عبدالله السلايمة - صورة عائلية.ـ قصة قصيرة

لم يكن نور أكثر أولئك الشباب الذين كانوا يلاحقونها وسامة، ولا أوسعهم ثراء، إلا أن حظها العاثر دفعها لإهمالهم جميعًا والتعلّق به، ولمّا دفعته دهشته لسؤالها عن السبب، تأملته بعين عاشقة للحظة، ثم أجابته بنبرة أشبعت غروره، قائلة: كبرياؤك.
تبسّم مزهُوًّا، شعر بالإثارة، وفجأة اشتعلت في رأسه فكرة مناورتها، ما أدراه لعله نجح في استدراجها لمشاركته تجربة، كان يتلهف كمراهق على خوضها.
تجربة واجهتها نعمة في البداية باستنكار شديد، وقابلت محاولته الثانية بتكشيرة غاضبة، وتحذيره من مغبة محاولته معها مرة أخرى، لكنها كانت قد استنفدت أثناء محاولته الثالثة كل ردود فعلها، واستكانت لعذب كلماته ووعده الزائف بالزواج منها، وفي المرة الرابعة أسلمت جسدها إليه مترددة كي يمارس عليه طقوس تجربة ما أن تبدد دخان
نشوتها حتى أدرك مدى خطورة عاقبتها.
حتى ماضٍ قريب، قبل أن يفض قبح العولمة بكارة الصحراء كان للحب فيها قداسة، إذا ما تجرأ شخص عابث العبث بتلك القداسة، عليه أن ينتظر عقابًا رادعًا، مثل ذلك الذي كان ينتظر نور بعد أن نجح في إخضاع نعمة لأول تجاربه العبثية، واعتقد خطأ أنه سينجو منه بفراره.
لم يكن نادمًا على ما فعل بقدر ما كان آسفًا على تصرّف أبيه، الأمر الذي أثار دهشتي، ودفع بي للتساؤل:
ـ ألا تعرف بأنك جنيت على نعمة وأوقعت أبيك في ورطة.
ـ بالنسبة إلى نعمة لم أجن عليها كما تقول، إذ كان يمكنها أن ترفض، ولو فعلت لما حدث ما حدث، لكن ببساطة راق لها الأمر، فجارتني فيه!
ـ وبالنسبة إلى أبيك؟ !
تساءلت متهكمًا
فرد:
ـ كان يمكنني التراجع عن قراري بالمغادرة وتحمّل مسئولية خطأي
كرجل لو لم يتعجّل في إعلانه المشؤوم! .
ـ أي إعلان؟
أجاب مستغربًا وغاضبًا:
ـ لقد أعلن عن مكافأة لمن يضبطني ويعيدني إليه.
ومضى لائمًا:
ـ وليته عرض مكافأة سخية تليق بابن شيخ عشيرة مثلي، فلديه من المال ما يسمح بذلك،لكنه بدلاً من أن يفعل ويحفظ لي وله مكانتنا وهيبتنا، تعمّد الإقلال من قيمتي بعرضه مبلغًا مَالِيًّا ضئيلاً كمكافأة لمن يعيدني إليه، معتقدًا أن أية زيادة في عرضه ستدفع عائلة نعمة للظن بأن قلبه يدمي حزنًا لغيابي، فيغنمون الفرصة للنيل منه، وأنه بإعلانه المشؤوم سيكسِر حدة غضبهم وعدائهم، وبالتالي خفض سقف مطالبهم أثناء جلسة القضاء العرفي التي سارعت أطراف محايدة باتخاذ التدابير اللازمة لعقدها بين الطرفين. تصرّف أشعرني بالإهانة وحط من شأني في القبيلة، فزادت قناعتي بضرورة مغادرتها نهائيًّا.
منذ أن غادر نور ربوع القبيلة انقطعت إخباره لدرجة كانت كافية لدفع الجميع عدا أمه نحو الاعتقاد في استحالة عودته، لذا ما أن وصل منه خطاب يطمئنهم فيه على أحواله حتى أطلقت زغرودة، اقتطعتها من قلبها، وأثارت بداخل أبيه مشاعر متناقضة، فهو لم
ينس بعد فعلة ابنة المشينة التي هزت صورته كشيخ عشيرة.
لكن ماذا عساه فاعل الآن بطلب ابنه الغريب، هل يلبي له مطلبه، أم يرفضه استمرارًا في عقابه؟ .
ولأن وجه المرأة في عرف البادية عورة، ولا يصح كشفه على رجل غريب مثل المصوّر الذي سوف يجيء غدًا صباحًا من المدينة لكي يلتقط لهم صورة عائلية، تلبية لرغبة ابنه القابع في غربته، قضى الرجل ليلته يبحث عن حل مناسب لمشكلة ظهور وجه زوجته في الصورة!
أضحى فريسة سهلة لنهش مخاوف دفعت به في بداية الأمر للشك في نزاهة المصوّر، فمن يضمن له إذا ما وافق على ظهور وجه زوجته في الصورة مكشوفًا، ألا يعطى المصوّر لنفسه الحق في الاحتفاظ بنسخة أخرى منها، يمارس في خلواته متعة الفرجة عليه، وربما دعا أصدقاءه لمشاركته تلك الوليمة! .
أنّبه ضميره، فربما أساء الظن بالمصوّر، هدأت هواجسه بعض الوقت ، لكنها ما لبثت أن عادت تعصف برأسه ثانية حول مدى جديّة رجال البريد في التعامل مع الخطاب الذي سيرسله لابنه وبداخله صورتهم العائلية، فربما أهملوه، وربما لسوء حظه تعذر لسبب ما وصوله إلى ابنه، ووقع الخطاب في يد رجل غريب آخر، وتمعّن في وجه زوجته!
قبل مجيء المصوّر دعا أسرته إلى اجتماع عاجل لمناقشة تلك الإشكالية التي أرقت منامه.
ولأنه هو فقط من له حق إصدار القرار سمح لزوجته كحل وسط
في نهاية الاجتماع أن تكشف من وجهها حتى أسفل أنفها! .
رهبة أم نور المفرطة من الكاميرا، وحرصها الزائد في الحفاظ على
وضع طرحتها حسب الحدود المسموح بها، زادا من ارتباكها، لذا ما أن فاجأها المصوّر الواقف خلف الكاميرا طالبًا منها الوقوف ثابتة حتى ارتجفت يدها، فانسابت الطرحة كاشفة عن كامل وجهها.
في تلك اللحظة لمع ضوء الكاميرا، فظهرت في اللقطة بعين نصف مفتوحة، وشفتين مذمومتين، وبدت للناظر كما لو كانت تبعث إلى المصوّر بقُبلة.
قُبلة أثارت جنون زوجها فعكّر عليها صفو حياتها، ودفع بالمصوّر للتفكير في التخلي عن مهنته.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى