ميمون حِرش - تلفزة "روديو"

لا أحد يماري بأننا أصبحنا اليوم حيوانات تلفزيونية بامتياز، شغلنا اللازب هو الأوي أمام جهاز يستعبدنا دون أن نشعر، نضيع في خضم شاشاته لنغرق في بحور من قنوات عربية سمينها نادر، أما الغث منها فيربطنا بحبل مفتول طاقيْن:طاق المسلسلات المكسيكية، والتركية،والصينية، كما هو الحال عندنا في تلفزتنا في المغرب، والثاني يزج بنا في غياهب مجموعة من البرامج الحوارية المنتشرة كالطحالب، صحيح أن عناوينها تختلف لكن الطريقة المتبعة في تنشيط فقرات هذه البرامج، لها طلاء عربي خاص ملطخ بكل المساحيق إن غسلت ستتبدى على حقيقتها، ولعل اللون الغالب عليها هو رفع الصوت عاليا لإيصال الفكرة أو المعلومة ضمن ضجيج لا يطاق.
هذه البرامج لها نصيب الأسد من المشاهدة لحضورها اللافت ضمن قائمة المائدة التلفزية،وما يميزها أكثر هو ما تطرحه من ضجيج وعجيج يفلح المنشط في إشعال فتيلهما حين يرمي ضيوفه بسؤال مفتاح يشعل به حرباً بينهم، بينما تُشيب بعض ردود هؤلاء رموش المشاهدين بوابل من التفاهات.. و إذا علمنا أن أكثر هذه البرامج منقولة عن قنوات غير عربية، إذ يكون لها السبق دائماً في طرح الفكرة البكر،أدركنا السر وراء تهافت سماسرة التلفزة لنسخها بدل إنتاج ما يناسب مشاهدينا، ولأنها تملأ دنيا الشاشات وتشغل عيون الناس لا عقولهم، تتهافت عليها قنواتنا العربية في ماراتون هستيري ناظرة إلى الوراء لا الأمام ،وربما أكثر إلى جيوب مشاهديها، وبالمقابل لا تكلف نفسها سوى تغيير الوجوه المنشطة مع الإبقاء على جوهر الفكرة، وغرسها في تربة عربية قسراً لتنبت كوكتيلا من رؤوس مشاهدين، عيونهم خبط عشواء حين ترقب المحطات الفضائية هنا وهناك، أما آذانهم فتعشق- مع العيون لا قبلها كما يقول الشاعر- هذا التلوث، ويحصل ذلك دائما وليس أحياناً، وحين نتعود هذا الهم من المشاهدة ندمنها،وينبت جهاز "التحكم عن بعد" في أيدينا سيجارة مشتعلة، ندمن بها المشاهدة،نفعل ذلك كأمر في بداية الأمر لإبطال الألم الناتج عن عدمها، ثم كواجب تمليه حرقة داخلية ما دمنا نحن من يدفع ضرائب هذا الصندوق العجيب، وفي الأخير نحترف التحملق في شاشات عجيبة تسلب أرواحنا من حنق،وغضب، وعجب، وعلى أصالتنا، وهويتنا لا تبقي ولا تذر.تصبح المشاهدة بالنسبة لنا، والحال هذه، كلذة الشراء تماما( نغضب إذا لم نشتر، ونأسى إذا اشترينا)،نواجه بسببها دائما مصيبتين: الأولى حين نشاهد التلفزة، والثانية حين لا نشاهدها، هما أمران أحلاهما مـــــر.
بعض منشطي البرامج السياسية والثقافية، حين يسيرون حلقاتهم المباشرة يفاجئوننا بهدوء صاخب لا يأتيه سوى المشاهير و"الكبار"، بعضها الأخر، من جهة أخرى،لاشيء فيها يطفو على سطح الشاشة سوى الضجيج والصخب،يتحول بهما المكان كما الحلبة في لعبة "الروديو"،والمنشط لا يركب الحصان الوحشي بل يركب رأسه ليعني ما يقول صارخاً في من يواجهه ضداً على المنطق، والحكمة،والرزانة وكل المشاهدين، همه الوحيد هو ترويض مُحاوره وجها لوجه،أما المشاهد فظهراً لوجه لأنه غير معني أبداً،وهو في نظر بعض المنشطين مجرد ديكور.
ولعل برنامج"الاتجاه المعاكس" مثال حي لهذا العبث أحياناً،إذ كل شيء حاضر فيه من المعلومة، والشتيمة، إلى اللعنة، إلى استعمال الأيدي.. إلا الهدوء الذي يفترض أن يحضر لأن الهدف أولا وأخيراً
يجب أن يخدم المشاهد بحيث يمنحه الرؤية لا سلبها، ورغم أنه أشهر برنامج يستقطب نسبة مشاهدة لا يُستهان بها، فإنه لا يخلف أحياناً سوى التلوث السمعي.
بعض المنشطين يفتتحون برامجهم بلغة جهورية، ممططة ومحنطة من كثرة التنميق،ويجتهدون في أن يجعلوا كلماتهم مجلجلة إلى حد بعيد، هذا يحصل حين يُمرّر الشريطُ أمام عيونهم، أما حين يواجهون الضيوف على الهواء مباشرة تخونهم الكلمات ويغرقون في عبارات ركيكة تصبح مع مرور الوقت لازمة لهم في كل حلقة، وتغدو حالهم أشبه بعاشق، قبل لقاء من يحب لأول مرة، يهيئ خطبة منمقة، لكنه حين التلاقي ينسى نصفها، وحين ينتهي اللقاء يعود ليلوك ليس ما قال بل ما لم يقله.
نحن، عندنا في المغرب، في تلفزتنا( وإخال في تلفزات عربية أخرى)، وضمن ما تطرحه من ترهات في كثير من الأحيان، لا يحدث فقط أن نلحظ تناقضاً حول ما تبثه من موضوعات تافهة لا صلة لها بواقعنا المعيش نحو ما نشاهده في المسلسلات التركية، والهندية،والصينية، بل يجتهد من يختار هذا النوع من الخردة للعمل على تكريسها عبر إعادتها، واختيار وقت الذروة لبثها.. وهكذا تصبح هذه المسلسلات لا تعلمنا كيف ننحرف بل كيف يصح أن ننحرف..و لعل التهميش الذي يعيشه شبابنا،وغرق بعضهم في البحار،وسوء توزيع الثروات،والرشوة والزبونية، وانتشار الجريمة في كل مدننا لم تعد كافية لانحراف صحيح،لذلك تأتي هذه المسلسلات على ما تبقى، وتعلمنا الانحراف الحقيقي، تريده ربما بالألوان وليس مجرد بالأبيض والأسود، تفعل ذلك بإيعاز من مسؤولين يحرصون على تحويل التلفزة إلى تنين ينفث سمومه؛ولعل أقبح ما يتعلمه صغارنا من تلفازاتنا هو إعلان انحرافهم تأسياً بما يُطرح فيها ليس على العلن فقط بل بصوت مرتفع.
لم نعد في حاجة لهذه الخردة من المسلسلات، ولا لهذا النوع من البرامج الحوارية التي يحرص فيها بعض المنشطين على رفع أصواتهم من عبث،يستعرضون بها عضلاتهم، فلا يكفيهم الظهور على الشاشة، بل يطمعون في أن تطفو أناهم على حساب المشاهد.
كلنا أناني، ألف آمنا، لا ننكر ذلك،لكن حين تتجاوزنا هذه الأنانية، وتتسلط على الآخرين بدعوى تميزها بسبب التنشيط أو الظهور في تلفزة تُمَوّل بأموال دافعي الضرائب، تصبح، أنانيتهم- والحال هذه- شاذة، ومتورمة..وتغدو التلفزة بصراخهم مجرد مسخ ليس إلا، أوكالحصان الوحشي في لعبة الروديو الشهيرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى