ثقافة شعبية محمد أحمد الفاضل - همباتة السودان.. هل كانوا لصوصًا وشعراء صعاليك؟

ربما تعبّر "الجريمة" عن خلل اجتماعي ناتج عن فروقات طبقية، فكلما زاد معدل الفقر والفروقات الطبقية في مجتمع زادت بالتالي الجريمة، حيث يحل القانون للحفاظ وضبط المجتمع، وفي حال عدم حل التناقضات الاجتماعية بشكل جذري يكون القانون أشبه بمعالجة أعراض مرض وترك أصل الداء، مما يقود إلى تصادم وتضاد بين "المجرمين" والقوانين الوضعية.

"الهمبتة" تعني بالعامية السودانية السلب والنهب باستخدام القوة أو الحيلة

لكن، بدون القفز على التاريخ، وبشروط ذلك الوقت، لسودان ما قبل الاستقلال 1956، وحتى قبل عشرات السنين، كانت هناك ظاهرة انتشرت بشكل كبير في عدّة مناطق في السودان، وبشكل أكبر في منطقة سهل البطانة، المنطقة الشاسعة التي تمتد لتتداخل مع خمس ولايات سودانية في شرقي السودان ووسطه، كما عرفت أيضًا في بادية كردفان، حيث نشط مجموعة من الرجال الذين اتصفوا بالشدة وحب المغامرة في القبائل العربية البدوية السودانية، فيما عُرف بـ"الهمبتة"، والتي تعني بالعامية السودانية السلب والنهب باستخدام القوة أو الحيلة.

أهل أم قُجَّه قاعدين في البيوت يتحكّوا
وإن شافونا من رقبتنا ما بتفكّوا
يات من كان فراسْتُو قديمه مقطوع شكّو
نحن مَسَلَّطين مِنَّ الله للما بزكّوا

هذا ما نظمه الشاعر "الهمباتي" السوداني، عبد المنان ود عبدالماجد، بلهجة أرض البطانة ويقول فيه ما معناه: إن أصحاب الإبل ذات السنام العالي "أهل أم قجة" جالسون في البيوت يتبادلون الأحاديث، ومتى ما رأيناهم لن يفلتوا منّا، فكل من كان "يات من كان" صاحب فراسة أصيلة ومعرفة بالناس "فراستو مقطوع شكّوا"، فإنه سيعرف أننا قوم قد سلطنا الله لنهب إبل الأغنياء الذين لا يخرجون الزكاة من أموالهم.

هكذا كانت رؤية من عرفوا بـ"الهمباتة" في السودان لأعمالهم التي رآها البعض مجرد سرقة، لكن في ذلك الوقت الذي لم تبسط فيه الدولة حكمها في مجمل ربوع السودان، تركت تلك المجتمعات وحيدة، لتضع أسسها للعدالة الاجتماعية وقوانينها الخاصة، فظهرت في القرن السادس عشر بين القبائل العربية البدوية في منطقة البطانة شرق السودان ظاهرة "الهمبتة" وهي القيام بنهب إبل الأغنياء، لكن لم يكن "الهمباتي" منهم يسرق مال الضعيف، أو يسرق شيئًا غير الإبل.

ومثّلت جغرافيا منطقة البطانة بيئة صالحة لممارسة "الهمبتة" بسهولها الشاسعة، حيث مثلت أفضل الأماكن لإخفاء الإبل المسروقة عن السلطات، مما يفسر انتشارها هناك حتى إلى قبل عشرات السنين، كما أن "الهمبتة" عرفت بمسمى آخر في مناطق غرب السودان وأقاليم كردفان في منطقة البطانة الغربية، التي اتسمت بجغرافيا شبيهة بمنطقة البطانة الشرقية.

لصوص وشعراء صعاليك؟

ربما يتبادر إلى ذهن القارئ أن "الهمبتة" بشكلها الموصوف أعلاه ليست إلا عملية سرقة عادية، مثلها مثل عمليات السرقة التي كان يقوم بها من عرفوا بصعاليك العرب، وحتى عدد كبير من الباحثين صوروا "الهمباتة" بوصفهم تجسيدًا لظاهرة الصعاليك العرب، لكن هناك باحثون ومهتمون بالمجتمعات السودانية، استطاعوا أن يشخصوا عددًا من الفروق النوعية بين من عرفوا بالصعاليك في التراث العربي ومن عرفوا بـ "الهمباتة" في السودان، وربما الجامع بين الشعراء الصعاليك و"الهمباتة" لن يكون سوى الشعر والعشق، فالفئتان عرفتا بنظم الشعر، وتخليد حكاياتهم ومغامراتهم شعرًا، أما الفروق فمنها:

عُرف الشعراء الصعاليك العرب بأنهم منبوذون من أهلهم، وهم دائمًا ما كانوا في خلاف مع عشيرتهم، ما يؤدي بهم في النهاية إلى هجرة الديار والعيش بعيدًا عن الأهل، كحال الشاعر الشنفرى أحد أشهر الصعاليك العرب، والذي استأنس الذئاب والضباع وبدلهم بالأهل، أما الشعراء "الهمباتة" فقد عاشوا أعزة ومبجلين وسط أهلهم وعشيرتهم. يقول الشنفرى في مطلع لاميته المعروفة بـ "لامية العرب":

أَقِيمُـوا بَنِـي أُمِّـي صُـدُورَ مَطِيِّـكُمْ = فَإنِّـي إلى قَـوْمٍ سِـوَاكُمْ لَأَمْيَـلُ

ويقول في مكان آخر من اللامية، موضحًا أنه تطارده جريرة الجنايات التي اقترفها:

طَرِيـدُ جِنَايَـاتٍ تَيَاسَـرْنَ لَحْمَـهُ = عَقِيرَتُــهُ لأِيِّـها حُـمَّ أَوَّلُ

انتهى الأمر بالشنفرى مطاردًا من أهله لأمه حتى ظفروا به وقتلوه، وعلى عكس ذلك يذهب الكاتب والباحث في الكيانات الثقافية السودانية ميرغني ديشاب في كتابه "البطاحين، تاريخهم وشعرهم وشعرائهم"، فيقول: "والشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي كانوا من مخاليع قبائلهم. فقبائلهم قد خلعتهم في معنى نَبَذتهم، ونقدّر هنا أنهم قاموا -بما قاموا به- تعويضًا لهذا النبذ، لكن "الهمباتة" في السودان كانوا من أعزة قبائلهم وبطونها".

اقتصر النهب لدى "همباتة" السودان على نهب الإبل فقط دون غيرها من البهائم، كما أنهم لا ينهبون سوى من الأغنياء، وتخيرهم للإبل ربما يدلل على نزعة البدوي الذي يطمح بفعل النهب والسلب أن يهين خصمه أشد إهانة، فالإبل لدى البدوي لديها دلالات ذات صلة بالرِفعة المجتمعية بل حتى بالكرامة الشخصية.

تقول إحدى القصص المروية عن أحد الشعراء "الهمباتة"، بامسيكا البطحاني، إنه حينما قدموه لأحد المشائخ قدموه قائلين هذا "بامسيكا الحرامي"، فأجاب فيما معناه: "إنني بامسيكا، لست لصًا، فأنا لا أنهب إبل الفقراء أو الأناس الذين عرفوا بمكانة اجتماعية مبجلة في المجتمع " مضيفًا بلهجة أرض البطانة: "إنني آكل من "أبين مقل"" في معنى ميسوري الحال. وتقول المحكية أن الشيخ رد على بامسيكا قائلًا: "أكل من أبين مقل.. قلتلك أكل".

وقد خلّدت سيرة بامسيكا البطحاني عبر مسرحية شعرية كتبها المسرحي عثمان حميدة وأدتها العديد من الفرق المسرحية.

ومن أهم الصفات التي يتحلى بها "الهمباتة" هي الكرم والإنفاق بسخاء على المحتاجين، بالإضافة إلى تميّز مجتمع "الهمباتة" بالاحترام المتبادل بينهم، وهو ما يخالف عادة الشعراء الصعاليك الذين لم يرتبطوا بحسن الخلق في مجمل الأحيان.

وتأكيدًا على مكانة "الهمباتي" في السودان، فقد سلم "الهمباتي" من منطقة شمال كردفان "ود أم قرفه" نفسه طوعًا للسلطات الأمنية قبل عامين من الآن، إلا أن سيرته الطيبة في مساعدة الفقراء وكرمه، حالت دون أن توقع عليه السلطات العقوبات اللازمة، بل صورت إدارات أهلية انضمامه وعودته للحياة العادية إسهامًا منه في المجتمع، لما يتميز به من مكانة واحترام وسط سكان المنطقة.

"الهمباتة" وعشيقاتهم

مثّلت قصص "الركوب" بمعنى شد الرحال، جزءًا كبيرًا من الإرث الشعري للهمباتة في السودان، وكما أشرنا سابقًا ربما هذه الأشعار ما جعلت البعض يرى فيهم تمثيلًا واستعادة لظاهرة الشعراء الصعاليك، عرف "الهمباتة" بأسفارهم الدائمة، التي كانوا يشدون لها الرحال إلى مناطق عديدة ومتفرقة من أرض البطانة، لكن بعض الرحل المشهورة كانت تضرب خصوصًا لمعشوقات بعينهن، حيث تشهد تلك الجلسات اجتماع عددٍ من الشعراء مع صاحبة المسكن، وكان الشعراء "الهمباتة" يتبارون في مدح السيدة التي كانت في العادة تسعد بهذه المباراة الشعرية، حيث تكرم السيدة نزلاءها ويزيد هذا الإكرام كلما زادت المنافسة وأخرج "الهمباتة" أجمل أشعارهم في السيدة صاحبة الدار.

كما أن لهؤلاء المعشوقات دور آخر تقوم به المرأة في مجتمع "الهمباتة" المقسم لعدة فئات، فالمعشوقات يمثلن أيضًا دورًا في عملية بيع الإبل المنهوبة، جنبًا إلى جنب مع فئة "العملا" الذين يتولون أيضًا عقد الصفقات، بالإضافة إلى العلاقات المتميزة والقوية التي كانت تنشأ ما بين "الهمباتة" وهؤلاء النسوة، وكثيرًا ما كان اقتراض المال اللازم لعمل "الهمباتي" يتم توفيره عبر هؤلاء السيدات اللائي كنّ يمتهن مهنة بيع وصناعة الخمور.

ظاهرة "الهمبتة" في السودان لها بعض الصفات المشتركة مع ظاهرة الصعاليك العرب، إلا أنه من القصور تناولها بوصفها هي نفس الظاهرة

يبقى القول، إنه حتى وإن كانت ظاهرة "الهمبتة" في السودان لها بعض الصفات المشتركة مع ظاهرة الصعاليك العرب، إلا أنه من القصور تناولها بوصفها هي نفس الظاهرة التي نشأت في شبه الجزيرة العربية قبل حوالي خمسة عشر قرنًا خلت، كما أن "الهمبتة" في السودان نشأت في ظروف سياسية واجتماعية محددة مرتبطة ومتزايدة مع ظهور الدولة بشكلها الحديث، وكشكل من أشكال العدالة الاجتماعية ومعارضة سلطات الدولة الرسمية.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى