سمير الفيل - عراوي

نظلة امرأة العمدة عبد الحق البصراطي جاءت المحل في وقت العشاء ، عرفتها رغم أن " البيشة " كانت تلف وجهها في إحكام . جلست أمام المقعد الذى صادفها وكانت هذه أول مرة تحضر بدون زوجها الذى غالبا ما كان يمنحني بقشيشا دون أن أطلب ، و يجعلني في المواسم أربط فرسه بعمود الإنارة ريثما ينزل من البيت .
كان محبوبا من الناس في الحى ، ويسعل بدون سبب ، فيتلون وجهه بحمرة قانية ، وكان وسيما وفى جبهته زبيبة الصلاة، لكن رأسه مثل الديك السكرتير ، كنت أحب أن أنظر إلى شاربه المقصوص على هيئة مثلث صغير أعلى الشفة العليا وفى المنتصف تماما .
نظلة لا يناظر كرمها امرأة أخرى ، بالنسبة لي على الأقل ، فهي مقطوعة الخلفة ، لكنها تعطف علىّ وعلى عيال الحارة ، تجلسنا بين ركبتيها وتفلى شعرنا ثم تضربنا لأننا لانسمع كلام أهلنا ، وصوتنا يطلع من المسقط المطل عليه حجرة نومها ذات الستائر التركواز .
نظلة عندها خدامة أو اثنتين للمسح والكنس وترتيب البيت المرتب أصلا ، فمن أين تأتى البهدلة والعيال لا وجود لهم ؟
لذلك كنت أستغرب ، وأنا أدق الباب بقبضتي ، أندفع إلى حجرة الكرار ، وأمد يدى لأسحب رغيفا من خبيز العزبة بطعم الحلبة اللذيذة ، ثم أهرب من الخدامة وهى تجرني من تحت الدولاب الذى أخفى فيه جسدي الصغير . كنت أنكش كل مكان في البيت عندما أعرف أن العمدة غائب ، ومن السهل أن أعرف ذلك بالنظر إلى عمود الإنارة ، فإن كان الحصان غائبا فهو مع صاحبه ، ووجب على أن اتعفرت ، وأثير دهشة نظلة بحركاتي البهلوانية وهى التي لم تكن تغضب إلا في حدود . ولم أكن وحدى الذى تحبه المرأة الطيبة . كان كل أولاد الحتة يفعلون ذلك ، اما البنات فكن يقفن على العتبة ، ويخشين الدخول بأوامر الأمهات .
نظلة في المحل ، وأنا كبرت ولم أعد أذهب ، وتعجبت لأنها أخفت نفسها ولم تسألني عن الشقاوة أو الصحة أو الأم . جلست ، وهمست في أذن المعلم ، فعرفت أنها تريد حذاء جديدا .
كانت المحلات قد بدأت إنارة مصابيحها لكن الحاج خليل كان يأمرنا بتأخير ذلك بدعوى أن الذباب سيدخل المحل ويصعب طرده ، لكن حمادة ابنه كان يقول لي إنه يوفر الملاليم لتكبر ثروته التي بسببها يحرمه من أكل الكباب الذى يحبه .
ترقبت أن يأتي لها بالموديلات الجديدة التي أحضرها منذ يومين من مصر ، لكنه أتى بأربعة أزواج ليس لها الشكل الجذاب الذى تحبه زوجة العمدة . سألته ، وقد بدا عليها الضيق : " مفيش أشكال تانية جديدة ؟ أنا زهقت من الأشكال دي ! " .
كان صدرها يعلو ويهبط ، والملاءة تنسدل لتصل إلى السجادة القديمة : " طلبك موجود " .
هزني من شرودي : " ولد يا فلفل . خد الست وروح المخزن . وريها أحسن حاجة !".
كنت في طريقي إلى المخزن ، أتقدمها بخطوات ، وكانت يدى تصلصل بالمفاتيح المعدنية الثقيلة . على مهلها كانت تتبعني ، وتخفى اضطرابها ، تلكأت عند مدخل البيت الذى يقع المخزن في طابقه الأول . دفعت المفتاح في ثقب الباب ،فزكمت أنفى رائحة الجلد المدبوغ لمئات الأزواج الموضوعة في علب الكرتون .
مددت يدى وأنرت المكان ، كان برص صغير يحاول أن يختفى وراء طبقة الجير . دخلت خلفي ، وجلست على المقعد الوحيد في الصالة ، واربت الباب ، وسألتني بصوت مبحوح فيه أثر برد : " إيه يا فلفل ، ما عدتش بتيجي عندنا ليه ؟ ".
قلت لها معاتبا : " يعنى عارفاني ؟ ".
أومأت ، وهى تمسح عرق وجهها بمنديل مشغول بالدانتيلا ، أخرجته من حقيبتها : " طبعا. مين يجهلك ".
بعد فترة من الصمت خشيت أن أكون أغضبتها : " إيه الموديل اللي أنت عايزاه ؟".
سألتني بلا مواربة : " فيه زباين بييجوا هنا ؟ " .
قلت لها ،وأنا أتفحص مروحة السقف التي بدأت في الدوران : " أحيانا " .
دفعتني بيدها في كتفي برفق، وقامت تتفحص المكان ، بحجراته الثلاث : " ينفع شقة ،بس ليه عتمة ؟" صمت قليلا ثم أدركت أنها مسألة ملفتة للنظر فعلا : " مش عارف!" .
وقعت عينها على سرير يقع في الحجرة الداخلية المغلقة بعوارض خشبية ، والمطلة مباشرة على الشارع الرئيسي : " مين بينام هنا؟ ".
لم أر أحدا نائما من قبل ، لكن المعلم كان يرد على زوجته عندما تشاجرت معه آخر مرة أنه وضعه ليغور من وجهها العكر ، ولما بكت أخبرها أنه يريح ظهره عليه إذا ما آلمه وسط العمل بدلا من الذهاب إلى البيت آخر الدنيا .
كانت تنتظر إجابتي ، وأنا مهموم لأنها جاءت هنا حيث الرطوبة والعتمة ، والأبراص التي كنت أعرف أماكنها من خشخشة الأوراق التي تحتك بها : " المعلم يريح ظهره عليه !".
أحاطت ساقيها بيديها البضتين ، وأومأت برأسها : " هات اللي عندك ، وأوعى تخبى حاجة ".
كنت أريد أن أنتهى بسرعة ، لكن كل ما عرضته عليها رفضته بتصميم عجيب ، وغضبت لأن الموديلات قديمة وقليلة الذوق .
عصرت كفى ، وأنا أخبرها أن هذا كل ما عندنا ، وبدأت ألم العلب الكرتونية . في تلك اللحظة جاء المعلم خليل ، وسألني بحدة لا مبرر لها : " خلصت يا ولد؟".
قالت برقة لم أعهدها منها " موديلاتك قديمة كلها يا معلم !".
زجرني بعنف : " أصله خايب و ما يعرفش لا يحل ولا يربط ".
لمحت طبقة من العفار الكثيف على ألواح الزجاج، أردت إزالتها : " اسبقني على المحل ، وأوعى تتحرك إلا لما آجي ".
هبطت السلم ، وأنا في غاية الإحراج أن أترك نظلة معه بمفردها ، وبخت نفسى ، لكنني قبل أن أنصرف ، نظرت في عينيها مباشرة ، فلم تستحثني على البقاء!
كنت مأزوما ، لكنني رأيت أن أترك الملك للمالك ، وكل ما سأفعله أننى لن أدخل بيتها مرة أخرى . جلست في الظلام ، وتعمدت أن أترك المصابيح مطفأة ، فلم أحب أن يدخل الذباب والخواطر السوداء إلى المحل .
جاء زائر لم أتوقعه ، موظف مكتب العمل ، حاول تحرير محضر للمحل ، فاندفعت أعدو كي ألحق المعلم قبل أن يخط حرفا ، بغرامة أو خلافه .
صعدت السلم قفزا ، كان الباب ما يزال مواربا ، دفعته بهدوء ، رأيت المقعد الوحيد خاليا ، سمعت صوت امرأة تتأوه . طرقت الباب ، وأنا أصيح بصوت كسير : " مكتب العمل.. عندنا ". لمحتها تلبس السونتيان الأسود، وتدخل ساقيها العاريتين في الجيبة ، تلم شعرها المنكوش بعصبية ، أما هو فقد راح يرتدى قميصه تاركا الفانلة الحملات ، و يزرر عراوى البنطلون قبل أن يصفعني بغل مكتوم .


سمير الفيل

كتبت سنة 2004.


* من مجموعة " صندل أحمر"..




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى