د. كاميليا عبد الفتاح - الفعل الثقافي والماهيات المجتمعية .

بدأ شيوعُ مفردة " الثقافة " في روسيا – أولا – في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، ثم انطلقت منها إلى ألمانيا والنمسا ، وغيرهما من الدول الأوروبية ، أمَّا في المجتمع العربي ، فقد أسندَ الأستاذ سامي خشبة إلى الدكتور طه حسين أمرَ استعمالها وتداولها ، وذلك بعد أن صاغها سلامة موسى في عشرينيات القرن العشرين 1)
وإنَّ تأمل دلالة الأصل اللغوي لهذه المفردة – التي طُرحت مرارًا في كثير من الدراسات - و ارتباط جذرها الّلغوي بتثقيف السيف والرمح - في القاموس العربي – و تعلقها بمعنى الزراعة وتربية النبت – في الأصل الإنجليزي - يدفعُنا إلى تأمل ما تختزن من دلالات الإنماء ، والعنفوان والقوة التي انتقلت من الأصل المادي إلى مجال الفكر والرؤى ، حتى ذهبَ إليوت إلى أنَّ " الثقافة يمكنُ أن توصفَ وصفا مختصرا بأنها ما يجعلُ الحياةَ تستحقُ أن تُحيا ، وهي التي تجعل الشعوبَ والأجيالَ على حقٍّ حين تقولُ وهي تتأمل آثار مدينة بائدة : إنّ هذه المدينة كانت تستحقُ أن تُوجدَ . "2 )
****و من المدهش أن نجدَ ما يشبه الاتِّساقَ بين دلالات مفردة الثقافة في طرح أكثر من بيئة علميّة ، فقد طرحها " تايلور " في كتاب الثقافة البدائية - من منظور أنثربولوجي - دالًّا بها على جملة المعارف والمعتقدات والأخلاقيات والأعراف والفنون التي يكتسبها الإنسان باعتباره فردا ضمن المجتمع 3) مُتفقًا في ذلك مع سيسيولوجيا المعرفة التي طرحتْ مفهومها للثقافة - في دليل علم الاجتماع Handbook of Sociology لمؤلفه نيلين جيه سميلسر باعتبارها عملية اجتماعية ، يُدركُ من خلالها الأفرادُ حقيقة عالمهم وأبعاد هويتهم و أُطرَهُم العقيدية والقيمية 4) وعلى الرغم من انبثاق مفهوم الثقافة عند ماثيو آرنولد من نقده للطبقات الاجتماعية ، إلَّا أنَّ التمعن في قراءة كتابه " الثقافة والفوضى " يؤدي بنا إلى ملاحظة انسجام رؤيته لها مع الرؤى السابقة ، حيثُ تضطلعُ الثقافةُ في رأيه بمساعدة الفرد على السمو فوق نقيصته الطبقية ، وتحقيق كماله الفردي 5)
لقد طُرحت مفردة الثقافة في السياقات السابقة – وغيرها - باعتبارية دلالية عملية ، أي بوصفها دالةً على القيم والأفكار والرؤى المُترجمة إلى سلوك عملي ، يدفع إلى التغيير والحِراك المجتمعي - والإنساني -الإيجابي .
*** ويُعدّ ت . س . إليوت من أوائل المؤسسين - و المناصرين للمفهوم ( العملي ) للثقافة - كما يؤكدُ كتابُه القيّم " ملاحظات نحو تعريف الثقافة " - إلى الحد الذي دفعه إلى تأكيد تغلغل الثقافة في مناشط الحياة اليومية الصغيرة العابرة ، التي ضرب لها أمثلة متباينة ، منها : مباريات الكرة ، موسيقى الجاز ، الكرنب المُشرّح المسلوق ، كنائس القرن التاسع عشر القوطية ، مؤكدا أنَّ الشعوب لا تحتاجُ فقط إلى طعام يكفيها ، بل تحتاج أيضا إلى طريقة خاصة مناسبة لطهوه ، بما يعدُّ تمظهرا للثقافة 6 )
•**** المثقفون وعلاقاتهم بمجتمعاتِهم .
إنَّ علاقةَ المثقفين بمجتمعاتهم علاقةٌ تبادليةٌ تفاعلية ، فالمثقفُ يؤثرُ في مجتمعه بما يمنحُ من وعيه المُطّرد ، الذي يُسهم في تحديد مسارات هذا المجتمع ، ونقله نقلةً نوعيةً على صعيد الوعي المعرفي والثقافي إلى الدرجة التي تصلُ بهذا المجتمع إلى القدرة على تقدير مثقّفيه ، والاحتفاء بهم . إنَّ كلًّا من المثقف والمجتمع ذاتٌ فاعلةٌ مؤثرة ، متأثرة بالآخر مشتبكة معه – إيجابيا - من خلال الفعل الثقافي .
المثقفون أفرادٌ متميزون وذواتٌ فاعلة في مجتمعاتهم ، لا بما يحملون من المعرفة والعلم - فقط – بل بما استأثروا به من نواتج العلم و المعرفة ، وعلى رأسها : الوعي ، وهم في طرح جيل الرواد من نقادنا المعاصرين : طه حسين ومندور والعقاد وهيكل – وغيرهم – الفئةُ التي تميزت - من خلال العلم والمعرفة العميقة – والخبرات المجتمعية – بدرجة عالية من الوعي منحتها القدرة على تحديد مشكلات الواقع القائم ، و تقديم تصوراتٍ فكرية عن أصوله ومساراته ، وبدائله الأكثر إشراقا 7) . وهم في طرح " تورجنيف أولئك المتعلمون الذين يشكّون في كل القيم المستقرة السائدة باسم العقل ، ويرغبون في تغييرها باسم التقدم " 8 ) ،
أمّا علم الاجتماع الثقافي المعاصر فيصف المثقفين بأنهم فئةٌ لا تحمل النواتج المعرفية والفكرية لمراحل التاريخ السابقة عليها ، بل تتميزُ بقدرتها على إنتاج المعرفة وإبداع الفكر الخاص بها . وإنّ هذه الرؤى لتتسق مع قدرة المثقفين على الاضطلاع بـما أُطلقُ عليه : الفعل الثقافي ، وهو – في رؤيتي - فاتحة كل الأفعال التي تنحو بالمجتمع صوب التغيير للأفضل .
الثقافة لا تنحصر في جزئها المعرفي – أو العلمي – أو في المُكتسَب من الوعي والخبرة - بل إنها تتسعُ باشتمالها على عنصر روحاني يتمثلُ في السلوك ، ورهافة الحس ، وحساسية التلقي للفنون والإبداع ، وامتلاك نصيبٍ كاف من المهارات العقلية ، والتميز الفكري . وهذه المناشط الثقافية لا تتأتَّى مجتمعة في فردٍ واحدٍ ، فالفرد في رأي إليوت – الذي نتفقُ معه - لا يبلغ درجة الكمال الثقافي 9)
ويحفلُ التاريخُ الإنسانيُّ بأمثلةٍ تدل على أنّ تأثير الفعل الثقافي لا يتوقفُ تأثيره على كون فاعله فردًا أو جماعة ، بقدرِ ما يتوقف على مدى قوة الفكرة المؤثرة ، أو قوة المبدأ الثقافي الذي يحملُه هذا الفرد ، أو تلك الجماعةُ . ويحتفظُ التاريخ بدورات من الحِراكِ الثقافي تُنسبُ لهذا – أو لذاك - من أفراده المتميزين ، بما يؤكدُ ما أشار إليه إليوت من أنَّ التوترَ – الخلَّاق - داخل المجتمع - بأسره - قد يتمثلُ في التوتر داخل عقل الفرد الأكثر وعيا بذلك " 10) ، وتزدادُ أهمية هذا الفرد حين تضطلعُ الطبقةُ المجتمعية - التي ينتسبُ إليها – بهذا الحراك الثقافي ، بما يدعم رأي – كثيرٍ من - المهتمين بالمسألة الثقافية – ومنهم الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي – في تأكيد أنَّ الثقافة عمليةٌ مجتمعية ، ومسيرة إنسانية ، و سيرة الجماعة الإنسانية و صورتُها ."11 )
•#### دور الطبقات المجتمعية في الحِراك الثقافي .
ورغم اختلاف العلماء حول كثيرٍ من التفاصيل المتعلقة بهذه المسألة ، إلّا أنَّ اتّفاقًا تمَّ بينهم يؤكدُ دلالة الثقافة على الطبقة المجتمعية ، وانسجامها مع رتبة الطبقة واهتماماتها المختلفة . و تبرزُ " النُّخبة " Elit ، أو " الصفوة " ، باعتبارها مسئولة عن " الإمداد الثقافي " لمجتمعها ، بما يمنحها الحقَّ في أن تحظى بسلطاتٍ معنوية ومادية ملموسة ، تُمكنها من التأثير الإيجابي في المجتمع وترقيته ثقافيا .
ويؤدي هذا بدوره إلى القول بأن فراغ المجتمعات من فئةِ الممتازين - الذين يكفلون لها تميزها الثقافي والعقلي - يُحدثُ فراغًا هائلا لا تملؤه إلّا مشكلاتُ التخلف – كما في فترات الحرب والاضطرابات والتحولات السياسية العنيفة - فالصفوة فئة ٌ لها عدة أنماطٍ ، لكل منها دورُه البارز في خلاص المجتمعات التاريخي والحضاري ، من ذلك : النمط السياسي ، والمنظِّم ، والمفكِّر ، والفنان ، والأخلاقي ، والديني ، ويشيرُ إليوت إلى أنَّ وظيفةَ الصفوات المفكِّرة والفنانة والأخلاقية الدينية هي التّسامي بتلك الطاقات الروحية التي لا يستنفذها المجتمعُ في الصراع اليومي من أجل البقاء " 12) ، ولذلك يبدو من المهم – لكل مجتمع يتطلعُ إلى الترقي – تهيئة المناح للصفوة لتكون طبقةً مجتمعية كاملة ، وألّا تكون مجرد مجموعة من الممتازين . كما يبدو من المهم ألَّا يحدث انقطاعٌ في الحوار بين صفوات المجتمع ، حتى لا تتبددُ جهودها ، ويتشتتُ أثرُ فعلها الثقافي . ويمكنّا القول – من خلال هذه الملاحظات – أنَّ الثقافة نتاجٌ مجتمعي ، وأنها – في الوقت ذاته – صانعةُ المجتمعات .
•### الثقافة : هل هي ماهيات مجتمعية ثابتة !
ذهب صمويل هنتنجتون - و بعضُ المفكرين والفلاسفة المنادين بسيادة الثقافة الغربية ومركزيتها - إلى أنَّ الثقافة ماهيةٌ ثابتة تحددُ وضعيةَ حامليها - أفرادا ومجتمعاتٍ – مثلما تحددُ الجيناتُ الوراثية السماتِ الفارقة لصاحبها . وقد أثار هذا الرأيُ جدلا ومعارضةً كبيرين ، لأنَّه يقضي ببقاء المجتمعات المتقدمة – والمتخلفة – في وضعيتها الثقافية الحاصلة – دون تغيير – بما يعني أنه ليس أمام المجتمعات المتخلفة ثقافيا إلَّا الرضوخ للأقوى والأكثر تقدما . 13) . وقريبٌ من هذا المنحى ما ذهبَ إليه بعضُ الفلاسفة وعلماءِ النفس – والاجتماع – من إلحاق مسألة التطور الثقافي للمجتمعات بقانون تطور الأنواع لدارون ، فأعلن " سكينر " أنَّ السيادةَ – في ميدان الصراع الثقافي - للأقوى ، قاصدا – في ذلك - الثقافة الأنجلوساكسونية والأمريكية 14)
وقد تصدَّى لهذا الاتجاه – المؤدلج - فريقٌ مغاير تبنّى مبدأ إمكانية التطور الثقافي للمجتمعات بما يتلاءمُ و حضارة العصر ، ويعد" دييتر سنغاس " مثالا لهذا الفريق ، الذي عارض فكرة ثبات الماهية الثقافية للمجتمعات مؤكدا أنَّ مظاهر التخلف الثقافي ليست حكرا على مجتمعٍ دون آخر في التاريخ ، 15 ) وأنّ خلاص المجتمعات ماثلٌ في ما أسماه " فلسفة الحوار التفاعلي بين الثقافات " ، والتي تعني ضرورة قيام كل مجتمع بمراجعة موروثه الثقافي مراجعة نقدية بحثا عن عوائق تقدمه 16)
•#### النزعة الثقافية.
اتخذتْ الثقافةُ مؤشِّرا لقياس موضع المجتمعات من التقدم و النهضة بما أُطلق عليه " النزعة الثقافية " ، وهو مصطلحٌ يعود ظهوره إلى القرن الثامن عشر الميلادي 17) ، وتشتمل النزعةُ الثقافية في ذاتها على ما يُسمى – في طرح النقاد – العامل الإنساني ، وهو المثقَّف ، فضلا عن المحتوى الثقافي في أي صورة كان : نصوصا ، رموزا ، لوحاتٍ ، مضمونا ، إشاراتٍ تراثية .
وإنَّ هذه الوضعية كفيلة برفع قيمة العامل الثقافي ، إلى حدٍ يُصبحُ فيه هذا العاملُ طابعا شخصيًّا دالا على المجتمعات ، مميزا لبعضها عن البعض ، وهذا بدوره يدفعُ إلى تقدير قيمة الاحتكاك - والتأثر والتأثير – بين المجتمعات ، حيثُ يُقاس الدور الثقافي للشعوب بقدرتها على الإنماء ، وإمداد غيرها بمقومات الاستمرار ومواجهة الفناء والتلاشي .
•#### التحولات الثقافية للمجتمع .
تنتقلُ المجتمعات من طورٍ ثقافيٍ إلى آخر عبر عدة طرق ، أبرزها : التحول بتأثير ثقافة قوية مغايرة ، أو بتأثير ثورة ثقافية . و الاحتكاك بالمغاير الثقافي ، هو الدافع الأكثر تحريضا ، لأنّه تلاقح بين العقول المتباينة والمناهج المختلفة – أو المتعارضة – في النظر إلى الحياة .
وقد مثّلت الحداثةُ الغربية ضغوطا للمجتمعات المغايرة ، وتحديا لهوياتها ، حيث بدت خطرا ماثلا في تصور – بعض – هذه المجتمعات ، بينما بدتْ للبعض الآخر مشروعا ثقافيا جاهزا ، موثوقا في اكتماله وقدرته على نقلها إلى طور مدني – وحضاري – مكتمل ، بما يُمكنُها من اللحاق بدول العالم الأول ، بعيدا عن مغامرات التقدم مجهولة العواقب .
و في كل حال ، أصبح من الضروري أنْ تنظر مجتمعاتنا إلى مشروع الحداثة الغربي بصفته أحد الخيارات المطروحة أمامها - للتحول الثقافي - مقابل الخيارات الأخرى ، ومنها - ما يُطلق عليه - العودة إلى التراث ، ومنها : المزاوجة بين معطيات التراث و ثقافة الآخر ، وهناك الخيار الرابع الذي طرحه " دييتر سنغاس " – في كتابه الصدام بين الحضارات " - وهو : الابتكار ، ويعدُّ خيارا مرهونا بالظروف المحيطة 18 )
•#### الثورة الثقافية .
هي التحول داخلي ، الذي ينبثق من أرض المجتمع ، ومن مادته التي انطوت على الحاجة إلى التحول والتطور و عجز المناخ الثقافي السائد عن الاضطلاع بحاجات الراهن : مساءلة وإشباعا وتفجيرا للإبداع والتنوير الفكري . وقد يقفُ وراء هذه الثورة فئةٌ من ممتازي العقول الذين يتقدمون على بقية المجتمع بقدرتهم على قراءة الراهن واستغواره ، واستشراف القادم من خلاله ، ومثل هؤلاء جديرون بتجديد جسد مجتمعاتهم من خلال فعلهم الثقافي الذي لا يتمُّ إلا من خلال الارتكاز على عدة دعائم ، من بينها : التدرج في تحقيق الأهداف - وفي الانتقال من مرحلة إلى أخرى - تجنب الصدام مع السائد - ما أمكن - والاهتمام بطرح البديل قبل مساءلة السائد - والنزوع إلى تغييره - أمّا أهم هذه الدعائم ، فهي التمسك بالقيمٍ و والمرتكزات الجوهرية التي تكفلُ الحفاظ على السمت الخاص للمجتمع ، و على ما يميزُ جوهره عند انتقاله إلى طورٍ جديد .ا





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى