أدب السجون خالد عمر بعيرات - سأبقى قويّاً

ليلةٌ سادها هدوءٌ عكس العادة وراحةٌ قليلٌ ما يعانقها الأسرى في سجون الإحتلال الإسرائيلي وخاصّة في سجن (إيشيل) ببئر السبع، فلا تكاد تمر ليلة إلا تخللتها اقتحامات أو تفتيشات أو ازعاجات سجّان، الساعة الواحدة بعد منتصف الليل والأسرى ما زالوا يحرصون على التلذذ في مضغ هذا الكنز النادر من الهدوء والراحة المسلوبة، وفجأة صراخ ب(يا الله يا الله) يهزّ المكان ويزلزل القسم محولاً الهدوء إلى استنفار والراحة إلى قلق لينّفضَّ الأسرى من أسرّتهم لمعرفة مصدر الصراخ وسبب الصراخ.

الساعة الثانية بعد منتصف الليل والأسرى على أبواب الغرف، بقلق وغضب يتلهفون لسماع صوت يخترق القضبان والأقفال والسلاسل ويجيبهم عن ما يحصل، فعلاً، سرعان ما صدر صوت من إحدى الغرف ينادي ويقول بنبرة يملؤها الألم والغضب "أسعد يموت ... معه انحباس بالبول" وما إن انتهى المنادي من كلماته حتى هاج الأسرى يصرخون سُهير سُهير(أي سجّان باللغة العبرية) ويضربون على الأبواب لعل السجّان المتغافي الذي بينه وبين الأسرى أمتار قليلة يسمع ويجيب، دقائق - والمسافة لا تحتاج إلا لبضع ثوانٍ - جاء السجّان نحو القسم وبالتحديد إلى الغرفة التي يتواجد فيها أسعد، متبختراً بابتسامةٍ تَعجُّ بالإستفزاز والإستهتار لينادي طبيب السجن بعد أن رأى حالة أسعد المزرية.
أسعد (أبو سُهيل) غزاويٌ سبعينيٌ متزوجٌ وأبٌ لعشرة أبناء استشهد أحدهم وهو أحمد في اشتباك مع جنود الإحتلال أثناء اقتحامها مقر الرئاسة في رام الله خلال انتفاضة الأقصى عام 2002، وكان وَقْعُ استشهاد ابنه عليه شديد بل من أصعب المواقف التي مرَّ بها داخل السجون أثرت عليه صحيّاً من الناحيتين النفسيّة والجسديّة ورغم ذلك كان متسلّحاً بقول الحمد لله، لديه أكثر من ستين حفيداً لم يلتقي بأحدهم قط وكان كثيراً ما يقول (نفسي أشوف أحفادي قبل ما أموت)، حُكم عليه بالسجن المؤبد مدى الحياة، بعد أن اتُّهِم بقتل أحد ضبّاط مخابرات الإحتلال الكبار والذي كان سبباً في إسقاط شبّان فلسطينيين وفتيات فلسطينيات في وحل العمالة لحكومة الإحتلال ناهيك عن ضلوعه في اغتيال مقاومين فلسطينيين.
أمضى أسعد حوالي الثلاثة عقودٍ داخل سجون الإحتلال الإسرائيلي تعرض خلالها للعزل الإنفرادي دنيء الصّيت رديء المَهبِط أكثر من عشر سنوات لم يرَ فيها سوى سجّان متزنّر بحزام اكتظّ بالأقفال والسلاسل، وجدران بيضاء كلما نظر إليها حلّق عقله في فضاء الذكريات، كيف لا؟ وبياض الجدران كبياض فستان زوجته يوم عرسه، وبإبتسامةٍ ودمعةٍ يتذكر كلماتها التي تحتضن ذاكرته في ذلك اليوم "ما دمتُ أتنفس فأنا معك حتى الموت" و كلما تذكر تلك الكلمات يقول بجهشٍ "صَدقتِ يا أُم سُهيل...رَحمكِ الله يا عظيمة القلب ورفيقة الدرب"، فقد تُوفيت أُم سُهيل وهو بعزله يقارع عذابات السجن والسجّان وعندما خرج من عزله كان يُحدّث الأسرى عنها كثيراً وكم كانت تُدهشه بصبرها وصمودها وقوتها وشجاعتها وعطائها الجمّ، فقد كانت مَنبَع الثبات والمعنويات الذي يَغتسل منه عند كل غصّة وغمّة وشدّة قبل وبعد موتها.
ونتيجة الإهمال الطبي المتعمّد الذي مورس بحقه داخل سجون الإحتلال نهش جسده سيء الأسقام كالسكري وارتفاع ضغط الدم وضعف مستمر في السمع والبصر وأخيراً سرطان البروستاتا الذي بسببه انحبس بوله وساءت حالته وهزل جسده.
بعد انتظار عميق أتى طبيب السجن ضخم الجثة، شديد السواد، مقرون الحاجبين، مشوّه العينين، غليظ الشفتين، لو اطلعت عليه لسُقمتَ وإن كنت سَقيماً لزددت سُقماً، فتح حقيبة الإسعافات الأولية المدججة بالحبوب المهدّئة والمضادّات الحيويّة والمسكّنات، أخرج بعض أدوات الفحص اليدوية البسيطة ثم فحص أسعد، وكما هو معروف لدى الأسرى وكعادة الأطباء داخل سجون الإحتلال الفحصُ سريعٌ وشكليٌّ والعلاج حبوب مهدئة ومسكنات للآلام، كل ذلك رغم معرفة الطبيب بخطورة وضعه الصحي وحاجته الماسّة لمستشفى، وبغضبٍ معبراً عن رفقاءه في الأسر جَلجَل نائل - رفيق أسعد في الغرفة - على الطبيب مستهجاناً: هل مريض السرطان يعالج بحبّة أكامول؟!!
فيرد الطبيب بهدوء مُستفز: هذا ما يمكنني فعله فقط.
نائل بحُرقة: أبو سُهيل مكانه المستشفى وليس بين الأسرى!!
الطبيب: نقله للمستشفى يحتاج لقرار من إدارة السجن.
نائل: ومن الذي يرسل تقرير لإدارة السجن بأنّ أبو سهيل يحتاج إلى مستشفى غيرك أنت؟
تلعثم الطبيب لحظة وقال: هذا ما يمكنني فعله فقط ثم انصرف.
الأسرى بمَقَطٍ: حسبنا الله ونعم الوكيل فيك وفي إدارتك.
حبوبٌ سرعانٌ ما جرى مفعولها في جسد أسعد المزدحم بالأمراض العصيبة ليهدئ وينام ، ولكنّ الكلُّ هنا يعلم بأن هذه الحبوب ليست علاجاً أو حتى مجرد مسكّنات مؤقتة للآلام بل هي قتل بطيء متعمّد يمارس بحق الأسير الفلسطيني داخل سجون الاحتلال وما أسعد إلّا أسيرٌ من مئات الأسرى الذين يعانون من هذا القتل المُمنّهج على مسمع ومرأى من العالم.
الآن موعد صلاة الفجر فالساعة الرابعة والنصف فجراً، ولكن بهكذا وقت القلق و التَرقُب يعمُّ الأسرى في القِسم وخاصّة لدى أسعد، حيث يُذكّره بلحظات عاصفة مرَّ بها والأسرى، فهذا هو أكثر وقتٍ يعشقه السجّان ليتذوق الفرح والسرور بآلام الأسرى وليتفنّن في أشكال التعذيب وطُرق التنكيل بهم، نعم إنه وقت القمعات وما أدراك ما القمعات، مجموعة كبيرة من عناصر شرطة مصلحة السجون أو من وحدات القمع الوحشيّة التابعة لإدارة سجون الإحتلال كوحدة اليمّاز ووحدة المَاتسادا التي هي من أعنف الوحدات وأخطرها على الأسرى، تقتحم القسم بقنابل الغاز والصوت وبرفقة الكلاب البوليسية والهراوات وأحياناً تطلق الرصاص المعدني المغلف بالمطاط ليتحول القسم إلى ساحة حربٍ تبدأ بالضرب والسَّحل والقنابل وينتهي المطاف بالأسرى في أقسامٍ وسجونٍ أخرى يدخلونها وأجسادهم مُثقلة بالدماء والرضوض والكسور، ولا يَنسى أسعد ما حصل معه قبل شهرين حينما اقتحمت وحدة المَاتسادا القسم فعاثت في الغُرف فساداً وفي الأسرى إيلاماً فكُسِر أنفه وشُجَّ رأسه وسَال دمه وتدهورت صحته.
الساعة السابعة صباحاً، يستيقظ أسعد من نومه بعد ليلة تمرد بها المرض على جسده، فيتوضأ ويصلي ركعتا الضحى على طاولة صغيرة (سكملة) بعد أن كُسِر كرسيّه المفضّل في إحدى الإقتحامات الليليّة، وبعدها يأكل ما وُجِد من طعام ويرتدي ثياب الشاباص (ثياب بنّيّة اللون خاصّة بالأسرى الأمنيّين) ثم ينتظر على سريره قدوم سجّان يأخذه إلى عيادة السجن، فالآن هو موعد إبرة الأنسولين الأولى، حيث تبيّن من سنين قليلة أن أسعد مصاب بمرض السُّكري من النوع الأول، وبالتالي فهو يحتاج إلى ثلاث إبرٍ يومياً من الأنسولين في فترات مختلفة عند الشروق والظهيرة والغروب.
جاء السجّان وفتح الباب، وخَرج أسعد من غرفته مُبهراً الأسرى بِطَلّته، فأسعد ذو الرأس الأصلع والجلد المجعّد والشرايين البارزة والجسد المنهك من الأمراض، كلما التقى بالسجّان يحاول جاهداً إخفاء ضعف جسده وقلة حيلته وإظهار ما يملك من قوة ورباطة جأش، فيسير إلى العيادة وسط مجموعة من السجّانين رافعاً هامته ونافخاً صدره ومقوّماً ظهره، ناظراً إلى الأسرى بعيونٍ حادةٍ معللاً لهم تصرفاته "أمام أعدائي سأبقى قويّاً".
الساعة الواحدة ظهراً، درجة الحرارة مرتفعة والجو لافح، وفي هكذا وقت القيلولة هي من دَأْب الأسرى، ولكن مجدداً يعلو صوت أسعد بصراخ كله ألم "يا الله يا الله"، والسبب أصبح معروفاً انحباس بالبول مرة أخرى بالإضافة إلى آلام أسفل البطن، ليعود طبيب السجن بالحبوب المهدئة والمسكّنات من جديد بعد صراخ وضرب على الأبواب من قبل الأسرى.
ليتكرر المشهد مراراً وتكراراً ليلاً ونهاراً على مدار أسبوع كامل، ومع كل مرة يزداد وضع أسعد الصحي سوءاً على سوء، وإدارة السجن وطبيبها يغضّون عنه البصر، وبوعود زائفة يُماطلون بعلاجه ونقله إلى المستشّفى، وبعد احتجاجات وتصعيدات من قبل الأسرى في القسم بدأت بترجيع الوجبات الغذائية إلى أن وصلت الأمور إلى تهديد الأسرى لإدارة السجون بسلاحهم الوحيد وهو الشروع بإضراب مفتوح عن الطعام تم نقله إلى مستشفى كابلان.
أيام قليلة من نقله إلى المستشفى وبعد أن كان وَضع أسعد الصحيّ يميل إلى الخطورة جاء خبرٌ بتحسّن صحته، فَرِحَ الأسرى بسماع ذلك واستبشروا خيراً واطمئنوا قليلاً، ولكن لم يلبث الخبر سوى ساعات معدودة حتى جاء خبر آخر يفيد بدخوله في حالة موت سريري، وبعدها بيومين والقلق أبلج على وجوه الأسرى يسألون ويستفسرون لعلّه يأتي خبر يسرُّ البال ويهدّئ النّفوس، أتى نبئ الإستشهاد كالصاعقة على الأسرى وعلى أهله الذين لم يَروا أسعد منذ أكثر من خمسة عشرة سنة بعد أن أصدر الاحتلال قراراً بحق سكان غزة بمنعهم من زيارة أبنائهم داخل السجون، ليرتقي أسعد شهيداً وليكون بذلك أحد شهداء الحركة الأسيرة.
يقول أحد الأسرى المعاشرين لأسعد وكلّه حُزنٌ على فِراقه وفَخرٌ بصموده وتضحياته: "كلما تذكرته يتردد في عقلي ما قاله لذلك الشاب "ثمن الحريّة باهظ وفلسطين تستحق، ومن ليس فيه خيرٌ لوطنه ليس فيه خيرٌ لغيره، فلسطين برقبتك، ما تفرّط فيها".


- القصة الفائزة بالمركز الاول في مسابقة ادب الحرية



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى