أدب السجون وليد الهودلي - في شباك العصافير.. قصة قصيرة

فكّ المحقق قيد ماجد وقاده برفق من عنق الكيس الذي يكسو رأسه ورقبته إلى كتفيه .. لم يجد ماجد طيلة العشرين يوماً التي قضاها في هذه الأقبية السوداء أي رفق إلا هذه المرة .. كانوا يجرونه بعنف شديد كبهيمة تجرّ إلى الذبح .. عشرون يوماً قضاها بين الضرب والشبح وصعق الأعصاب بأساليبهم النفسية العنيفة ... مرّت عليه وكأنها عشرون سنة ...
واجه المحققين بكل قوة وثبات .. تناولوه بالترغيب والترهيب .. مثّلوا عليه تمثيلهم النكد .. هذا ليّن يأتيه بالعقلانية المصطنعة والهدوء الذي لا يتناسب مع سحنته وذاك بالتنكيل والوعد والوعيد .. وآخر يأتي فازعاً لماجد منافحاً عنه .. يبعد عنه الجلاّد ثم يسأل وعندما لا يتلقى الجواب الذي يريد ينقلب إلى سبعٍ ضارٍ مفترس ...يكشّر عن أنيابه ويتكالب عليه مع المحقق الجلّاد .. وعندما يملّ المحققون أساليبهم هذه يهجمون عليه هجمة رجل واحد ويحاولون اختراق نفسيته من جميع جهاتها ... انكشفت حيلهم كلها عليه وظهروا على حقيقتهم اللعينة ..
في جوف الليل القارس والبرد يلسع جلده و يقلب معدته سار ماجد خلف المحقق .. خطوة خطوة وجدار أسود يتراءى أمام عينيه ... تعثّرت قدماه كالعادة ، دارت به الدنيا السوداء بظلامها الدامس، شدت على خناقه هواجس الجولة القادمة .. خففت من ثقلها معيّة الله الحانية .. اعتاد أن يلوذ بجناب الله عند اشتداد الخطوب ونزول البلاء فتهبّ على روحه نسائم طيبة تُسكّن من روعه وتلهمه الثقة والطمأنينة ... يحافظ على توازنه وثباته أمام هذه الوحوش البشرية التي لا تلتقي مع الإنسان إلا بالجسم .. فقدت كل المشاعر الحيّة ، لم يتبق في حنايا نفوسها أية صفة إنسانية .. مجرد آلة تعذيب تقوم بوظيفتها وتحرّك ضرباتها ولا تعرف إلا لغة البحث عن الاعتراف والتنكيل.
دخل ماجد غرفة المحقق المكيّفة .. ارتعش جلده وسرى الدفء في عروقه التي تصلبت من البرد .. جلس أمام المحقق رافع الرأس على الرغم مما به من مرارة وألم .. كدمات ملأت جسمه بدوائر زرقاء .. تهدّل شعر لحيته على صدره، طبع الأسى ألواناً قاتمة على وجهه .. بدت صلعته بارزة في مقدمة شعر رأسه المتناثر .. ورغم عنف التحقيق إلا أنّ فيه راحة من البرد القارص، يلتحف برد رام الله المعروف بقساوته في الشتاء ويفترش قميصاً واحداً " أفرهول" .. جرّدوه من ملابسه حتى الداخلية وأبقوا عليه هذا الكيس البنيّ القاتم الذي لا يسمن ولا يغني شيئاً من هذا البرد .. قال المحقق بهدوء وابتسامة صفراء تكسو وجهه النكد .. وضع يده على لوحة الحاسوب واليد الأُخرى على الطاولة:
الحمد لله على السلامة ماجد .." بدنا شوية معلومات اجتماعية وبعدين على السجن ،" أتمنى لك إفراجاً قريباً .. كم عمرك ؟
- تسعة وعشرون.
- متزوج؟
- نعم
- كم ولد عندك؟
- ولدان
- كم أخ لك وكم أُخت ؟
- خمسة أخوة وست أخوات
- مستواك التعليمي ؟
- بكالوريوس .
- ما هو شغلك ؟
- موظف في دائرة الزراعة .
أنهى أسئلته الاجتماعية التي حيرت ماجد " وجعلت الفأر يلعب في عُبّه" .. " ماذا يستفيدون من هذه الأسئلة .. أعلم من الحبسة الأُولى أن مثل هذه الأسئلة تكون في نهاية التحقيق وقبل الانتقال إلى السجن .. الحمد لله لقد أفلتّ من براثنهم بسلام ... عشرون يوماً من العذاب انتصرت في نهايتها على هؤلاء الجبناء .. إنه نصر ما بعده نصر .."
لقد أرادوا هزيمتي نفسياً في بداية التحقيق حيث قالوا لي : تصوّر المخابرات الإسرائيلية بخبراتها العريقة في كفة، وأنت ماجد عبد الحميد في الكفة المقابلة .. أترجح كفتك على كفتنا .. نسوا الأغبياء أن الله معي ومن كان الله معه فهو الكفة الراجحة لا محالة .. هزّهم العنيف الذي كان يخلخل فقرات ظهري و يقتلع رقبتي من جذورها وتصطك كتفاي بقبضاتهم اللعينة .. أنا لا أنسى هذا الهزّ المريع خاصة عندما كانوا يعيدون الكرّة بعد أن تزرقّ كتفاي و يضرب الروماتيزم غضاريف ظهري من شدة البرد . نهض المحقق، وكأنه على عجلة من أمره .. صافحه بحرارة ، نادى على سجّان وأمره بإدخاله السجن .. سار خلف السجان على هدى عينيه ..تخلّص من الكيس النتن الذي أغلق عليه بصره وأزكم خياشيمه طيلة فترة التحقيق .. نظر إلى الفضاء الخارجي وقبة السماء الزرقاء وكأنه انبعث من قبره .. تنفس من الهواء النقي وملأ رئتيه .. لأول مرة في حياته يجد أن للهواء مذاقاً رائعاً .. بضعة أمتار ما بين الزنازين والسجن رأى فيها السعة بين الضيق والراحة بعد الإرهاق الشديد .. تزوّد بأنفاس متلاحقة قبل الولوج في السجن .. هتفت كل ذرة من روحه .. ما أعظم الحرية ؟!
أخذه السجان إلى مخزن السجن .. استلم ملابس السجن القاتمة والبطاطين السوداء .. اقتاده إلى بوابة حديدية من الطراز الثقيل .. فتحت من الداخل فاستلمته شرطة السجن وأدخلوه إلى أول غرفة عبر ممر ضيق .. قام له قرابة خمسة عشر شاباً هم سكان هذه الغرفة .. أخذوه بالأحضان .. عانقهم فرداً فرداً ..كانت نظراته زائغة بين معالم الغرفة الواسعة مقياساً لما كان فيه .. وبين وجوه الشباب التي تبتسم له ، شكلت معالم هذه الغرفة في روعه للوهلة الأُولى قصراً منيفاً ... كانت المقارنة معقودة في رأسه مع الزنازين القذرة التي كان فيها .. وجد في الغرفة أبراشاً مرتبة .. تلفازٌ تدور رحى مباراة كرة قدم على شاشته .. طاقة واسعة تستطيع تسميتها شباكاً لا كتلك التي في الزنازين، لا تستطيع أشعة الشمس التسلل إلى داخلها ... لمح بعض الكتب .. وأقلام دفاتر ومصاحف .. كم كان مشتاقا للقاء روحي مع كتاب الله! ..
تناوله وأراد أن يلتهم حروفه وآياته لولا أن شاباً توجّه إليه وعرض عليه أن يستحم حماماً ساخناً يزيل عن جسده أدران الزنازين وما تراكم على جلده طيلة فترة التحقيق ..
زوّده بملابس داخلية جديدة.. ومستلزمات الحمام من صابون وليفة ومنشفة .. خرج من الحمام فوجد العشاء جاهزاً وكان الكل بانتظاره .."
وجوه مرحبة، مبتسمة، ترتسم فيها الوداعة ويفيض الودّ من ثناياها ... سيماهم على وجوههم من أثر السجود .. اللحى الكثة و نور الإيمان يبرق في عيونهم .. ألسنتهم تلهج بذكر الله ... قال زعيمهم صاحب اللحية المربوعة وهو يرسم على وجهه ابتسامة عريضة .. بسم الله .. تفضلوا على بركة الله .. قال ماجد في نفسه : " الحمد لله وقعتك مع مشايخ يا ماجد .. الصحوة الإسلامية تتقدم في كل مكان حتى في السجون .. ها أنت تلتقي في السجن مع هؤلاء المجاهدين الأخيار .. فرصة عظيمة يسرّها الله لك للتعلم من خبراتهم وصقل تجربتك .." ربَّ ضارةٍ نافعة "؟ الحمد لله على كل حال ...
دعاهم شيخهم "أبو سياف" للتعارف .. تحلّقوا حوله .. قدم أبو سياف ماجداً للشباب و رفع بين يديه أجمل الكلمات .. " حللت أهلاً ووطأت سهلاً و فرّج الله كربك، نسأل الله أن نلتقي في ساحات المسجد الأقصى أو في مقعد صدق عند مليك مقتدر " .. هزّت هذه الكلمات مشاعر ماجد من الأعماق .. ذاب خجلاً من الإطراء الذي ناله منهم و صمّم في نفسه على أن يكون وفياً مخلصاً لهم على هذا الاستقبال الحافل باللطف والكرم .. سمعوا من داخل السجن أذان العشاء .. ردّدوا خلف المؤذن بخشوع وإخبات وكأن على رؤوسهم الطير .. أجواء إيمانية يضيق بها المكان وأنفاس إيمانية تشع من الصدور.. تبتُّل منقطع النظير قد لا تجده في زمن الصحابة رضوان الله عليهم ، وما أن انتهى الأذان حتى كانت الصفوف مستوية والأرواح جاهزة للقاء الله وتحقيق قرّة العين في الصلاة .. صلّى بهم أبو سياف وترنم بالآيات حرفاً حرفاً من أعماق قلبه .. كان كمن لحق به سبع ضارٍ فلجأ إلى الله بكليّته لجوء المضطر (الذي لم يجد أمامه سوى باب الله) ... خرّوا إلى الأذقان ساجدين باكين بعد آية سجدة تقطعت لها القلوب .. ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خرّوا سجّداً و سبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ) ...
انشغل بعد صلاة العشاء كلٌّ منهم بتسبيحه ووِرده .. نظر ماجد إلى " أبو سياف" فوجده مستغرقاً لا يرفع عينيه عن موضع سجوده وبعد نصف ساعة من انتهاء الصلاة نادى أبو سياف ماجداً على برشه، أُحضر لهم الشاي .. هتف أبو سياف بهدوء و وقار:
أهلاً وسهلاً بالشيخ ماجد ... تعرفنا في جلسة التعارف معرفة عامة والآن سأعرفك على نفسي بالتفصيل .. أخوك أبو سياف محكوم مؤبد، أمضيت منها عشرة أعوام في السجن .. عندي قتل يهود ... متزوج ولي خمسة أولاد وبنت ... الكبير اسمه سياف سميته في حينها على اسم عبد ربّ الرسول سياف قائد المجاهدين الأفغان ...
رد عليه ماجد باحترام بالغ ...
.. وأنا متزوج وعندي ولدان .. الكبير اسمه عبد اللطيف .. إن شاء الله حكم خفيف ... أشهر وتفرج بإذن الله علينا وعليك ...
بارك الله فيك يا ماجد .. حبسة خفيفة .. يعني بدون اعتراف هكذا الرجال .. الرجال لا يعترفون .. كل هؤلاء الذين تراهم أمامك محكومون باعترافاتهم، هذا الذي أحضر لنا الشاي محكوم بعشرين عاماً، قام بعملية تفجير وسط "تل الربيع" الاسم الفلسطيني لتل أبيب، أنا لا أعترف بالمسميات الصهيونية . وهذا أحمد الشيال محكوم سبع سنوات، عنده فعاليات انتفاضة وزجاجات حارقة "مولوتوف" ... إما أن يكون المجاهد رجلاً في التحقيق أو لا يكون مجاهداً أصلاً .. ما معنى بيع النفس لله ثم السقوط في أيدي المخابرات بسهولة؟ المُجاهد الحقّ لا يضعف ولا يعترف بتاتاً قل لي يا ماجد..كيف كان صمودك في التحقيق..هل استخدموا معك أسلوبهم اللعين" الهزّ" تعاقبت صور العذاب والتحقيق في دماغه سريعاً .. هز رأسه وأجاب:
نعم ... الهز والشبح وكل أشكال التنكيل، قاتلهم الله ...
الحمد لله، لقد ثبتك الله .. وصلت إلى برّ الأمان يا ماجد .. انضم إليهم شاب وسيم يحمل قلماً ودفتراً .. صافح بحرارة ...عرّف عليه أبو سياف: هذا يا أخ ماجد مسؤول الأمن في هذه القلعة " أمين عبد الرزاق" .. كما تعلم الأوضاع الثورية التي نتحرك من خلالها في السجن ..لابد من التواصل بين الداخل والخارج...القيادة تتابع الأمور أولاً بأول ، والذي يدخل المعتقل عليه أن يخبر قيادته بما جرى له حتى تأخذ الخلايا في الخارج احتياطها ... الطريق مأمون والسر مكتوم والعهد هو العهد والقسم هو القسم.
قال ماجد بهدوء وطمأنينة:
- عندي فكرة مسبقة ... أعلم أن المجاهد عندما يدخل السجن يكتب قصته الاعتقالية،
- الله يفتح عليك ، وهذا ما يريده منك الأخ مسؤول الأمن ... أحببت أن أضعك في الصورة لأن الجدد يتخوّفون أحياناً عندما تطلب منهم هذا الطلب.
قدم أمين الدفتر والقلم إلى ماجد وقال:
- تفضل يا شيخ ماجد .. ها هو الدفتر ، اكتب القصة الاعتقالية اكتب اسمك الرباعي وتاريخ الاعتقال وما جرى معك في التحقيق بالتفصيل، الاعترافات إن وجدت .. القضية المحبوس بسببها .
"أنهى ماجد كتابته بسرعة، لم يتجاوز ما كتبه عدة سطور .. مرّر أبو سياف عينيه عليها بسرعة ... قرأها أمين ثم قال:
- رائع هذا كفاية ولكن بحاجة إلى بعض الإضافات الضرورية لابدّ من وضع القيادة في صورة الوضع .. بعض الأسئلة الروتينية توجّهها القيادة لنا كي نعرفها من العناصر.. قال أبو سياف ..
- لا تخف يا ماجد " سرك في بير" ... اسمحوا لي .. وإذا لزم شيء نادوا علي .. انسحب أبو سياف وتابع أمين :
- مع من علاقتك في الخارج شيخ ماجد ؟
" تردد ماجد .. سمع نداءاً في أعماقه .. ماذا لو كانوا "عصافير" .. مستحيل .. أكلّ هذا تمثيل ؟! "مش ممكن" ... ولكنّي سمعت أنهم يجيدون التمثيل ... ولكن ليس بهذا الشكل أنا في الحقيقة تعبت ... إلى متى أستّمر في هذا العذاب ... أأرجع إلى التحقيق بعد أن وصلت إلى برّ الأمان .. ألم يحذرني إخواني المجاهدون بأن لا أتفوه بأي شيء لم أعترف به عند المخابرات قالوا لي: "لو وجدت أباك في السجن فلا تبوح له بسرّك الذي لا تعرفه المخابرات" ...لماذا يسألني هذا الرجل .. ما الهدف؟
أعاد أمين عليه السؤال .. استمر ماجد في صمته واشتدت به الحيرة .. انتابته الشكوك ، غاص في بحر الظنّ، هاجمته قصص كثيرة سمعها في الخارج عن حيل العصافير ..
أغلق أمين من بين يديه الدفتر، وقال:
- أنت حر ... هذا الأمر يعود إليك ... نحن لا نكره أحداً .. باستطاعتك أن لا تجيب ... وباستطاعتك أيضاً أن تلغي ما كتبته ... المهم كن مطمئناً وأرجو أن لا نزعجك في شيء ... يقطع الأمن والشغل في الأمن ... يا شيخ مللت ثوبي من هذه المهمة ... ولكن ما العمل؟ ... الواجب يحتّم علينا أن نحافظ على ثورتنا المعمدة بدماء الشهداء، أنّات الجرحى ، دموع الثكالى ومعاناة الأسرى ... آه، آه يا ماجد ماذا أقول لك .. وقعنا مع احتلال بغيض لا يرحم ..
" عاد ماجد إلى نفسه يراجع شكوكه .. لماذا كل هذا الشك .( إن بعض الظن إثم ) لقد أسأت الظن في هؤلاء الأطهار يا ماجد .. ها هو لا يريد مني شيئاً .. ترك لي الحرية ... لا يهم أن أكتب أم لا أكتب .. إنه غير مكترث ...ثم إني أعرف من بينهم رجلاً شريفاً مئة بالمئة .. إني أعرفه من الخارج ... اعتقل قبلي بشهر واحد تقريباً .. هل أصبح عصفوراً بين عشية وضحاها .. ها هو يسكن معهم .. ما الذي أتى به إلى هنا؟ .. سأقطع الشك باليقين وأتحقّق منه مباشرة ... استأذن ماجد و سارع إلى برش هذا الشاب الذي لا يعرفه حق المعرفة ... دخل معه في الموضوع بلا مقدمات ... كان الشك الذي يطفح أعماقه يدفعه بقوة ... سأل بلهفة هتفت بها كل ذرة من ذرات جسمه :
- هل نحن في السجن؟
- ما هذا السؤال .. أتشك في هذا ؟
- بيني و بينك ... سألتك من باب الاحتياط .. خفت أن أكون في غرف العصافير ؟
- ضع يدك في ماء بارد .. أنا هنا منذ عشرة أيام ولم يتوجه إليّ أحد بشئ سوى قصة الاعتقال الروتينية .. يطلبونها في كل السجون ..
- نهض ماجد من نومه قبيل أذان الفجر فوجد مجموعة تصلي بإمامة أبي سياف .. صوت رخيم يتموج، يعلو ويهبط حسب وعد الآيات ووعيدها، خوفها ورجائها .. يستبشر وتشتد أوتاره تارة ، وتارة أخرى ينقبض و يخفت صوته .
حرّكته الآيات فوجد نفسه ينطلق للوضوء مع خاطر انفلت من عقاله و ردّد " مستحيل أن يكون هؤلاء عصافير .. إنهم تجسيد عملي لقوله تعالى ( كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحارهم يستغفرون) .. هاهم قائمون عابدون راكعون ساجدون .. أيقدر على هذا أهل النفاق؟ مستحيل ..
بعد صلاة الفجر كان يوماً حافلاً .. مأثورات جماعية بعد الصلاة ثم جلسة قرآن ... وبعد الفطور دبّ النشاط في الغرفة: جلسة دينية قدمها أبو سياف انضم إليها الجميع .. ثم خروج إلى الساحة ... لاحظ عدم مقاسمتهم للساحة من قبل بقية الغرف في السجن ... سأل وكان الجواب جاهزاً ... لقد جمعت الإدارة أصحاب الأحكام العالية في هذه الغرفة وعزلتها عن السجن .. تفاعل في الساحة مع الشباب ووجد معهم انسجاماً رائعاً ... كلاماً طيباً ومجاملات لطيفة .. نسي آلام السجن وعذابات التحقيق التي مازال أثرها في جسمه .. كانت قدماه التي تتنقل به جناحين يحلّق بهما عالياً والشباب يحفّونه عن اليمين وعن الشمال .. يتحدث طويلاً فيصمت الجميع و تنهال عليه كلمات الإعجاب والتبجيل .. ومع توسط الشمس كبد السماء وبعد أن أخذ حظّه من الدفء الذي انقضّ على رطوبة جسمه عادوا أدراجهم إلى قبرهم الرطب والجدران الخانقة ..
دخل عدد الظهيرة الغرفة وأثناء العدّ هرب أحد الشباب مسلّماً نفسه للإدارة .. حاول شباب الغرفة الحيلولة بينه وبين تسليم نفسه إلا أنه تمكن من الخروج من الباب مستغلاً وجود رجالات الإدارة .. أُغلق الباب بعد العدد .. جمع أبو سياف شباب الغرفة وأخبرهم قصة هذا الشاب .. " إنه مشبوه .. له ملف أمني ، خضع للتحقيق و أنزل زاوية .. حاولنا إصلاح أمره والعمل على توبته بهدوء ومن غير أن يعلم أحد .. إلا أنه أبى إلا النذالة ... والارتماء في أحضان المخابرات ... فاجأنا قبل قليل وسلم نفسه . " وهذه علامة جديدة ... ها هو المتساقط يسلّم نفسه للإدارة و يهرب من بين أيدي المجاهدين الذين اكتشفوا أمره ... لقد ذهبت بك الظنون بعيداً حتى جعلتك تعتقد أن هؤلاء الأطهار عصافير ... معاذ الله ..
جمع زمام عقله وروحه مع جلسة التفسير التي يعقدها أبو سياف بعد العصر .. كان يقرأ فيها من ظلال القرآن لسيد قطب ... يتوقف بين الحين والآخر ويعقّب ... الصمت والانتباه يحف الجلسة بقدسية رائعة ... ارتوى ماجد من الفيض الرباني الذي تلقفه من الشيخ .. لان جلده وارتعش وجدانه واستبشر خيراً في حبسةِ يستغلها في الذكر والعلم..
جاءه مساءً أمين .. تسارعت خفقات قلبه .. توجّس من أن يعيد عليه أسئلة الأمس أحس بغصة تعكّر أجواء قلبه الصافية .. " اقترب منه أمين وقال له بصوت يشبه الهمس:
- جاءنا بريد من السجن .. طلب إخواننا منا أن نعرض عليك العمل معنا في الأمن .. عندهم صورة طيبة عنك جاءتهم من الخارج: نريد أن نجمع بين خبرة الداخل وخبرة الخارج ... ما رأيك ؟!
تردد قليلاً .. حسم أمره عندما رأى في هذا العرض تأكيد جديد يخّلصه من شكوكه بهم إذ كيف يأتمنونه على هذه المهمة الخطيرة ؟! لو كانوا عصافير لما أهمهم سوى أمر واحد وهو أن يستخرجوا أسراري وأن يصلوا إلى الذي لم أعترف به عند المخابرات .."
وافق على هذه المهمة وتلقى من أمين توجيهات في الرصد والانتباه، رفع المعلومات وكل ما يلزم لعنصر الأمن في السجن .. في اليوم التالي استقبل ضيفاً جديداً .. عرّفه على أمين، طلب منه أمين أخذ القصة الاعتقالية بالنيابة عنه .. جاء بها ماجد قرأها أمين وقال له مشجعاً :
- بارك الله فيك .. لقد أحسنت صنعاً .. حبذا لو اكتملت الصورة .. فقط بحاجة إلى بعض النقاط الضرورية .. عندنا مجموعة أسئلة تريحك كثيراً .. ما على المعتقل الجديد إلا أن يجيب عنها .. "عرض عليه الأسئلة .." أمعن ماجد النظر وقال مستفسراً :
- ولكن قد يعطينا أموراً لم يعترف عليها عند المخابرات .. هذه الأسئلة تتجاوز حدود المعترف عليه .
- يا شيخ ماجد .. إنها الضرورة .. الضرورات تبيح المحظورات أتبقى الخلايا في الخارج دون توجيه .. ألا يحق للقيادة أن تتابع مهام المعتقل وأن تنوب عنه في الخارج .. ثم أتعتقد بأن الثقة ليس لها مكان في العمل الثوري ؟
- نعم ولكن الثقة لا تنفى الحذر .
-أحسنت .. المطلوب هو الاثنان معاً .. ثقة وحذر .. يجب أن لا تلغي الثقة الحذر وفي الوقت نفسه لا يلغي الحذر الثقة ..
" هز رأسه و هتف بإعجاب:
- حقاً إنها معادلة رائعة ..
- إنه توازن دقيق .. توكل على الله يا ماجد ..
استلم ماجد مهمة متابعة المعتقلين الجدد والقيام بالواجب الأمني اتجاههم ... شجعه أبوسياف ... يزوّدهم بالقصة الاعتقالية بكل تفاصيلها ويتابع كل الأسئلة التي يريدون الإجابة عنها ... بدأت خليته المعتقلة معه بالتوارد الواحد تلو الآخر .. أصبح ماجد يتولى الاستقبال والقيام بالواجب ثم القصة الاعتقالية والمراسلة بين أمين وأبو سياف وبين الضيف الجديد ... كان يصل إلى الإجابات المطلوبة بكل سهولة لثقة أفراد مجموعته به ويسلمها إلى المسؤول الأمني أمين .. جمع أمين بدوره الأوراق جلس مع ماجد بهدوء مصطنع حاول إخفاء المكر الذي برقت به عيناه ... كان كالثعلب الذي أوشكت الفريسة أن تقع بين فكّيه بعد استدراج طويل .. قال له :
- يا ماجد.. اللجنة الأمنية في السجن أعادت لي الأوراق ... اقرأ تعليقهم عليها " فتح له ورقة شفافة كستها أسطر دقيقة وكلمات صغيرة .." .. هناك تناقضات واضحة عند مقارنة القصص الاعتقالية والاعترافات ... لا بّد من الوصول إلى الحقيقة كاملة ل.أ.ع ... لجنة أمنية عامة .
- امتقع وجه ماجد واشتدت ضربات قلبه ... سحب راحة يده على شعره .. رفع حاجبيه وقال:
- وما العمل الآن؟
- يجب ربط خيوط القضية ببعضها بعضها حتى تكتمل الصورة بشكل واضح ... القيادة ليست "طرطوراً .. يجب أن تعرف كل شيء .. عليها أن تعرف أين الخلل ؟! .." صمت قليلاً وقال ...
- افترض يا ماجد أن في المجموعة شخصاً مشبوهاً ... كيف تستطيع القيادة كشف أمره ؟! كيف تصل إلى السبب الذي أدى إلى كشف الخلية ... ها هو كل من أفراد المجموعة يتنصل من مسؤوليته ومن اعترافاته ويلقي باللائمة على أخيه ..
- ما العمل؟ أنبقى مكتوفي الأيدي ... أين الخلل ؟!
" اشرأبت عنق ماجد ...اجتاحته مشاعر جدّية شدته من أعماقه " قال بنبرة شديدة :
- أمهلني أربعاً وعشرين ساعة .. سأعصرهم كما تعصر حبة الليمون ... لا تقلق بيدي معلومات تربط خيوط القضية .. غداً إن شاء الله تستلمها كاملة .
تنقل ماجد بين مجموعته ... أوحى لهم بأن هناك خللاً لابد من الوصول إليه .. قد يكون خللاً أمنيّاً .. وضع كلٌّ منهم يده على قلبه وأدلى بدلوه ... جمع ما عندهم إلى ما عنده ... و طرّز تقريراً شاملاً ذكر فيه كل ما عملوه في الخارج والخلايا الفرعية التي انبثقت عنهم .. كشف نقطة اتصالهم ومصادر تمويلهم ... مخططاتهم .. وحتى بعض ما يفكّرون به في أكنة صدورهم دوّنه لهم .
سلمها ليلاً وذهب إلى فراشه لينام ... وأنى له النوم ... عاد إليه الشك : " ماذا لو كانوا عصافير ... مرة ثانية يا ماجد ... لقد أخذوا مني كل شيء بل وساعدتهم على اعترافات مجموعتي ... أوصل بهم الكيد والمكر إلى هذه الدرجة ... ولم لا ؟ يا لي من مُغفّل ... سترك يا رب ... إن هذا غير ممكن إن معلوماتي عن العصافير أنهم يحاولون كل جهدهم الوصول إلى المعلومة في ليلة واحدة قبل أن يُكتشف أمرهم ... وإذا لم تنفع التي هي أحسن استخدموا العنف ... المخابرات تنتظرهم فينجزون عملهم بسرعة أما أنا فلي خمسة عشر يوماً .. أمن المعقول أن تنتظرهم المخابرات هذه الأيام الطويلة ... مستحيل ...
ولكن لماذا أصروا على الوصول إلى ما لم أعترف به ... هذه نقطة خطيرة ..."
بقي ماجد يتقلب في فراشه حتى لاح الصباح .. وبعد العدد الصباحي نادى سجان على اسمه في طلب عاجل لمقابلة "الصليب الأحمر " أعطاه أفراد مجموعته أرقام تلفوناتهم كي يتصل الصليب بأهلهم .. لبس حذاءه على عجل وسار مع السجان حتى إذا خرج من البوابة الثقيلة وجد طاقم المخابرات بانتظاره ألقوا بالكيس على رأسه وسحبوه بعنف شديد إلى مكاتب التحقيق، ارتعدت فرائصه وثار بركان في جوفه من الغضب والحقد على هؤلاء الأوغاد ... " ساح الثلج وبان ما تحته " .. إنهم عصافير ثعالب وذئاب مجرمين ...خسارة فيهم اسم عصافير إنهم صراصير .. "أدخلوه خزانة إسمنتية لا تتسع إلا لرجل واحد ، كان واقفاً لا يستطيع الجلوس فيها إلا بصعوبة " ... أغلقوا عليه بابها الحديدي فدكّ اصطكاكه كل خلجة من خلجات نفسه .. بكى من شدة الغضب .. نطح رأسه بالجدار الخشن نطحات هشمت جبهته وأسالت الدم على وجهه ... ضرب بقبضات يديه الباب بكل ما يملك من قوة .. لم يستجب له أحد .. تركوه وشأنه عدة ساعات حتى يهدأ قليلاً ... كان الصراخ الداخلي في أعماقه أشد وقعاً من هذه الحركات الظاهرة التي أدمت رأسه و يديه.. " أبعد هذا الصبر الطويل؟ أبعد أن نجحت في التغلب على المخابرات بكل أساليبهم اللئيمة . صمدت عشرين يوماً ثم جاءت آخرتي على يد هؤلاء الأوغاد ... سجداً ركعاً تفيض وجوههم بالخشوع المصطنع ... يجيدون التمثيل وعلى حسب الزبون .. وقعنا في شركهم ... ليتني وقعت وحدي... مصيبتي أنّ سُحُبَ غفلتي أمطرت وأغرقت مجموعتي .. أعز أصدقائي وأقرب المقربين إليّ ... أنا الذي كنت أنبههم وأضع بين أيديهم الإرشادات الأمنية التي يحتاجون إليها .. كم نصيحة أسديتها لهم بخصوص التحقيق ومواجهة المخابرات .. والعصافير ... ثم تكون النتيجة أن أعترف عندهم ... يا للمهزلة .. جاء أحدهم صباحاً بعد أن كتب كل ما لديه ليلاً، وقال لي: نسيت شيئاً أحب أن أضيفه ( وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ) .. شر البلية ما يضحك ... أين أضع رأسي؟ ... كيف أقف أمامهم في السجن بسنواته الثقيلة .. لقد ورطتهم معي وخربتّ بيوتهم ... مغفل ومليون مغفل ..آخ ... آخ ..."
في ساعة لا يعلم أنها في ليل أو نهار فتحوا عليه الباب وجرّوه من أسفل الكيس بغلظة ... "ليتهم يقتلونني" !! ليعذّبوا وليضربوا كيف شاءوا ... نارهم خير من النار بداخلي ... ستحرقني ناري حرقاً بطيئاً طيلة سنوات الاعتقال .. سلم عليه المحقق وقال مستهزئاً :
أهلا بالبطل ماجد ... " أخرج الأوراق من جاروره وقال: ها هي قصتك وقصة مجموعتك .. " حدّق بها و تمنى لو أن يديه غير مكبلتين حتى ينقض عليها ... و يلتهمها بين أسنانه أو يقطعها إرباً إرباً ..." تابع المحقق بعد أن ضرب الطاولة بقبضة يده "
اسمع ماجد .. هذه ليست القصة ... هذه البداية فقط ... وتعاقبت جولات التحقيق، انقضت على رأسه موجات الحقد من جديد ... واجهوه مع أفراد مجموعته بعد أن أعادوهم من غرفة العار " العصافير " واحداً تلو آخر .. شعر باختناقات متعددة تهاجمه من كل جانب .. عذاب الضمير خطف أنفاسه وما تبقى منها تقاسمه الكيس النتن ويداه اللتين اعتصرهما القيد ... كتفاه اللتين لواهما القيد الخلفي .. ضغط المحققين الذين يطلبون المزيد ولا يشبعون .. ألم المستقبل ومرافقة هذه المأساة له طيلة حياته ...
هتف من داخله نداء تعاظم شيئاً فشيئاً .. " يجب أن أضع حداً لهذه المهزلة .. عونك يا الله .. يجب إنقاذ ما يمكن إنقاذه ... وجه غضبه باتجاه المحققين ... يجب أن لا أذوب في أساي .. يجب أن أقاوم هذه الهزيمة بل بالعكس يجب أن تشكل تحدياً يستنهض كل طاقاتي الكامنة ...! استعن بالله يا ماجد ...
تفاجأ المحققون بردة فعل عنيفة من ماجد ... تلقى كل ضرباتهم التي اعتاد عليها بصبر شامخ وتعملق ببطولات نادرة .. استمر بكلمة واحدة ... كلمة بلال بن رباح الخالدة . أحد ، أحد . سمع أفراد مجموعته بكلمات التحدي الصارخة التي تنبعث بين الحين والآخر .. وتتردد بين جدران الزنازين .. شدّت من أزرهم ورفعت من معنوياتهم أمام جحافل الحقد اللئيم ...
بعد ثلاثة أشهر من التحقيق المتواصل اكتفى المحققون بالاعترافات التي اقتنصوها من هذه المجموعة ... كتبت الإفادة لأفراد المجموعة ما عدا ماجداً، إذ رفض التوقيع على أية إفادة .. تم تحويلهم إلى السجن بعد أن اكتظت الزنازين بموجة اعتقالات جديدة ...
تواصلت جلسات محكمة ماجد .. استند الادعاء العام على قانون "تامير" الذي يحكم على اعترافات الآخرين فنال الإعجاب والإكبار من إخوانه ومحبيه .. قالوا عن تجربته في التحقيق: خطأ جسيم عند العصافير ولكن سبقه بطولة و تبعته بطولات.

وليد الهودلي


* القصة الاولى من المجموعة في شباك العصافير ، التي صدرت حديثا عن وزارة الثقافة

https://www.whudali.com/2021/07/blog-post_2.html


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى