مقتطف الفتنة الكبرى _ رفع المصاحف على الرماح

قام الأشعث بن قيس الكندي، لمَّا اشتد القتال يخطب في قومه( أهل الكوفة)فقال :
قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ فما رأيت مثل هذا اليوم قَطُّ!!
ألا فليبلغ الشاهد الغائب، أنَّا إنْ نحن تواقفنا غدًا إنه لفناء العرب وضيعة الحرمات.....
أما والله ما أقول هذه المقالة جزعًا من الحتف، ولكني رجل مسنّ أخاف على النساء والذراري غدًا إذا فنينا، اللهم إنك تعلم أنى قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آلُ، وما توفيقي إلا بالله.
فلما علم معاوية بخطبة الأشعث قال: أصاب ورب الكعبة، لئن نحن التقينا غدًا لتميلن الروم على ذرارينا ونسائنا، ولتميلنَّ أهل فارس على نساء أهل العراق وذراريهم، وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنُّهى؛ اربطوا المصاحف على أطراف القَنَا.
فنادي أهل الشام في سواد الليل:
يا أهل العراق، مَن لذرارينا إن قتلتمونا، ومن لذراريكم إن قتلناكم؟ اللهَ الله في البقية.
فأصبح أهل الشام وقد رفعوا المصاحف على رءوس الرماح وقلدوها الخيل، ورفع مصحف دمشق الأعظم تحمله عشرة رجال على رءوس الرماح، ونادوا: يا أهل العراق، كتاب الله بيننا وبينكم.
وأقبل أبو الأعور السلمي، وقد وضع المصحف على رأسه ينادي:
يا أهل العراق، كتاب الله بيننا وبينكم.
فقال الأشعث لأمير المؤمنين:
أجب القوم إلى كتاب الله، فإنك أحق به منهم، وقد أحب الناس البقاء وكرهوا القتال.
فقال عليٌّ رضى الله عنه: إن هذا أمر ينظر فيه.
وذكروا أن أهل الشام جزعوا فقالوا:
يا معاوية، ما نرى أهل العراق أجابوا إلى ما دعوناهم إليه، فإنك قد أطمعتهم فيك.
فدعا معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص، وأمره أن يكلم أهل العراق؛ فأقبل حتى إذا كان بين الصفين نادى:
يا أهل العراق، أنا عبد الله بن عمرو بن العاص، إنها قد كانت بيننا وبينكم أمور للدين والدنيا، فإن تكن للدين فقد والله أعذرنا وأعذرتم، وإن تكن للدنيا فقد والله أسرفنا وأسرفتم، وقد دعوناكم إلى أمرٍ لو دعوتمونا إليه لأجبناكم، فإن يجمعنا وإياكم الرضا فذلك من الله؛ فاغتنموا هذه الفرجة.
وأمَّا الأشتر، فلم يكن يرى إلا الحرب؛ لأنه من أهل الفتنة، ولكنه سكت على مضضٍ، وذكروا أن الناس ماجوا وقالوا: أكلتنا الحرب، وقتلت الرجال.
***.
لقد توج رفع المصاحف بموافقة أمير المؤمنين علي رضى الله عنه؛ إذ قال: "نعم بيننا وبينكم كتاب الله، أنا أولى به منكم، وتم الاتفاق على التحكيم، و اختيار حكم عن كل فريق؛ فاختار معاوية عمرَو بن العاص ، واختار عليٌّ أبا موسى الأشعري رضى الله عنهما، وتم كتابة وثيقة التحكيم في 13 من صفر سنة 37ه ، جاء فيها :
أنا ننزل على حكم الله وكتابه، فما وجد الحكمان في كتاب الله فهما يتبعانه، وما لم يجدا في كتاب الله فالسنة العادلة تجمعهما وهما آمنان على أموالهما وأنفسهما وأهاليهما، وأن الأمة أنصار لهما على الذي يقضيان به عليه وعلى المؤمنين والمسلمين، والطائفتان كلتاهما عليهما عهد الله وميثاقه أن يفيا بما في هذه الصحيفة على أن بين المسلمين الأمن ووضع السلاح، وعلى الفريقين جميعًا يرجعان سنة فإذا انقضت السنة إن أحبَّا أن يردا ذلك ردَّا وإن أحبَّا زادا فيهما ما شاء الله.
وشهد على الصحيفة فريقٌ من عشرة رجال.
ومِن ثَمَّ اكتفى الحكمان بتهدئة الأمور، وتثبيتها سنةً كاملةً.
وفي هذا الموقف الدقيق، قد تعددت الروايات، ومن أشهرها :
أن عمرًا وأبا موسى حين التقيا بدومة الجندل، أخذ عمرو يقدِّم أبا موسى في الكلام..... يقول: إنك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت أسن مني، فتكلم وأتكلم.
فكأن عمرو يعود أبا موسى على أن يقدمه عليه في الحديث....قال له عمرو :
خبرني ما رأيك؟
وأجاب أبو موسى : رأيي أن نخلع هذين الرجلين، ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا.
فقال له عمرو:
فإن الرأي ما رأيت.
فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فقال:
يا أبا موسى، أعلمهم بأن رأينا قد اجتمع واتفق.
فتكلم أبو موسى فقال:
إن رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله سبحانه وتعالى به أمر هذه الأمة.
فقال عمرو:
صدق وبر، يا أبا موسى، تقدم فتكلم.
فتقدم أبو موسى ليتكلم، فقال له ابن عباس: ويحك!
والله إني لأظنه قد خدعك.
إن كنتما قد اتفقتما على أمر، فقدمه فليتكلم بذلك الأمر قبلك، ثم تكلم أنت بعده، فإن عمرًا غادر، ولا آمن من أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت في الناس خالفك.
وكان أبو موسى حسن النية ، فقال له:
إنا قد اتفقنا.
فتقدم أبو موسى فحمد الله سبحانه وتعالى وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها، ولا ألم لشعثها من أمرٍ قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه؛ وهو أن نخلع عليًّا ومعاوية، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر فيولوا منهم من أحبوا عليهم، وإني قد خلعت عليًّا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم، وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلاً.
ثم تنحى، وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه، فحمد الله وأثنى عليه وقال:
إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلعُ صاحبه كما خلعه، وأثبِّتُ صاحبي معاوية؛ فإنه وليُّ عثمان بن عفان والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه.
فقال أبو موسى:
ما لك لا وفقك الله، غدرت وفجرت!
إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.
قال عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارًا.
وحمل شريح بن هانئ على عمرو فقنَّعه بالسوط، وحمل على شريح ابنٌ عمرو فضربه بالسوط، وقام الناس فحجزوا بينهم.
ما تم ذكره بمثل هذه التفاصيل بين الصحابة حتى ولو كانوا في حالة تناحر وخلاف شديد ، يصعب على كثير من العلماء تصديقه، و ينكرون حدوثه، ويرون أن هذه واقعة ملفقة، ولم تحدث من الأساس، لتشويه صورة الصحابة وخاصة عمرو بن العاص.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى