مقتطف شريف محيي الدين إبراهيم - القتال بين الصحابة الفتنة الكبرى

بعد أن تولى علي الخلافة ، حرصًا على وَحْدة الأمة، رأى وقتها: أن الذين قتلوا عثمان هم المسيطرون، على الأمور في المدينة، ولو شرع في تنفيذ القصاص منهم، لانقلب كل هؤلاء على أهل المدينة قتلاً وتمثيلا، لذلك قرر تأجيل القصاص حتى تستقر الأمور ، ويرجع أهل الفتنة إلى بلادهم.
وكان العديد من الصحابة مع علي رضى الله عنه في رأيه، ولكن ثمة مجموعتين لهما رأي مخالف!!
فكان أفراد المجموعتين يرون وجوب القصاص الفوري من قتلة عثمان رضى الله عنه، وقد كان الفريق الأول يضم السيدة عائشة، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام رضوان الله عليهم .
أمَّا الفريق الثاني فكان يضم معاوية بن أبي سفيان والي الشام ، الذي يعتبر نفسه ولي دم عثمان ، لأنَّه قريبه .
أرسل علي رضى الله عنه إلى معاوية يبلغه ببيعة المسلمين له، ويطلب منه ومن أهل الشام البيعة، ولكن معاوية، أرسل إليه يطلب منه أن يقتص أولاً من قتلة عثمان ثم يبايعه، أو أن يُخَلِّي علي رضى الله عنه بين معاوية وأهل الشام وبين قتلة عثمان ليقتصوا منهم، ويكون الأمر بعيدًا عن الخليفة؛ فلا يتحمل مسئوليته أمام أهل الفتنة، ثم يبايع معاوية وأهل الشام عليًّا بعد ذلك.
ولكن عليًّا رفض هذه العروض، واعتبر ذلك عصيانًا من معاوية ، فقرَّر عزله عن الشام، وأرسل( سهل بن حنيف) واليًا جديدًا، ولكن أهل الشام ردُّوه إلى المدينة.
فقرَّر الإمام علي أن يخرج بجيشه إلى الشام وذلك لتأديب معاوية ومن معه لرفضهم السمع والطاعة .
في الحقيقة أن معاوية نفسه كان يرى أنه ليس عليه وزر،و ليس على من معه أي حرج ، فهو وأهل الشام لم يبايعوا عليًّا رضى الله عنه بعدُ، لذا لا ينطبق عليهم حكم الخارجين على أولى الأمر، فكان يضع الإثم علي الإمام علي وجيشه إذا اعتدوا عليهم، وفي هذه الحال وجب التصدي لهم، ونجد أن معاوية كان يود ألا يبدأ الحرب وإنما ينتظر كي يرد العدوان بصفته يدفع عن نفسه وقومه الأذى ،فإذا هاجمهم على صار عدوا لهم وجب التصدي له وهي وجهة نظر يجب الالتفات إليها.
و بينما علي رضى الله عنه يستعد للخروج إلى الشام، وجد أن الفريق الثاني -الذي يضم السيدة عائشة والزبير وطلحة- قد خرج إلى البصرة؛ فقد رأى هؤلاء الصحابة أن عليًا قد تقاعس في أخذ القصاص ، ووجدوا في أنفسهم القدرة على ذلك؛ ومن ثَمَّ قرَّروا الخروج إلى البصرة لتنفيذ القصاص في قتلة عثمان، كان ذلك في شهر جمادى الآخرة سنة 36هـ
فقرر على بدلاً من المسير إلى أهل الشام أن يتجه إلى البصرة بجيشه ليرد هؤلاء الصحابة إلى المدينة، رغم نصيحة ابنه الحسن بعدم الذهاب؛
وفي البصرة خرج الوالي التابع لعلي رضى الله عنه، لما علم بمقدم أصحاب الجمل وقاتلهم، فقاتلوه، وانتصروا عليه، ولما نزل على بذي قارٍ، دعا القعقاع كي يرسله إلى أهل البصرة،وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – وطلب على منه على أن يدعو طلحة والزبير إلى الألفة والجماعة،و يعظم عليهما الفُرقة.
فخرج القعقاع حتى قدم البصرة، فبدأ بعائشة فسلّم عليها وقال: أي أمة، ما أشخصك؟
وما أقدمك هذه البلدة؟
قالت: أي بُنيَّ، الإصلاح بين الناس.
قال: فابعثي إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما.
فبعثت إليهما، فجاءا، فقال لهما: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها، فقالت: الإصلاح بين الناس، فما تقولان أنتما، أمتابعان أم مخالفان؟
قالا: متابعان.
قالت عائشة: فماذا تقول أنت؟
قال:
إن هذا الأمر دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة، ودرك بثأر هذا الرجل، وعافية وسلامة لهذه الأمة، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شر وذهاب هذا المال، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم، ولا تعرضونا للبلاء فتعرضوا له فيصرعنا وإياكم.
وايم الله، إني لأقول هذا القول وأدعوكم إليه!
وإني لخائف أن لا يتم حتى يأخذ الله حاجته من هذه الأمة التي قلَّ متاعها، ونزل بها ما نزل، فإن هذا الأمر الذي حدث أمر ليس يقدر، وليس كقتل الرجل الرجل ولا النفر الرجل ولا القبيلة الرجل.
قالوا:
قد أصبت وأحسنت فارجعْ، فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر.
فرجع إلى عليٍّ فأخبره فأعجبه ذلك، وأوشك القوم على الصلح.
***.
استبشر المسلمون خيرًا بهذا الصلح، ولكنه -في الوقت ذاته- كان وبالاً على أهل الفتنة ، فاجتمع عدد كبير منهم : علباء بن الهيثم، وعدي بن حاتم وسالم بن ثعلبة القيسي، وشريح بن أوفى والأشتر، وابن السوداء وخالد بن ملجم ، فتساءلوا في ريبة :
ما الرأي؟
وهذا علي وهو والله أبصر بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول، ولم ينفر إليه سواهم والقليل من غيرهم، فكيف به إذا شام القوم وشاموه، ورأوا قلتنا في كثرتهم؟!
انتهى الاجتماع المشئوم باتفاق خبيث صاغه رأس الفتنة عبد الله بن سبأ اليهودي، إذ قال:
يا قوم، إن عزكم في خلطة الناس، فإذا التقى الناس غدًا فأنشبوا القتال بينهم.
، فخرجوا متسللين في الظلام، ثم اندسوا، بين أفراد الجيشين، فوضعوا فيهم السلاح، فثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين أتوهم،وظن جيش علي رضى الله عنه أن أصحاب الجمل قد خانوه، كما ظنَّ جيش الجمل نفس الظن بجيش علي رضى الله عنه، فاشتعل القتال، ولكن عليًّا رضى الله عنه كان حريصًا على إنهاء المعركة سريعًا ، لذا لما وجد جيش الجمل يدافع باستماتة عن الجمل الذي تركبه السيدة عائشة رضي الله عنها -وبه سُمِّيَت المعركة - أمر جنوده بعقر الجمل لكي تخمد عزيمة المدافعين، وتنتهي المعركة.
أثناء المعركة، أدرك الزبير عاقبة ما يحدث من تناحر بين المسلمين، فترك ساحة المعركة عائدًا إلى المدينة، فتعقبه رجل ممن كانوا معه يُدعى عمرو بن جرموز، فقتله وهو يصلي.
وقد قُتِل أيضًا طلحة بن عبيد الله.
ولم يتبق من ثلاثتهم سوي السيدة عائشة رضي الله عنها، فأرسل على معها أخاها محمد بن أبي بكر، لتوصيلها إلى المدينة.
قيل "أنه قُتِل في ذلك اليوم ثلاثون ألفًا" و لكن اعتبر البعض أن في هذا مبالغة،وذلك لقصر وقت المعركة.
بعد موقعة الجمل قرَّر أمير المؤمنين علي رضى الله عنه اتخاذ الكوفة عاصمة له بدلاً من المدينة،وجعل يحاول توطيد أمر الخلافة في الولايات المختلفة.
يقال أنه لم يكن في نفس معاوية شيء من العداوة لعلي رضى الله عنه،ولم يكن يرغب في محاربته، وإنما هو اجتهاد شخصي يرآه صوابًا .
ومما يؤكد ذلك أن معاوية لم يشارك مع أصحاب الجمل في الحرب، رغم أنه على نفس رأيهم .
قرَّر أمير المؤمنين علي أن يتحرك لقتال أهل الشام؛ ليلزمهم بالبيعة والطاعة، فنصحه الحسن ابنه بالنكوص، و كانت تلك هي النصيحة الثانية من الحسن ولكن أمير المؤمنين أصرَّ على رأيه.
اتجه على بجيشه إلى النخيلة قريبًا من الكوفة وعسكر بها؛ لتوافيه جنود البصرة بقيادة واليها عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، ثم توجه إلى صِفِّين على شاطئ الفرات الغربي؛ فخرج إليه معاوية ومعه جيشه.
كانت القبائل في كلٍّ من العراق والشام قد انقسمت في سكناها إلى قسمين أيام الفتوح، فمَن فتح الشام استقر فيها، ومن فتح العراق، وفارس استقر فيها كذلك، وكلا القسمين ظل يحتفظ بصلات أرحامه،لذلك بعد وصول الجيشين إلى صفين، أخذت الرسل تتوالى بينهما بغية حقن الدماء ، ولكن لم يتم التوصل لحل يرضي الطرفين.
والأمر العجيب أن جند معاوية كانوا يستنكرون قتال علي بن أبي طالب، حتى أنهم قالوا له :
لماذا تقاتل عليًّا وليس لك سابقته ولا فضله ولا صِهْره، وهو أولى بالأمر منك؟!
والأمر الأعجب هو اعتراف معاوية لهم
بذلك وعدم إنكاره بعظمة ومكانة على رضى الله عنه، لكنهم في النهاية قاتلوا مع معاوية لعلمهم أن عسكر عليٍّ فيهم رجال ، ممن قتلوا عثمان بن عفان، وقد يعتدون عليهم كما اعتدوا على عثمان.
والحقيقة أن جيش الكوفة لم يكن طوعًا كاملا لأمير المؤمنين علي، فقد كان في جيشه بالفعل عدد كبير من أهل الفتنة، وممن قتلوا عثمان ، ولم يكونوا يدينون لعلي رضى الله عنه بالطاعة، وإن تظاهروا بذلك .
ومن أهم أحداث موقعة صفين استشهاد الصحابي الجليل عمار بن ياسر، رضى الله عنه الذي كان يحارب في صفوف أمير المؤمنين علي رضى الله عنه؛ وقد قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وَيْحَ عَمَّارٍ!
تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
لذلك فقد أظهر استشهاده حقيقة الموقف بين الفريقين؛ فبين أن معاوية ومن معه هم الفئة الباغية .
وقد قال عمار رضى الله عنه نفسه: "حدثني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أني لا أموت إلا قتلاً بين فئتين مؤمنتين.
وفي هذا تأكيد على أن معاوية ومن معه، فئة باغية، ولكنها مؤمنة، ولا ينبغي مساوتهم بقتلة عثمان الذين اتفقوا على الضلال، والفتنة بغية هدم الأمة الإسلامية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى