بشير خلف - مقتطفات من كتاب حياتي في دائرة الضوء.. سيرة ذاتية

المجاهد الأستاذ بشير خلف يروي معاناة الألم والأمل
مقتطفات من كتاب حياتي في دائرة الضوء.. سيرة ذاتية
تنشر أخبار اليوم مقتطفات من كِتاب حياتي في دائرة الضوء.. سيرة ذاتية للمجاهد الأستاذبشير خلف الصادر عن دار سامي للطباعة والنشر بوادي سوف شهر فبراير 2021 م الكِتاب من الحجم الكبير يضم بين دفتيه 488 صفحة سرد المؤلف فيها رحلته الحياتية منذ ولد يوم 28 جوان 1941 م بقمار ولاية وادي سوف حتى الآن.
في مرحلة الصبا حفظ القرآن الكريم وعمره 11 عاما.. حكمت عليه السلطات الفرنسية الاستدمارية عام 1960 م بالسجن مدة 15 عاما لمشاركته في ثورة التحرير المجيدة بعنابة.. تعلم كثيرا على أيدي مربين كبار وغيرهم من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين المسجونين حينذاك في سجن تازولت لامبيز سابقا بباتنة.. وتحرر من السجن شهر ماي عام 1962 م.
بشير خلف مجاهد بالدرجة الأولى كاتب قاص وناشط ثقافي. له عدة مؤلفات منشورة في القصة القصيرة النقد الأدبي الكتابة للطفل ومجالات أخرى وقد نشر في صحف ومجلات كثيرة.. ولا يزال نشطا.
الكاتب من مؤسسي الجمعية الوطنية الثقافية الجاحظية رفقة الروائي الطاهر وطار وغيره وعضو في اتحاد الكُتاب الجزائريين ...اشتغل بالتعليم وارتقى مفتشا للتربية والتعليم بولاية وادي سوف.
تجدون في السيرة الذاتية للمؤلف التي كتب صفحاتها بنفسه ويتحدث فيها عن نفسه ما تعرفونه وما لا تعرفونه عن مسارات بشير خلف بصفته إنسانا ومتعلما ومجاهدا سجينا ومربيا ومفتشا وكاتبا وقاصا وناشطا ثقافيا.
يتضمن محتوى كِتابه لمحات من حياة هذا الفذ الذي ينتمي للرعيل الأول ممن ضحوا حقيقة ولا يزالون يضحون وتكفي شهاداته الحية عن ذاكرة وطنية لا تموت بموت صناعها.

كِتاب ثري جدا فيه متعة ومنفعة لما يحمله من أحداث سردها قلم من قلب معارك ساخنة بأسلوب شائق بعيد عن النرجسية فهو يستحق أكثر من قراءة متأنية لا سيما سيرة الرجل الطيب ذي القسمات الهادئة وأيضا لمحطات تاريخية مفصلية لهذا الوطن المفدى وقد خلد كثيرا من وقائعها في قمار بولاية وادي سوف وباتنة وعنابة وغيرها... الكاتب قامة أدبية وثقافية تفخر بها الجزائر والعالم العربي هو أحد صناع التاريخ الوطني الذين لا يزالون باقين على العهد... وممن يستحقون أكثر من تكريم وطني سام يليق بمقامهم الكريم... قراءات ماتعة نافعة.
أطيافٌ متباينة من السّاكنة
بقلم: بشير خلف




في ذاك الجوّ وجدتُ نفسي في مدينة عنابة وفي حيّ من أحيائها الشعبي الكثير الحركة والمتواجدة فيه كل أطياف الساكنة من جزائريين ومعمرين وأعوان الأمن الفرنسيين والمخبرين والعملاء من الجزائريين العيون مفتوحة ومندسّة أينما مشيْتَ ومتى تحرّكْتَ في أيّ شارع في أيّ زنقة. أفتحُ باب محلّي الواقع في الضلع الغربي للساحة الضلع المقابل لجامع الباي ضمن مجموعة من المحلات والمقاهي التي تغطّيها أقواس وفي الطوابق العليا مثلما الأضلاع الأخرى يقطن الكثير من المعمرين وكذا الجزائريون توجد في الجهة المتواجد بها مطعم مقهى فطائري تونسي وغيرها من محلات أخرى للحلاقة للموادّ الغذائية أفتح محلّي عادة الساعة السابعة فيُقْبِلُ الزبائن من روّاد المقهى يبتاعون في الغالب السجائر هذا علبة وذاك سيجارة واحدة وهذا سيجارتيْن وهكذا إلى أن ترتفع الشمس تكثر حركة العابرين للساحة أو الماكثين بها في المقاهي أو المتردّدين على باعة الأرصفة في الساحة إذ تتنوع مبيعاتي من السجائر إلى العطور فالملابس الداخلية الرجالية. بمرور الأيام تأقلمتُ مع حركة الحيّ وروّاده وقاطنيه كما أني برمجت وقتي كأوقات العمل والنوم وأداء صلاة الظهر العصر المغرب في جامع الباي القريب المقابل إلا صلاتي الصبح والعشاء فإن زمنهما زمن حضْر التجوّل. في المساءات تتضاعف الحركة ويكثر الروّاد بتواجد العساكر بأنواعهم المختلفة التي تميّزهم بزّاتهم العسكرية يكثر إقبالهم عليّ لأن محلي هو الوحيد في الساحة الذي يجدون فيه ما يهمّهم من ملابس داخلية وعطور وخاصة البطاقات البريدية التي يبتاعونها بأعداد معتبرة ويرسلونها إلى ذويهم. ما مرّ غير حوالي شهر حتى كثر زبائني سيّما العساكر فأضفت أنواعا أخرى من العطور والملابس الداخلية وبطاقات البريد. ممّا أذكره أن بعض أولئكم العساكر من كثرة مجيئهم إليّ صارت تربطني بهم علاقة تعارف أسألهم من أيّ منطقة بفرنسا أو من أي بلد إن كانوا من اللفيف الأجنبي نتيجة تلكم العلاقة يأتون إليّ في بعض الأحايين وليس بأيديهم نقود فأمدّهم بما يحتاجون وللأمانة فإنهم بمجرّد ما يستلمون مرتباتهم الشهرية يدفعون ما عليهم.
.. مع نسمات افتكاك الحرّيّة: ذات يوم جاءني شخصٌ تردّد قبْلُ على محلّي كم من مرّة اشترى سجائر لكني ما أعطيْتُهُ أهمية بالنسبة إليّ هو زبون كغيره هذه المرّة دخل معي في حديث عن التجارة وأهميتها وسألني عن الزبائن ومشترياتهم والزبائن المتردّدين أكثر عن المحلّ سأل بأسلوب حميميّ حتى لا يساورني الشكّ فيما تَغَيّاهُ كانت إجاباتي متحفّظة نوعًا ما. تتالت زيارات هذا الشخص لي ودخوله معي في أحاديث بدت أحيانًا لي تافهة وبدت لي في أحيان أخرى ذات أهمية باقترابه عن الحديث عن ظُلْم الاستعمار الفرنسي واستيلائه على كل شيء وحياة الأوروبيين المختلفة عن حياة الجزائريين والفقر والأمراض التي يعاني منها هؤلاء ووجوب عدم السكوت والإذعان لهؤلاء الظالمين بالاندماج في الثورة والجهاد في سبيل الوطن واسترجاع الحقّ المغصوب.

إلى أن قدّم لي نفسه ذات مساء يوم من بدايات شهر جانفي 1960م على أنه من رجال ثورة التحرير وأنه مسؤولٌ في حي لابلازدارم وساحة لاكور المركزية بالمدينة وما كان يُحيط بهما من شوارع وأزقّة وحتى يدفعني إلى الاندماج وكأنه يقطع عنّي التردّد والخشية أشار إليّ بأنّ منْ كان قبلي في المحلّ وقصد المرحوم رضوان محمد العيد كان منْظمًا إلى الخليّة.
أتذكّرُ أنّي ما شعرتُ بِخْوْف أو تردّد يومها وافقت على الانضمام وعاهدته على أن أكون عاملا مُجِدًّا صادقًا في مسعاي مضحّيًا من أجل الوطن كان مفهوم الوطن كما أسلفتُ بدأ في التّبلْورِ لديّ وأنا في مسقط الرأس إنّما مُذْ وجودي في سيدي سالم ومعايشتي لِما رأيتُه من جبروت وظلم الاستعمار ثم اندماجي في المدينة وملاحظاتي لحيوات الجزائريين ورفاهية أولئكم وامتلاكهم لكلّ ما على الأرض وما فوقها وما تحتها.

تجذُّرٌ لمفهوم الوطن: مفهوم الوطن أخذ بتوالي الأيام يتجذّر لديّ ويترسّخ في العمق مفهوم الجزائر ما كان متداولا حينها في تلكم السنوات والشهور حتى عند غيري اتّضح عندي إلّا عندما كنت فيما بعد في السجن واختلطتُ بآلاف السجناء في سجن لامبيس ضواحي باتنة. عرفت ذلك الشخص الذي زارني العديد من المرّات واستطاع بِحِسِّه الثوري وصدقه وغيرته على الوطن وإدماجي في العمل الثوري عرفْتُه إلّا بعد شهرين على أنه S. N. P عبد السلام السبتي رئيس خليّة فدائية . حدّد لي مهامّي:
1 أن أُمتِّنَ علاقتي بالعساكر الفرنسيين الزبائن المتردّدين بكثرة على محلّي مع الحذر الحرص بالحصول منهم على ذخائر عسكرية ومسدّسات إذا أمكن.

2 في الساحة المركزية بالمدينة لاكور توجد مغازتان كبيرتان لبيع الملابس والأحذية العسكرية باتوقاز ومناظير الرؤيا البعيدة لا جيمال لأشباه العسكريين كأعوان الأمن المدنيين وحرّاس الغابات يمْلك المتجريْن فرنسيون ويعمل بهما بعض الجزائريين الشباب يجبُ تكوين علاقات مع هؤلاء الشباب تدريجيا وشراء تلكم الملابس والأحذية ومناظير الرؤيا كلّما أمْكن.
3 - فيما بعد كوّن عبد السلام فِرقا فدائية لتصفية بعض العملاء المخبرين والعملاء الجزائريين: المرحوم بريبش عبد الحميد بدون عمل من بلدة الرقيبة أصلا من وادي سوف كان مقيما في بسكرة ثم قدِم إلى عنابة عبد السلام شخصٌ غير معروف متشرّدٌ نشأ في تونس ثم قدم إلى الجزائر شخصان آخران غير معروفيْن الْتقيْتُ بهما إلّا أثناء العمليات الفدائية. مِمّا تميّز به نظام الثورة حينذاك صِغرُ الفرق الفدائية والفرق النضالية وعدم معرفة هذه الفرقة بتلك ولو كانا ينشطان في حيّ واحد حتى إذا ما في حالة إلقاء القبض على أفراد هذه تبقى الأخرى بِمنْأى.
4 ومن المهامّ التي أسندها إليّ تَتبُّعُ مسار الخونة الذين تقرّر إعدامهم: يقوم في البداية عبد السلام السبتي رئيس الخليّة بعد أن نكون قد اتفقنا على اللقاء في موقع ما بشارع ما بحيث لا نلتقي إلاّ في ذاك الموضع لدقيقة أو دقيقتيْن فيشير بإشارة منه بالعينيْن أو بأصبعه نحْو منزل ذاك الخائن ثم يذهب وأتولّى أنا أمر مراقبته من بعيد لأيام: زمن خروجه من منزله مسار تحرّكه أين يتوقّف مع منْ يتكلّم مَنْ أصدقاؤه الذين يُجالِسهم يوميا مكان لقائهم مقهى أم محل تجاري أم.. في هذا المجال بعد تحديد تحرّكات ثلاثة منهم جاءتنا تعليماتٌ بأن نُنفّذ حُكْم الإعدام بأحدهم بإطلاق الرصاص عليه بعد صلاة العصر في شارع خلفيّ لساحة لابلاص دارم كان لديّ مسدّس من نوع 9m. m وكانت مهمّتي أن أحرس بريبش عبد الحميد الذي أطلق الرصاص على ذاك الخائن في الشارع الْمُكْتظّ بالمارّين والمشترين جزائريين وغيرهم من جنسيات أوروبية ويهودية ولمَّا أطلق عليه الرصاص سقط أرضًا صرخ جزائريان: ها هو.. ها هو.. أي يقصدان الفدائيَّ. مباشرة وجهت لهما فوْهة المسدّس وأشرتُ لهما: أشت..أشت..أشت.. فهربا ضِمن الهاربين وقد انْحشرْتُ بينهم وتسلّلْتُ نَحْو ساحة لا كور ثم بعيدا إلى حي لا سيتي .

كُلّفتُ بِحراسة الزملاء لأني أصغرهم سنًّا ولأتدرّب وتتكوّن لديّ خبرة حتى يزول عني الخوف والعملية الثانية كان هدفها خائنُ آخر يعمل في الميناء وخلال مراقبته وتتبُّعِ مساره اتّضح لي أنّ له مسارا واحدًا يبدأ من منزله بنفس الحيِّ نحْو الميناء صباحا بعد صلاة الصبح والعودة من الميناء ليلا بعد صلاة العشاء وبِما أن قرار حضْر التجوّل كان يدخل حيْز التطبيق بعد صلاة العشاء مباشرة صعُب علينا تنفيذ حكْم الإعدام فيه فتمّ اختيار وقت الصباح بعد صلاة الصبح كما تقرّر أن يكون التنفيذ بطعنه بسكّين حادّ لأن الشارع المؤدي إلى الميناء يكون خاليا وتتمّ العملية دون ضوضاء ومنفّذُها لا يُرى في الظلام وانسحابه كما انسحابي تمّ بهدوء وبنفس الطريقة تمّتْ تصفية خائن آخر. ما أتذكّرهُ وقد كلّفني رئيس الخلية بتسلُّم الأسلحة التي تمّتْ بها عمليات تنفيذ الإعدام أن الخنجر الذي نُفِّذتْ به عمليات الطعن وجدتُ عليه بقايا من لحْم ذلك الخائن.
5 مهمتي الأخرى أنْ كتبْتُ رسائل أمْلى عليّ مضامينها المسؤول عبد السلام السبتي باسم النظام (الثورة) إلى العملاء قبل تنفيذ حكم الإعدام فيهم للكفّ عن التعامل مع الاستعمار وتحذيرهم من ذلك وتهديدهم بالموت. أثناء القبض عليّ وجد العساكرُ في جيبي رسالتيْن موجّهتيْن إلى خائنيْن مُخْبِريْن جزائرييْن.
إغراء بالهدايا: فيما يخُصّ التعامل مع العساكر في محلّي نجحتُ في استدراج ثلاثة منهم عن طريق السماح لهم بالمشتريات مجّانًا وتارات أخرى عن طريق الإهداء أو تأجيل الدفع تحصّلتُ منهم على مسدّسيْن وأعداد كبيرة من خراطيش مُختلفة العيارات وبعض الملابس العسكرية. نجحت في تمتين العلاقة مع شابيْن في المغازتيْن تمكّنتُ من شراء العديد من الْمُسْتلزمات العسكرية منهما على مراحل وعلى مدى شهور كما قاما بالمساعدة في تزويدي بالعديد من الأدوية من صيدليات يملكها فرنسيون بل حتى جزائريون. متّنْتُ علاقتي مع أولئكم العساكر كما تعدّدت غياباتي وغلْقي للمحلّ. في تلك الأيام زارني عدّة مرّات ابنُ مسقط رأسي المرحوم بكّي محمد الذي تفطّنت إلى أنه في خليّة ثورية ليست فدائية ومحمّد بكي كان بدوره يجمع الأدوية والألبسة العسكرية والذخائر ويرسلها إلى المجاهدين في جبال إيدوغ عن طريق رئيس خليته.
تحت أعيُن العُملاء: بدا لي أنّ تحرّكاتي تفطّن إليها الاستعمار فزرع عيونَ مُخْبريه حولي من ذلكم أنّ شيخًا جزائريًّا عرفتُ فيما بعد أنه من قدماء محاربي فرنسا في الهند الصينية كرّر زياراته لي يوميا مُشْتريًّا منّي السجائر وما لبث أن اتخذ عرصة يتكئ عليها جالسا على كرسي يأتي به من المقهى المجاور يرصد تحرّكاتي وزبائن المحلّ. كان في الأيام الأولى ودودًا معي ولمّا لم أطاوعه في إطالة الحديث معه تغيّرت نظرته وصار عدوانيا معي حينها بدأت الشكوك تراودني إلّا أني واصلتُ تحركاتي ومساري كالعادة..
ابنُ مسْقط رأْسي هدّدني: في ذلك الظرف الصعْب اتّصل بي أحدُ التجار المرحوم ش.ل أصيل مسقط رأسي يعرفني أشدّ المعرفة انتحى بي جانبا وأعلمني أنه جاءني باسمه وباسم التجار السُّوافة قماريين وغير قماريين جميعهم رأوْا أني أوّسِخهم وألوّثُ مسارهم المعروف لدى فرنسا بأنهم أناس تجّار نزحوا من الجنوب الصحراوي إلى هذه الديار من أجل (الفرنك) ولا علاقة لهم لا بِما سُمّي بالثورة بل هدّدني في حالة ما إذا لم أتخلّ عن النضال الثوري هناك إجراءات قد لا تكون في صالحي. أجبتُه بأنني لن أتخلّى وعاهدتُه أنني في حالة اعتقالي لن أذكر اسم أيّ واحد مِن السُّوافة لأني أصْلا ما عرفْتُ واحدا منهم يعمل حينذاك مع الثورة وقد صدق فيما قال هم عبدةٌ للْمالِ باحثون عن الفرنك ما عرفته آنذاك أن السيد داده عبد العزيز الذي عمِل معي في متجر سيدي سالم كان مشاركا في الثورة عمِلَ مع المرحوم الشهيد الشافعي الذي كان تاجرًا للألبسة عبد العزيز اعتُقل بتهمة جمْعِ الاشتراكات المالية للثورة وأطلق سراحه بعد ستة أشهر اعتقال.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى