أسامة الرحيمي - قفشات نجيب محفوظ!..

وهذا الموضوع هو آخر تحياتنا لراحل الكبير «نجيب محفوظ». في ذكراه هذا العام.
وإذا قدر لنا الله تعالى أن نعيش لقادم، ربما نستطيع إنجاز كتابنا عنه، وفق المخطط.
قفشات نجيب محفوظ!
تشكّل وجدان أديب نوبل «نجيب محفوظ» في مراحله الأولى، من تداعيات ثورة 1919، وبقي مشغوفا إلى آخر عمره بسيرة الزعيم «سعد زغلول» الذي وصفه الشعب بـ «الرئيس الجليل». وحين وافق على تغطيتي لمجالسه الستة خلال أسبوع، كنت أعرف أنه لم يعد يقبل أية حوارات صحفية، فاهتديت إلى فتح شهيته للكلام بالحديث عن ثورة 19 وزعيمها، لأعقبه بسؤال أدبي، ضامنا إجابته.
وخلال ستة أيام متتالية، أتيحت لي رؤيته عن قرب لأول مرة، فبدا إنسانا عظيما مثل إبداعاته، ما حدا بي للقول باطمئنان في مقدمتي أنه: «يستحق نوبل أخرى على سلوكه في الحياة كما استحقها عن أدبه».
وكانت خفَّة ظلِّه المدهشة من أهم ما استوقفني، وهو وقتها في الثانية والتسعين، وبديهته حاضرة تماما، ومهارته في اقتناص «القفشة» لا تبارى، و«إِفّيهاته» فورية يلضمها بكلام محدثيه بلا فاصل، ليُفجِّر موجات من الضحك طوال الوقت.
وفي أحد مجالسه الست ذكر أنه خلال الأربعينات أصدر «حافظ نجيب» جريدة جديدة، وطلب من محفوظ أن يمده بأفكار لرسم كاريكاتير يومي، وبقي يزوّده بها لفرة طويلة، أي أن تجربة تعاون الكاتب أحمد رجب، والفنان مصطفي حسين في رسم كاريكاتير بجريدة الأخبار لم تكن هي الأولى في تاريخ الصحافة المصرية، وأن الذي ابتكرها أولا هو أديب نوبل «نجيب محفوظ» قبل 40 سنة على الأقل من كاريكاتير الأخبار.
وفي جلسته بفندق قريب لمطار القاهرة، رأيت أحد رواد الجلسة يقول له: «يا أستاذ دي علبة السجائر الميريت الجديدة التي أرسلت في شرائها، والقديمة ما زال فيها 12 سيجارة». فقال محفوظ: «ما تعرفش أنا أخدت كم نفس يا حافظ؟».
ومن الحكايات التي عاصرها في صباه، وقت وفاة الزعيم «سعد زغلول»، وظل يراها من المضحكات المبكيات، أن صديقا قبطيا كان موعد زفاف أخته محدد قبل الوفاة، واحتراما من أسرته للمصاب الوطني طلبت من المطبعة توشيح بطاقات الدعوة بالأسود، وإضافة جملة: «البقية في حياتكم لموت زعيم الأمة» كتعزية للمدعوين. ورأى محفوظ أن القصة تكشف تجاور الأضداد بداخل المصري، الحزن والفرح، والضحك والأحزان.
ويَحكيِ صديقه الكاتب الساخر الراحل «محمد عفيفي»، أحد مؤسسي شلّة الحرافيش، قصة يبدو أن محفوظ نفسه هو من أخبره بها، لأنها وقعت في طفولته المبكرة قبل أن يلتقي عفيفي. وذكر فيها أن محفوظ كان يخاف بشدة من صفارات إنذار الحرب العالمية الأولى، وأثناء إحدى الغارات لاذ مع والدته بمخبأ في إحدى الحدائق، وكانت القنابل تتساقط وتنفجر في كل الاتجاهات، فخاف أن ينهار المخبأ وهرب إلى الخارج، ولحقت به والدته وهي تناشده العودة، لكنه هرول صارخا: «يا نينة.. المدافع في الجنينة».
وحين التقاه الناقد «محمود أمين العالم» لأول مرة منتصف الخمسينات بمقهى الأوبرا في العتبة، بادره العالِم: «كنت فاكرك أكبر من كده يا نجيب»، رد محفوظ فورا: «هو فيه أكبر من كده!».
وبعدما صدرت روايته «ثرثرة فوق النيل» أثارت جدلا واسعا لانتقادها الأوضاع الاجتماعية والسياسية في الستينات. وصادفه مسؤول رفيع كان محفوظ يتحاشاه عادة، ويقال أنه (عبد الحكيم عامر) وسأله بِحدّة عن سبب الضجة التي أحدثتها روايته، فقال محفوظ: «دا كلام حشاشين».
إشارة إلى تعاطي أبطال الرواية الحشيش طوال الوقت في العوّامة هربا من واقعهم الأليم.
وفي احتفال الأهرام بعيد ميلاد محفوظ الخمسين، عام 1961، وقف الحكيم على المنصّة، ودسّ يده في جيب سترته الداخلي وأخرج لفّة بحجم قبضة اليد، وفضّ غلافها، فظهرت صينية فضية صغيرة جدا، منقوش عليها جملة تهز الوجدان: «إلى عملاق الرواية العربية نجيب محفوظ مع الإعجاب» وتحتها توقيع توفيق الحكيم. وقبل أن يناولها لمحفوظ، لوح بها ليراها الجميع وصاح مبتسما: «من حرّ مالي.. والله من حرّ مالي صحيح».
وأضاف بمرح وجدية: «إن أدب نجيب محفوظ معجزة لا تتكرر». ثم مازحه: «لأنه انتزع منّي هدية».
وشكره محفوظ بكلمات رقيقة، مؤكداً أنها معجزة لن تتكرر فعلاً، لأن الفنان العظيم توفيق الحكيم لا يكرر نفسه أبداً.
وفي بيته وضع محفوظ الصينية الفضية، هدية الحكيم، باهتمام في صدارة دولاب الأوسمة والنياشين. وفي ذكرى ميلاده السبعين أضاف إليها قلمين أهداهما إليه الحكيم أيضا.
وفي جلستهما بالأهرام ذات مرة، قال محفوظ للحكيم: رأيت شهادة ميلاد جدي لأبي وعلمت أن أصوله من رشيد.
قاطعه الحكيم: لكن أهل رشيد مشهورين بالبخل.
أجاب محفوظ: وتقول إيه لما تعرف ان جدي تزوج من اسكندرية مسقط رأسك.
قال الحكيم ضاحكا: يبقى طلعنا نسايب في البخل.
ومن الطرائف المدهشة، في جلسة نجيب محفوظ مع جمع من الأدباء والكتاب في كازينو «صفية حلمي» بميدان الأوبرا القديمة، وكانوا يلتقون كل أسبوع، ويتحدثون في الأدب والفن والشأن العام، واستوقفت الجلسة أحد ضباط المباحث، فأرسل أحد المخبرين القدامى، الذين كانوا يرتدون الجلباب والبالطو كما يظهر في الأفلام، ليراقب الجلسة، ويكتب تقريرا حول الأحاديث التي تبادلوها، وكان المخبر في ورطة حقيقية لأنه لا يعرف الكتابة، وكذلك لا يفهم كل ما يقال في الأدب والنقد والسينما، ولا يمكنه حتى تكراره شفاهة على أسماع الضابط، وليوجد لنفسه مخرجا، ذهب إلى نجيب محفوظ في آخر الجلسة، ويبدو أنه استطيبه دون بقية الكتاب، واستأذنه أن يكتب له ملخصا بما دار في الجلسة، ليعفيه من عقوبة سيتعرض لها من الضابط لو عاد بدون التقرير، وضحك نجيب محفوظ، ولم يخذل المخبر، وجلس ليكتب له تقريرا عن أهم مناقشات الجلسة، وأصبحت عادة، درج عليها المخبر، والأديب، حتى باتت مضربا للأمثال، ودليلا على خفة ظل محفوظ.
وكثيرا ما تساءلت عن مصير التقارير التي تلقاها الضابط بخط نجيب محفوظ، هل أعجبته، وهل احتفظ بها، أم وضعها في ملف رسمي بأضابير الشرطة دون أن يفطن لأهمية من كتبها؟! وربما لم يذكر له المخبر تلك التفصيلة المهمة!
وجدير بالذكر أن هذه الجلسة في كازينو صفية حلمي الذي لم يعد له وجود، هي التي قرأ فيها نجيب محفوظ عن «محمود أمين سليمان» سفاح الإسكندرية الذي قتل زوجته (1960)، وآخرين، وسرق، وارتكب جرائم متعددة، وهرب من البوليس الذي طارده لفترة، وكانت أخباره في كل الصحف، وشغلت الرأي العام، حتى تم القبض عليه ومحاكمته، واستلهم منه محفوظ شخصية «سعيد مهران» في روايته «اللص والكلاب».
ومن المفارقات المذهلة في هذه القضية، أنها أيضا كانت سببا في تأميم جمال عبد الناصر للصحافة، وسيطرة الدولة على كل الصحف والمجلات، بسبب المانشيت الذي نشرته جريدة الأخبار في صفحتها الأولى، فكتبت في أعلاها «مصرع السفاح» وتحتها مباشرة عنوان أعرض «عبد الناصر في باكستان»، فبدا لكل من يطالع الصفحة أن العنوان جملة واحدة حتى لو كان على سطرين: «مصرع السفاح عبد الناصر في باكستان». ولم يكن الرئيس عبد الناصر من ذلك النوع المتسامح، ولا الذي يرضى في غضبه بعقوبة عادلة. فأطاح بالصحافة كلها، مع أنه كان يمكن ان يحيل الأمر للتحقيق، ومن يثبت أنه وضع المانشيت بهذا الشكل عامدا، يحاكم ويتلقى العقوبة الملائمة لجريمته الواضحة، ولم نكن بحاجة أبدا لتحطيم الصحف والصحافة كما نرى باعيننا الآن.
المفارقة الثانية، أن الشخصية الأسوأ في رواية «اللص والكلاب» التي استلهم محفوظ فكرتها من الواقعة، هو الصحفي «رؤوف علوان»، وهو المجرم الحقيقي الذي غرر بـ الإنسان الطيب «سعيد مهران»، وحوّله من إنسان حسن النية، يبادر لخدمة الجميع، وفرح بحياته، وراض بعمله، إلى مجرم يلاحقه البوليس، وهو يشارك بصحافة الإثارة الصفراء في تأجيج وضع المسكين، والتمكين لنفسه كمجرم عتيد، مستغلا نفوذ رئيس تحرير جريدة، وقدرته على التلاعب بالمجتمع والقانون والرأي العام، من أجل مصالحه هو وحده. وهذا مما قصده نجيب محفوظ في روايته.
وتلك التداخلات العجيبة، بين محمود سليمان الحقيقي، وسعيد مهران المُستلهم، ورؤوف علوان المجرم الأول، والصحفي الذي صنع مانشيت الأخبار بهذا الشكل الإجرامي، ربما بإستسهال فكرة ملاعبة رئيس عسكري صارم مثل عبد الناصر، وسواء كانا الأخوين علي ومصطفى أمين، هما من أقدما على تلك الفعلة، أو غيرهما، فهم جميعا لم يقدروا سوء العاقبة، ولا أظن أنهم كانوا يتخيلون انهم يعرضون البلد كلها لمثل هذه المخاطر، من تدمير الحريات، والصحافة.
ومن الطرائف المتصلة أيضا بمحمود سليمان، أنه التقى الشاعر «أحمد فؤاد نجم» في السجن، و«استجدعا» بعضهما، وجمعتهما «صحبية» السجن، والحشيش، والحكايات الممتدة.
والمفارقة أنه كان يشبه الفاجومي إلى حد لافت للأنظار، وكتب عنه نجم مقالة شهيرة، كشفت جوانب من حياة السفاح وبدا فيها متعاطفا معه، بسبب الظلم الذي وقع عليه، من غدر وخيانة.
وفي أحد الأصياف زار دكتور جلال أمين مصادفة جلسة توفيق الحكيم ونجيب محفوظ على مقهى بالإسكندرية، وانتقد سياسات السادات بشدة، فقال له محفوظ مبتسما: «لكن لا تنس أنه أيضا فعل بعض الأشياء الجيدة!»
فتساءل أمين مندهشا: «مثل ماذا؟»
قال محفوظ ضاحكا: «إنه مات».
ومرة ثانية ذهب د.جلال أمين إلى مجلس محفوظ في كازينو قصر النيل، وحين وصل إليه الكلام، تحدث عن أهمية دور التلفزيون في توعية المصريين، وتغيير أفكارهم إلى الأفضل، ومحو أميتهم، بل وحل بعض مشاكلهم الاقتصادية طالما أنهم يقضون العديد من الساعات أمام التليفزيون.
فقال نجيب محفوظ: «كده المفروض التليفزيون يبثّ سندوتشات للناس، بدلا من المسلسلات».
وحين أيقظته زوجته لتبلغه بفوزه بجائزة نوبل، جلس غير مصدق، ثم دقّ جرس الباب، ودخل سفير السويد وزوجته، وأبلغاه رسميا بفوزه، وقدما له كأسا فاخرة من البلُّلور السويدي. ويحكي محفوظ أنه قابله بالبيجاما، وأنه طوال اللقاء بقي حذرا حتى لا يشتمّ السفير وزوجته رائحة البصلة التي تناولها ضمن طعامه قبل مجيئهما.
وبعد نوبل أيضا، أقيم له تمثال في ميدان «سفنكس» بالمهندسين، واصطحبه د. زكي سالم ليشاهده، ففوجئ باختلال نِسَب التمثال، فقال: «يظهر الفنان اللي صمم التمثال ده لم يقرأ لي غير رواية «الشحاذ».
وبسبب نوبل لاحقه بعض الصحفيين والإعلاميين في مختلف الأوقات والأماكن، حتى أفسدوا عليه خصوصيته، وحين سأله أحدهم عن تبعات فوزه نوبل، وكأنه كان يترقب ذلك السؤال فقال: «بقيت موظف عند نوبل».
وحين ضرب مصر زلزال 1992، سأله جماعة الحرافيش عمّا كان يفعل لحظة حدوث الزلزال، قال: «كنت أجلس في الصالة، وشعرت بالزلزال بقوة، فنظرت إلى السقف أترقب انهياره، وسقوط «برلنتي عبد الحميد» في حجري».
ولمن لا يعرف. برلنتي من ممثلات السينما المعروفات في الستينيات، وكانت تسكن فوق شقة محفوظ مباشرة.
وذات جلسة لمح الدكتور «يحيى الرخاوي» «زُراراً» متدلياً، يكاد يقع من معطف محفوظ، فقال: «يا أستاذ خُد بالك الزُرار ده ممكن يقع وما تلاقيش زيُّه، وتضطر تغير الزرارير كلها». فبادره محفوظ: «وماله لو وِقِع ورَكّبْنَا زرار مختلف.. آهي تبقى حداثة..».
مشيرا لوصف رواياته بالكلاسيكية، وأن الروايات الحداثية تجاوزتها.
وبعدما طعنه متطرف في رقبته، زاره «ثروت أباظة» بمستشفى العجوزة، وحين رآه بكي بحرقة، ولمدة طويلة، فتعجب محفوظ وسأله: «إيه يا ثروت هو انت اللي انضربت ولّا أنا».
وبعد شفائه من آثار الطعنة في رقبته، زاره المفكر الفرنسي «روجيه جارودي» بأول زياراته لمصر بعد الحادثة، وسأله: ماذا تكتب الآن؟
قال محفوظ ضاحكا: أكتب اسمي!
وكان حينها يستعين بالعلاج الطبيعي لاستعادة حيوية يمناه التي عطّلَتها الطعنة، وبدأبه ظل يكرر اسمه آلاف المرات، حتى كتب مئات القصص من «أحلام فترة النقاهة»، وهذه واحدة من أبرز الدلائل على قوة إرادته التي استطاع بها أن يحدد لنفسه وقتا للكتابة، وينظم كل حياته بانضباط شديد.
وحين اشترت دار نشر حق نشر أعماله على الإنترنت، وسلمته شيك بمبلغ كبير، مازحه أحد الحضور: «يا أستاذ.. ماذا ستفعل بالمليون جنيه؟». أجاب فورا: «بفكر أسيب البلد وأهرب».
سخرية من «مليونيرات القروض» الذين استولوا على مئات ملايين من البنوك، وفرُّوا إلى الخارج.
ويحكي «جمال الغيطاني» واقعة أثناء إشرافه على سلسلة «الذخائر» التي تصدرها قصور الثقافة، وامتد الحديث في الجلسة إلى خبر اعتزال راقصة شرقية وإعلانها عن كتابة مذكراتها، فقال محفوظ للغيطاني: «ابقى طلّع مذكراتها في الذخائر».
وأخبره دكتور فتحي هاشم في إحدى الجلسات إنه «ما قدرش يتلم» على المخرج السينمائي الشاب الذي كان يريد شراء إحدى قصصه ليحولها إلى فيلم، فقال له محفوظ ضاحكا: «يا ريت تتلمّ!».
وفي جلسة أخرى، وصل خيط الكلام إلى أحد ضيوف الجلسة من غير الدائمين، ويبدو أنه كان أستاذ زراعة، وتحدث باستطراد عن البصل كنبات وغذاء وسلعة للتصدير، واستفاض في كل تفصيلة، وخشي محفوظ أن يقتنص الرجل وقت الآخرين في الكلام، فقال للرجل في لحظة صمت خاطفة: «طيب. صِنّْ علينا شوية». وضحكوا جميعا، وضحك الرجل أكثر منهم. بقصد إسكات الرجل قليلا.
وكلمة «صِنّ» تستخدم في العامية بمعنى «السكوت»، و«الصبر» أيضا. ولها علاقة في إفّيه محفوظ هنا، برائحتها النفاذة إذا فسدت، يقول الناس: «البصلة صنّنت».




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى