقد نطق به شعراء شعبيون ورسميون، مثل أحمد فؤاد نجم الشاعر الشعبي المصري، ومثل الشاعر الفلسطيني باسم النبريص ابن خان يونس. وعلى النقيض من أفراد التيارات اليسارية كان أبناء التنظيمات الوطنية الأخرى يرون فيه شاعراً وطنياً ملتزماً كلامه أشبه بكلام الأنبياء. وتعد مقالة النبريص في عودة الشاعر إلى غزة نموذجاً للصورة السلبية التي ظهرت للشاعر: الشاعر ترفع عن زيارة مخيمات اللاجئين في غزة، وسرعان ما غادرها إلى رام الله، ويذكر هذا بما اتهم به الشاعر وهو في لبنان ما بين 1972 و1982. درويش شاعر لا يعيش هموم أبناء شعبه، ولذا لا يقرأ قصائده في المخيمات. لكن هذه الصورة تكاد لا تذكر اليوم، فلم يبق من درويش إلاّ درويش شاعر الوطن.
ربما تعد رواية عياد يحيى "رام الله الشقراء" (2012) من الروايات القليلة التي تعطينا صورة للشاعر في الوعي الشعبي، صورة قد تكون تكونت للشاعر في المنفى صورة شبيهة بها، لكنها لم تصل إلينا، فلم يكن يصلنا مما يتعلق بالشاعر، وهو في المنفى، إلاّ قصائده ودواوينه التي كانت دور النشر تعيد طباعتها. وظلت مواقفه السياسية وقصائده الوطنية هي ما يعنينا في الأرض المحتلة، أما علاقاته العاطفية وطعامه المفضل والأماكن التي يتردد عليها، فلم نكن نوليها أدنى اهتمام، اللهم إلاّ إذا قرأ أحدنا، وهذا شيء نادر، رسائله التي تبادلها مع سميح القاسم في حالتي الخصام والوئام، وأقول: شيء نادر، لأن قليلين جداً منا يتذكرون الرسائل المتبادلة بين الشاعرين في بداية 70ق20.
يعقد عياد يحيى فصلاً من فصول روايته تحت عنوان "في استغلال الغياب"، داخلاً في علاقة تناص مع كتاب محمود درويش المعروف "في حضرة الغياب" (2006). والرواية التي أنجزت بعد أربع سنوات من رحيل الشاعر تأتي على بعض الأماكن؛ المقاهي والبارات والمطاعم، التي استغلت بعض مقاطع من أشعار درويش حتى تروّج نفسها ـ "تسألين عن "لوين"، هذا البار لطيف، ولكن أظن درويش يتقلب في قبره من فعائل صاحب البار" (ص40)، فما هي فعائل صاحب البار؟
"الستارة الكبيرة في واجهة البار كتبت عليها قصيدة "انتظرها" بخط رديء، لا أظن أن هناك قصيدة امتهنت كهذه، في كل مكان في رام الله أجد هذه القصيدة، وعلى فيس بوك يتحفنا أحدهم كل يوم بنشرها أو كتابة مقاطع منها.
هوس غريب تجاه هذه القصيدة "درس من كاما سوطرا".
حين قرأتها أول مرة ظننت أن تداولها بين العامة غير وارد لوفرة الإيحاءات الجنسية فيها، ولكن هذه رام الله، أو أنهم لا يعقلون ما بها، أو أنه أنا من يراها هكذا. ربما!" (ص40).
وحين يعلم السارد من صديق صيدلي له عن أكثر ما يباع في صيدليات رام الله يعقب: "هذا يبدو المبرر الوحيد المنطقي لانتشار "انتظرها". هكذا يغدو درويش كاتب قصائد (بورنو)، لا لأنه كتب قصائد (بورنو)، فهو لم يكتبها، وإنما لفهم الآخرين لها، أو لاستغلال بعض أصحاب المطاعم والمقاهي والبارات لها.
صديقة السارد ترد عليه وقد توقفت أمام سطر درويش "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" (ص42) وتعقب عليه: "أرى هذه العبارة بمثابة لوغو/ شعار لرام الله ومشاريع "السلطة كأن نظام الكون سيختلّ إن لم تحضر هذه العبارة في كل شيء هنا، بدءاً بخطابات الساسة وانتهاءً بالإعلانات التجارية لأي متجر تافه" (42) ويعقب هو على كلامها:
"على هذه الأرض ما يستحق الحياة" لم يخبرنا مستغلو درويش ماذا نفعل إن كان تحصيل "ما يستحق الحياة على هذه الأرض" غير ممكن إلاّ بالموت، وأتساءل أحياناً : لماذا قال "ما" ولم يقل "من". رحمه الله "نام عن شواردها" ، فأصبحت لوغوهات سياسية وتجارية.
في تعقيب السارد استحضار لبعض كلمات للمتنبي، فعبارة "نام عن شواردها" تعيدنا إلى قول المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر القوم جراها ويختصم
ما يعني أن درويش، في الوعي الشعبي، لا يقل عن المتنبي، في حياته وفي أشعاره، أيضاً. وإذا كانت هناك أكثر من رؤية للمتنبي، تختلف من شخص إلى آخر، وتعتمد على مواقف سياسية واجتماعية وأخلاقية، فإن هناك، أيضاً، أكثر من رؤية لدرويش: هل هو شاعر ثورة أم أنه شاعر مؤسسة؟
أعتقد أن ما سبق هو مقاربة للعنوان : "محمود درويش في الوعي الشعبي"، مقاربة تحتاج إلى مزيد من التأمل والتساؤل والتعمُّق!!
الجمعة 2/8/2013





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى