د. مصطفى أحمد عليّ - حفريّات في الهويّة الثقافيّة السودانيّة

توطئة
التنوع الثقافي ظاهرة بشرية لا يختصّ بها السودان وحده، فهو سنّة الله في خلقه. ولا يكاد مجتمع من المجتمعات، مهما كانت درجة انسجام مكوّناته، يخلو، في صورة من الصور، من ظاهرة التنوّع. فالحديث إذن عن الظاهرة وكأنّها سمة سودانية بامتياز، حديث خرافة.
ومع ذلك لابدّ من الإقرار بأن التنوع في السودان له ملامحه الخاصّة ونكهته المتميّزة عن غيره، وذلك راجع بطبيعة الحال إلى الموقع الجغرافي والسمات المناخية والمكوّنات السكّانية والتطور التاريخي، وما يرتبط بذلك من هجرات بشرية ونشاط اقتصادي، ومؤسّسات اجتماعية وثقافية وسياسية ودينية.
واضعين ذلك كلّه في الاعتبار، يمكننا التمييز بين عّدة مجموعات ثقافية، وهي:
- المجموعة النوبية المستعربة في وادي النيل الأوسط الشمالي؛
- المجموعة الرعوية البجاوية في مرتفعات البحر الأحمر؛
- المجموعة الرعوية العربية في البطانة؛
- المجموعة الرعوية العربية في شمالي كردفان ودارفور؛
- المجموعة الرعوية النوبية الزغاوية في مرتفعات شمالي كردفان ودارفور؛
- مجموعة أهل الدار الزراعية في حزام السافانا في وسط وجنوب كردفان ودارفور؛
- المجموعة النوبية في جنوب كردفان؛
- مجموعة الإنقسنا والفونج في جنوب النيل الأزرق
- المجموعة الرعوية العربية في حزام السافانا، في وسط وجنوب كردفان ودارفور؛
- المجموعة الرعوية النيلية في أعالي النيل وشرق بحر الغزال؛
- المجموعة الزراعية الاستوائية وامتداداتها في غرب بحر الغزال.
هناك مجموعة من الملاحظات حول هذا التقسيم، نوردها فيما يلي:
- هذا التقسيم هو اجتهاد من الكاتب، على سبيل التوضيح والبيان، ولا يخلو من تجاوز، ذلك أن هذه المجموعات تنقسم في داخلها إلى مجموعات ثقافية أصغر، ذات مميّزات خاصّة، كما تتّفق في كثير من الوجوه مع مجموعات أخرى منفصلة عنها وفق هذا التقسيم. إذن هناك تداخل وتقاطع بين هذه المجموعات بما يشبه الدوائر المتقاطعة، وبما يجعل المشهد أقرب إلى دائرة كبرى تشتمل على دوائر صغرى، تشكّل مكوّنات جزئية لكيان كلّي؛
- إن وجود هذه المجموعات لا يقتصر على حدود جمهورية السودان الحالية، بل يمتدّ هذا الوجود إلى ما وراء الحدود، لا سيّما في المحور الشرقي الغربي، ويمكن التمثيل لذلك بالمجموعة الرعوية العربية في حزام السافانا، مجموعة البقّارة التي تصل امتداداتها إلى ما وراء بحيرة تشاد؛
- إن وادي النيل منذ فجر التاريخ ظلّ مركز استقطاب للمجموعات البشرية من الشرق ومن الغرب، من جزيرة العرب وشمال أفريقيا، من السودان الأوسط الغربي والهضبة الحبشية، وإن حركة الانتقال والنزوح والهجرة تضاعفت وازدادت رسوخا عبر طريق الحج ما بين غرب أفريقيا والحجاز، وإن الوجدان السوداني الموحّد، أو الثقافة السودانية الموحّدة تشكّلت، وتتشكّل عبر هذه الهجرات البشرية. وينبغي في هذا الصدد الإشارة إلى حقيقة مستترة، ألا وهي أهمّية الرافد المغربي للثقافة العربية الإسلامية في السودان، والمتمثّلة في عدّة ملامح، من بينها المذهب المالكي والتصوّف والمكوّنات الديموغرافية السكّانية الحاضرة في المشهد السوداني ونسيجه الاجتماعي. وفي مقابل الرافد المغربي، ثمّة رافد هندي للذائقة السودانية وافد عبر البحر الأحمر، تشكّل عبر التاريخ، وتمثّل في القيم الجمالية والأزياء والزينة والعطور والأنغام والموسيقى.
- إن المراكز الحضارية في وادي النيل، ظلّت منفتحة عبر التاريخ لمؤثرات ثقافية وافدة، لاسيّما في العقيدة واللغة وأنماط العيش، ويتمثّل ذلك في الديانة الكوشية المروية وعبادة آمون، والمسيحية، والإسلام، كما يتمثّل ذلك في التبدّلات التي طرأت على لغة التفاهم بين المكوّنات السكانية، من كوشية مروية، إلى نوبية وافدة من الغرب، إلى عربية وافدة من الشرق والغرب.
النواة الصلبة للثقافة المحلية
وينبغي أن نشير، مع استصحاب ما سبق ذكره، إلى أن النواة الصلبة للثقافة المحلّية ظلّت متماسكة، وأن التحوّلات اللغوية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، ظلّت تحكمها قوانين التأثير والتأثّر، والأخذ والعطاء، ويمكن التمثيل لذلك من عدّة أوجه، نبيّنها فيما يلي من فقرات.
على مستوى اللغة: التأثير النوبي العميق في عربية وادي النيل، ليس على مستوى المفردات والمصطلحات فحسب، بل حتى على المستويات الدلالية والتركيبية والصوتية، فكلّ ما يتّصل بمستلزمات الحياة الحضارية المستقرّة، وما يتّصل بالنشاط الزراعي، في هذا الإقليم، يستعير مفرداته وأدوات تعبيره من النوبية، ويمكن التمثيل لذلك بأدوات الساقية وأدوات الزراعة والمسكن، نحو التكم والأروتّي والواسوق والعشميق والتقنت والكوروكي والتقاة والنوريق والكوريق والكوديق والإنقاية والألس والكشر والكبت والتدقية، كما يمكن التمثيل بأسماء المدن والقرى، نحو حسينارتي، بنقنارتي، كرمكول، أمبكول، منصوركتي...إلى آخر قائمة الألفاظ والمصطلحات النوبية. وعلى مستوى التراكيب اللغوية: بطن البيت وراس البيت وضهر البيت وصفحة البيت وخشم البيت، ومعروف أن البيت يتمثّل في الثقافة النوبية القديمة، كائناً حيّاً ذا رأس وبطن وظهر. وممّا يدخل في هذا السياق أن كثيراً من الصور والمجازات البلاغية والتراكيب والتعابير الاصطلاحية في العامّية السودانية، من نحو: قاعد ساكت، وبيتكلم ساكت، وقلبي أكلني، والكلام وقع لي، وغير ذلك، ممّا قد يجد تفسيراً وتأصيلاً في النوبية وغيرها من اللغات السودانية. وحسبنا لبيان التأثير النوبي في الصور الذهنية والتعابير البلاغية في عامّية أهل السودان، الإشارة إلى أبيات قالتها الشاعرة السودانية، كلتوم بنت محمّد الجابرية، في مدح الفارس نقد الله ود عمر:
أب كرّيق في اللجج
سدّر حبس الفجج
أنا أخوي مقلام الحجج
وأبو كرّيق هو التمساح تشبيهاً لما في ظهره بما في جذع النحلة من نتوءات "كرّيق"، وهي نوبية، أمّا بقيّة الكلمات فعربية واضحة المعاني، ولقد أحسن الأستاذ عبد الكريم الكابلي، حينما شرح للمذيعة العربية عبارة " مقلام الحجج" بأنها تعني "القويّ العارضة"، فكلاهما تعبير اصطلاحي مؤلّف من كلمات عربية، يعني قوّة الحجّة، على أن التعبير السوداني، على عربيته، الجلية الواضحة، صبّ في قالب بلاغي نوبي، يترجم الخصوصية الذهنية لمستعربة السودان النيلي.
كما تتجلى لنا ملامح التأثير النوبي أيضاً على مستوى الاستعارات الفنية والرؤى الجمالية، في ربط مفهوم الجمال بقيمة الخضرة والرواء ممّا لم نعهده في العربية، فصحى وعامّيات: "قصيبة المرنع السايقات قواديسك"،" أكان سوّيت غناك في عود، كان خدّر ملا الواطة"، "قصيبة السكّر النيّ"، و"لتميرة الفي جدولها، و"علّمت الغصون مع النسيم كيف تميل"، ولا تقتصر هذه النظرة الجمالية على مستعربة السودان النيلي، بل نجدها حيّة لدي البقّارة في جنوب دارفور ومن ذلك تغزّلهم في "فريع المنقة الضارب نواره". ومن تجلّيات ربط مفهوم الجمال والخير بالخضرة والرواء لدى أهل السودان وانفرادهم بذلك، نعتهم ألوانهم بالخضرة، فهو أخضر وهي خضراء، ودعاء بعضهم لبعض بأن يخضّر الله ذراعه: "يخدّر ضراعك".
وهذه القاعدة تنطبق إلى حدّ ما، ومع تفاوت في الدرجات، على المستويات اللغوية، تنطبق على المجموعات العربية الرعوية، من رعاة الإبل "الأبّالة"، في البطانة، حيث يلاحظ الأثر البجاوي العميق، في أنماط العيش وأدوات التعبير اللغوية، بل والفنّية، وأشعار الحاردلّو(1830-1916م) وود الفرّاش (1847-1883م) وغيرهم، تشهد بذلك، ليس على مستوى القاموس الشعري والصور البلاغية فحسب، بل وعلى مستوى الأوزان والبحور.
وقس على ذلك تأثير الفولاني على المجموعات العربية الرعوية "البقّارة" في حزام السافانا، فيما يتّصل بنمط العيش المتمثّل في رعي الأبقار وما يتّصل به من مصطلحات وأدوات تعبير لغوية خاصّة بألوان الأبقار وصفاتها، ومن أدوات فنية وممارسات اجتماعية تتمثّل في الحكّامة، شاعرة القبيلة، والهدّاي، شاعرها.
على مستوى الاعتقاد: ينبغي أن ننبّه إلى تأثير المعتقدات الكوشية والنوبية والمسيحية في مظاهر التديّن الإسلامي، ويبدو ذلك في تحويل الرموز والشارات الدينية القديمة إلى رموز وشارات وممارسات إسلامية، ويبدو ذلك أجلى ما يكون في الأضرحة والنذور ومؤسّسات التعليم الديني، ومن ذلك الاتّصال التاريخي لمؤسّسة الخلوة ( المسمّى السوداني للكتّاب القرآني)، بموائد الشمس الكوشية، وهي موائد الطعام التي كان ينصبها الأغنياء خفية في الليل، ليتحلّق حولها الفقراء عند شروق الشمس، ويصيبون فيها ما يسدّ الرمق ويهذّب العقول، ويتعلّمون القراءة والكتابة، كما ورد في تاريخ هيرودوتس الذي يرجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد.
ولا يخفى على الباحث المدقّق الصلة الوثيقة لنديهة الأولياء والصالحين، في الغناء وفي المديح، بالممارسات القديمة في الطقوس المسيحية والمروية الكوشية (يابا ود زمراوي الولي، شيخ منوّر وولدك علي ...خلّوا بالكن يا سيادي) ويدخل في هذا الباب كثير من الممارسات التي تندرج في إطار التصوّف، والتي تزدحم "طبقات ود ضيف الله" بتفاصيلها.
وممّا يدخل في هذا الباب اختلاف مظاهر التديّن، تبعاً لاختلاف البيئة الاجتماعية والاقتصادية، وأبرز ما يبيّن هذا التباين والاختلاف، النزعة الصوفية المسالمة للتديّن في وادي النيل، في مقابل النزعة الجهادية المقاتلة للتديّن لدى المجموعات الرعوية في سهول كردفان ودارفور، وهي النزعة التي وظّفها الإمام محمّد أحمد المهدي في ثورته في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي كما هو معلوم. روى العلّامة عبد الله الطيب، في "من نافذة القطار"، أن "بناحية أتبرة وليّ صالح يقال له عبد المعروف، له قبّة ظاهرة ...واستجارت بعبد المعروف أمة أيّام المهدية، كرهت جور سيّدها عليها أو أبقت، فجاء يناديها لتخرج وهي لا تجيب وهو لا يجسر أن يقتحم عليها البنيّة من خوف أن ينكبه عبد المعروف غيرة على حرمه، وجاء بقّاري له حصان وحربة فوجده على تلك الحالة فسأله فعلم من أمره، فدخل وأخرج الأمة صاغرة داخرة واشرأبّ الرجل ليشكر البقاري ويقود الأمة، فقال له البقاري: أنت عجزت أن تأخذها من هذا الميّت، أفتطمع أن تأخذها منّي أنا الحيّ!"
كما ينبغي أن نشير إلى تأثير الثقافات الكوشية والنوبية والمسيحية في العادات والممارسات الاجتماعية والتقاليد التي تتّصل بالأفراح والأحزان والمآتم والاحتفالات والتنشئة الاجتماعية، في السودان بوجه عامّ، وفي المجموعة الثقافية المستعربة على ضفاف النيل بوجه خاّص (الشلوخ والختان والمشاط، وألوان الطعام والشراب، ورمزية النيل وإيزوريس، إله الخصب، ورمزية الصليب، ورمزية العنقريب...إلخ..).
الاستعراب والأسلمة
ممّا يعين على فهم ما سبق، أنّ التحوّلات الثقافية الكبرى التي حدثت في السودان والمتمثّلة في التعريب والأسلمة، تمّت ببطء شديد وعبر مدّة زمنية طويلة نسبياً، استغرقت في مرحلتها الأولى الحاسمة نحو تسعة قرون، من القرن السابع الميلادي إلى القرن السادس عشر الميلادي، موعد قيام السلطنات الإسلامية في سنّار ودارفور وتقلي، وهو موعد متأخر نسبياً يجعل السودان ضمن آخر الأقاليم المنضوية تحت لواء العروبة والإسلام، مقارنة ًحتّى بدول الساحل الأفريقي، فمملكة مالي الإسلامية على سبيل التمثيل والمقارنة، تأسّست في القرن التاسع الميلادي، وبلغت أوج ازدهارها في القرن السادس عشر الميلادي، أي مع بدايات دارفور وسنّار، وحجّ أشهر سلاطينها منسي موسى إلى مكّة المكرّمة في 1324م، وبلغ من ثرائه وعظم ما أنفق في مصر، أن انخفض السعر العالمي للذهب في تلك السنة، وصنّفته إحدى المؤسسات الغربية مؤخّراً، فجعلته من بين أغنى أغنياء العالم، على مدى حقب التاريخ. وعلى المستوى الفكري والعلمي أنجبت مملكة مالي الإسلامية، لا سيّما في حاضرتها تمبكتو، عدداً من العلماء الذين ساهموا في إغناء الثقافة العربية الإسلامية، وتوطينها في بيئة أفريقية محلّية، من أمثال أحمد بابا التنبكتي (ت.1627م) صاحب "نيل الابتهاج بتطريز الديباج"، و"معراج الصعود"، و"المجلوب من السودان"، وعبد الرحمن السعدي(ت.1656) صاحب "تاريخ السودان"، إضافة إلى علماء سبقوا هؤلاء، من شاكلة محمود بن عمر أقيت (ت. 1548م).
أمّا الاستعراب، فواضح أن النوبية كانت لغة سكان وادي النيل حتى قيام حلف العبدلّاب والفونج، ثم كتبت الغلبة للعربية انطلاقاً من مراكز السلطنة السنّارية في سنّار والحلفاية، وهناك من الآثار والوقائع التاريخية ما يثبت أن ديار الركابية والبديرية كانت إلى عهد ليس بالبعيد تغلب عليها النوبية، ويمكن الاستدلال لذلك بحبيب نسّي الركابي المدفون في نواحي قشابي وقنتّي، قال عنه ود ضيف الله في الطبقات "حبيب نسّي الركابي، مسكنه في ضنقلة، قشابي، من أولياء الركابية وله كرامات كثيرة. وكان أهل دنقلة إذا تمنّى أحدهم يقول "اللهمّ ارزقني كرامات حبيب نسّي وعبادة دوليب نسّي وعلم ود عيسى"، ويبدو أثر النوبية في اسمه الذي يعني "الحفيد"، كما يبدو واضحاً من قصّته التي وردت في الطبقات أن النوبية كانت لغته الأمّ وأن العربية كانت لغة مكتسبة لا يستقيم بها لسانه! وبوسع المرء أن يزعم أن العربية قد غلبت اليوم على هذه القرى النوبية التي تقع على منحنى النيل، في أحواز مدينة الدبّة إلى جنوبي مدينة القولد، وقياساً على ذلك، فلن يمضي وقت طويل قبل أن يمتدّ التعريب شمالاً فيشمل دنقلة بأسرها وإقليمي المحس والسكّوت. وتجدر الإشارة هنا إلى أن دينامية التعريب والاستعراب ما تزال فاعلة على نطاق واسع في أقاليم السودان الأخرى وامتداداته الجغرافية في القارة الأفريقية، وحسبنا أن نشير، في هذا الصدد إلى أن لغة البرتي في شرق دارفور اختفت تماماً، بوفاة آخر المتحدثين بها في ستّينيّات القرن العشرين.
أما الأسلمة، فواضح عند قراءة طبقات ود ضيف الله أن اعتناق الإسلام اتخذ طابعاً متصالحاً مع مظاهر التديّن القديمة، فغلب النهج الصوفي المتسامح على النهج الفقهي الصارم، ويمكن التمثيل لذلك بما ورد في الطبقات من نزاع بين الشيخ محمد الهميم والقاضي دشين الذي سمّي قاضي العدالة لأنه فسخ نكاح الشيخ الهميم ,ذلك أنه في حال الجذب الإلهي زاد في نكاحه من النساء على المقدار الشرعي، وهو أربعة، وجمع بين الأختين فتزوج بنات أبو ندودة الاثنتين في رفاعة، وجمع بين بنات الشيخ بانقا الضرير كلثوم وخادم الله، فأنكر عليه القاضي دشين حين قدم الشيخ الهميم وحضر الجمعة بأربجي، فلما أراد الخروج من الجامع قبض القاضي دشين لجام الفرس وقال له: خمّست وسدّست وسبّعت في النساء ما كفاك حتى جمعت بين الأختين ، فقال له : ما تريد بذلك، قال أريد أفسخ نكاحك لأنك خالفت كتاب الله وسنّة رسوله، فقال له:" الرسول أذن لي بذلك والشيخ إدريس يعلم ذلك وكان الشيخ إدريس حاضراً، فقال الشيخ إدريس لدشين: اترك أمره وخلّه ما بينه وبين ربّه، فقال دشين: ما بهمل أمره وقد فسخت نكاحه، فقال الشيخ الهميم لدشين: "فسخ الله جلدك، فيقال إنه مرض مرضاً شديداً حتى تفسّخ جلده
كما يمكن الاستشهاد بسيرة إسماعيل ود المكّي الدقلاشي صاحب الربابة، وهو من صوفيّي سناّر وشعرائها، وأمّه اسمها خيرة، سقرناوية، أهداها للشيخ مكّي سلطان تقلي فحملت منه وولدت النور فقالت للدقلاشي: جانا شيخنا فقال لهم جاكم أخيّاً هديّاً رضيّاً. ثم حملت فولدت إسماعيل فقال لهم: يا دقالشة جاكم شيخكم. ويروي صاحب الطبقات أن الشيخ مكّي لمّا أخذه الجذب في حبّ الله ورسوله خرج هائماً وساق معه ولده النور، وإسماعيل في المهد قبل أن يتكلّم ووجدت العرب النور في الخلاء غرب الحرازة وجابوه، أمّا إسماعيل وقد كان في المهد، فقد تكلّم كما تكلّم عيسى وقال: " النور بيجي أبوي ما بيجي" وحفظ القرآن على الفقيه محمّد ولد منوفلي، خليفة ابيه الشيخ مكّي، وتعلّم الفقه والتوحيد على الشيخ مختار شارح الأخضري، وله شرح في تدريس الرسالة والتوحيد والقرآن. وله أشعار وقصائد في مدح النبي صلّى الله عليه وسلم، وكلام بيّن فيه صفات الأولياء، وألّف كتاباً في الطريقة وآداب الذكر، وله شرح على قصيدته في مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي: إني رأيت في منامي خير البريّة ضاحكاً مستبشراً. وممّا يروى عنه أنه كان في حالات وجد مستمرّ، يحضّر البنات والعرايس والعرسان للرقيص، ويضرب الربابة، كلّ ضربة لها نغمة يفيق فيها المجنون، وتذهل منها العقول، تطرب لها الحيوانات والجمادات. وفرسه بنت بِكر يشدّونها له ويلبّسونها الحرحر والجرس، وكان يعلن ولهه وتغزّله بالمحصنات، دون أن يثير ذلك الأمر سخطاً عليه، وكان مغرماً بتهجة الجعلية، ومما قاله متغزّلاً بها:
حرّ الفونج مرق..طالب الدبيبة
قميصه للتراب...حاقب له عيبة
خشم تهجه الشبيه لبن الكشيبة!
ثقافة متعدّدة المكوّنات
لا يمكن لأيّ باحث موضوعي أن ينكر الدور الكبير والحاسم الذي اضطلعت به الثقافة العربية الإسلامية في تشكيل وجه السودان الحديث، ويمكن مقارنة السودان في ذلك بمعظم البلدان العربية، في هذا الجانب، مع التنبيه إلى أن الاستعراب أو التعريب الذي عرفه السودان، وسائر الأقطار العربية، هو استعراب ثقافي قبل أن يكون استعراباً عنصرياً، ونشير في هذا الصدد إلى أن جيش الفتح الإسلامي الذي اتّجه إلى مصر وما وراءها من بلاد المغرب، لم يتجاوز في عدده الستة آلاف جندي. وبالجملة، فإنّ الاستعراب نتج في المقام الأوّل لدواع وظيفية ترتبط بالثقافة والإدارة والسياسة. كما يمكن أن تستخلص ممّا سبق ذكره أننا أمام ثقافة سودانية متعدّدة المكوّنات، مركّبة التضاريس، متميّزة في خصائصها وملامحها، وأن النواة الصلبة المؤسّسة لهذه الثقافة، إن هي إلّا نتاج مكوّنات محلّية في المقام الأوّل.
يجدر بنا في خاتمة هذا المقال، التنبيه إلى أن حركة التبادل الثقافي والاجتماعي والحراك البشري المشكّلة للهوية السودانية، ظلّت عبر التاريخ تتّجه في محور شرقي –غربي، وأن الوجدان السوداني المتمثّل في الذائقة السودانية، من موسيقى وألحان وإيقاعات وقوالب شعرية وزينة عطور وشارات وأزياء وطعام وشراب، إن هو إلّا نتاج تاريخي لهذا المحور الشرقي الغربي، يتّجه باتجاهه، ويتّسق معه، ويتفاعل معه. ومع ذلك فإن هذا المحور الشرقي الغربي لم يحظ بالرعاية اللازمة، ولابّد من إيلائه الاعتبار اللازم عند التخطيط الثقافي والاجتماعي والسياسي. وثمّة إضافة نراها مهمّة للغاية فيما يتعلق بدولة كوش والتاريخ القديم، لا بدّ من النظر بموضوعية للأمر، وينبغي ألّا ننكر أن المناهج الدراسية والرسائل الإعلامية والثقافية والتربية الاجتماعية والسياسية التي نشأ عليها جيل ما بعد الاستقلال، كلّها تقوم على انحياز واضح وتهميش للإرث الثقافي والاجتماعي العميق، الوافر الغنى والثراء والعطاء، الموروث من كوش ومروي والعهد المسيحي، قبل وفود المؤثّرات العربية الإسلامية وما صاحبها من تحوّل ثقافي واجتماعي، ولا بدّ من الاعتراف بأن هذه المؤثّرات بقدر ما أضافت من جوانب إيجابية، فقد كان لها بالقدر نفسه جوانب سلبية تتمثّل في تقهقر النموذج الاجتماعي المتطوّر، إلى نموذج قبلي تجاوزه المجتمع النوبي الكوشي منذ حقب ضاربة في القدم. وهذا مجال واسع للبحث لا بدّ من التنقيب فيه بتفاصيله وتبيّن الرؤية فيه. وبالجملة، فكما أنّ هناك تهميشاً جغرافياً واجتماعياً تشكو منه فئات ذات شأن في المجتمع السوداني، هناك أيضاً تهميش ثقافي وحضاري لجزء من تاريخ السودان لا بدّ من الالتفات إليه، والاعتراف به، بل والافتخار به. وفي اعتقادنا أن الاستعراب الذي غيّر وجه المجتمعات السودانية وبلغ أوجه في دولتي سناّر ودارفور اصطبغ بصورة عميقة بالبداوة والنكوص عن التطوّر الاجتماعي الذي حقّقته المجتمعات المحلّية في النوبة ومروي وكوش وغيرها، ومن آيات ذلك أن المرأة كانت في هذه المجتمعات القديمة هي "الكنداكة"، أي الملكة، و"الميرم"، أي الأميرة، التي تكاد تحصر أدوات اتّخاذ القرار في يدها، واﻷمثلة في التاريخ وافرة. وبالجملة، فإن الاستعراب البدوي والافتخار بما نسمّيه "قيم" البادية العربية هو ما ينبغي أن ننظر فيه بعمق وعين فاحصة وناقدة.

د. مصطفى أحمد عليّ
أستاذ جامعيّ متخصّص في اللسانيّات والتراث




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى