ربيع دهام - مستشفى التفاؤل.. قصة قصيرة

"تفاءلوا بالخير تجدوه"، قالها أبي يوماً.
وبالتحديد قبل ساعاتٍ من إصابة إبنه البكر يونس، أي أخي، برصاصة طائشة في كتفه أثناء احتفالية نجاح إبن جارنا ممدوح في البريفيه.
وقالها قبل يومين من احتراق جزء من دكانه الصغير نتيجة احتكاك شريطي كهرباء،على الأرجح أن كلٌّ منهما ينتمي إلى طائفة مختلفة.
وتمشياً مع القانون الفيزيائي الشهير الذي سنّه العالم الفرنسي الأشهر
هنري غورو، والقائم على مبدأ التعايش والتفاهم بين الطوائف، والقاضي
بعدم جواز أي احتكاك بين طائفة وأخرى إلا إذا كانت نتيجته النار والحريق، احترق جزء من محل أبي.
وحين صرّح المحقّق الجنائي الغير فاسد والغير طائفي، المقدّم "مريد السترة" ، والمعني الأول بالقضية :
" يبدو ، وبحسب الأدلة والقانون، والقضاء والقدر، والسفارات على مد النظر، أن هذا الشريط قد تعدّى على الآخر" ، تجمهرت كل الكابلات الأخرى ضد المحقّق مطابلة باستقالته فوراً.
وعلى مبدأ "كلن يعني كلن" طالبت "ثورة الكابلات الكبرى" بعودة المحقّق المشهور بالفساد "أريكة".
و"أريكة" هو عضو قديم سابق وحالي في طقم الأرائك ، والحاكم منذ الأزل في الوطن اللانهائي المنتهية صلاحية نظامه.
وحدث كل هذا، بحسب ما أستذكر، قبل يومين من تهشّم زجاج سيارة أبي حين طارت طاسة غير ملتزمة من سيارة أخرى وغطّت وارتطمت بلوح الزجاج، فاخترقته وأكملت طريقها إلى صدره. وأُدخِل على أثرها مستشفى
"فوت وتوكّل" في حارة "النكد الفوقا" ، بجوار إبنه يونس المطروح في جوف المستشفى أصلاً ، ومنذ يومين، في حارة " النكد التحتا".
وهذا حدث، بحسب ما أظن ، قبل يومٍ أيضاً من إبلاغ أبي من هناك،
من على سرير المستشفى ، أن حسابه البنكي الصغير مطروحٌ بدوره في جيبة أحد كبار "القوم" في البلاد ، ولا يستطيع سحبه قبل أن يسحب إبليس روحه.
هذا مع العلم أن حسابه الموجود في المصرف صغير لدرجة أنه عصي على التجزئة والتقسيم.
وكل هذا حصل ، بحسب ما يستجمع عقلي ، قبل يومين من إعلام أبي، الخارج للتو من غرفة العناية بالأمراض العصبية ، أن الدولار صار فجأة بـِ 18000 ليرة لبنانية .
وبحسب ما أستتذكر أيضاً، ونتيجة لارتدادات خبر مزلزل كبير كهذا، اضطر الطاقم الطبي أن ينقل أبي من غرفته العادية في طابق الأمراض العصبية إلى غرفة العناية الفائقة المتخصصة بمكافحة الذبحات القلبية.
وحين أدخلوه الغرفة ، لم يكن أحد من المكافحين الأطباء هناك.
بل لم يرَ أبي إلا أجساداً متمددة على الأسرّة، وعلى مد عينك والنظر.
ولمّا سأل عمّي منصور، شقيق أبي الأصغر، والذي طارت عينه منذ أسبوعين بسهم ناري احتفالاً بعيد الأضحى، إحدى الممرضات :
" أين جهاز الأطباء المكافحين؟ ومن يعتني بهؤلاء المرضى المطروحين والمضروبين والمقسومين على الأسرّة "،
قالت الممرضة : " هؤلاء المطروحون هم الأطباء! "
وحين سأل عمّي : " هؤلاء الأطباء؟! وأين المرضى؟"
قالت له : " خارج المستشقى".
"وماذا يفعلون خارج المستشفى؟" ، صرخ عمّي دون وعي.
" حاولوا الإتصال بفوج إطفاء الحرائق ولكن يبدو أن الهاتف هناك معطلٌ" ، أجابته.
بلع حنجرته وسأله : " ولماذا يتصلون بفوج الإطفاء؟".
أجابت الممرضة : " رأى المرضى ، وبإجماع فير مسبوق ، أن أفضل من
يعالجهم ويعالج الأطباء وكل الناس هنا هو فوج الإطفاء".
وحين صاح عمّي باندهاش : "فوج الإطفاء؟ كيف؟"
قالت الممرضة وبسرعة تفوق سرعة غرزها للإبرة في العروق : " لأن الجميع يبدو أنه يعاني من الإصابة ذاتها".
"وما هي؟" ، قال عمّي.
أفرجت الممرضة عن لسانها، ونطقت بالعربي المشبرح :
" الكل محروق دينو!".

ربيع دهام

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى