إدريس زايدي - قراءة في المجموعة الشعرية "وقال الصبّار ارتويت" للشاعرة الجزائرية حسناء بن نويوة

حين يكون الشعر لذة في الكلمات، متعاليا عن صدى الواقع المعيش، يكون الصراع نوعا من أنواع المفارقة بين قطبي القبح والجمال، وبين التحقق والمحال، فلا يسعك إلا أن توسوس لداع خفيّ فيك، عصيٍّ على أن يحدَّهُ المكان والزمان، لأنك تريد به أن تحيا في رفعٍ بعيدا عن وقعٍ، فتختصر المسافة بينك والوضع المتربصِ بحال تقضي أن تجابهه بالكلمات... وتلك سعادة وانتشاء يضارعان تآويل الرؤى، في لحظة تعادل مضمون الزمان والمكان، لعلها حيرة تتأبى أن تلج معارج السقوط والانكسار…
هو الشعر إذن في حضرة الذات الثقافية التي تمتد في الزمان والمكان... ذلك البناء المؤسس على أوتار الصدام والصراع بين الأنا والآخر، حيث تنتصب اللغة تعبيرا عن مخاطب يكون تعلة للمنطوق، بل يخرج في هيئة مقاطع مهما تقَوّل النقد، وذاك من طبيعة التغني الداخلي في شكل موجدة برؤوس اللعنة الشعرية…
هي "حسناء بن نويوة" التي جعلت من شعرية الأنثى سمتًا قمينًا بالكشف عن لعبة الكتابة، حيث الضمير سيد القول في الخطاب والغياب، وهو ما تأسست عليه كثير من النصوص حين تعتمد التكرار في اللازمة المفتتحِ بها المقاطع، وكأننا أمام شذرات دالة على تسبيح الشيخ ساعة يفارقه الحال، فيقول كلاما وهو يتوقع ما يفارقه، حتى غدا الكلام الشعري بناء للمفارقات التي هي من دعائم قصيدة الشذرة أو الهايكو الياباني…
إن النصوص الشعرية للشاعرة، تعبر من خلال العناوين عن شعور بأن عالم الكتابة موزع بين شطرين كما واقع الحياة وواقع اللغة، فالشيء يُعرف بضده كما يقول المناطقة. فالظمأ يحيل على الارتواء، كما يحيل الضوء على الظلام وهلم أمرًا. وهذا في مجمل الديوان يستحضر الفعل ونقيضه، فتكون المفارقة بالفعل كما الاسم أو الحرف، أو ما يخِّفُه الذوق من قدرة على تأويل الأبنية التركيبية والأسلوبية، إلى جانب تقنية عنونة المقاطع، كما في قصيدة "صورٌ محنطةٌ في ذاكِرة المعنى"... وكلها آليات فنية تجعل من نصوص الشاعرة قمينة بأن تُوسم بالحداثية، نصوص تتمرد على المعنى الجاهز لتعطي للقارئ الحرية والمسؤولية في سبر أغوارها والوقوف على مرتفعات الدلالة فيها.
إن اقتراف الشعر ليس بلعبة خارج جنون الكتابة، والجنون أن تتحرر من الموانع حيث المنع والقمع، وحيث لا وجود لغير حرف يسكن أقبية الجلال والجمال، يكون البحث عنه تبئيرا لرؤية يبرمجها التكرار، وهو رغم أدائه الموسيقي، في عرف علم النفس اللغوي تقرير لوضعٍ ناتج عن منطقة مظلمة في العين ومضغة القلب، فيصبح الشاعر باحثا من حيث لا يدري عن منفذ لإسقاط الغبار عن وجوده المادي والمعنوي، فنجد في قصيدة "للتّراب أغفر امتدادي" ذات المنحى الوجودي الذي يلتمس في الشجرة إيناعها أو موتها، يتحقق ذلك الصدام مع الكينونة، ولا يمكن التخلص منه إلا بأن يصبح الضعيف/ الشجرة منبع المغفرة كموقف نفسي ووجداني انفعالي يحاول إشراك المتلقي. تقول الشاعرة "حسناء بن نويوة":
قبل أن أكون "أنا"
وقبل أن تدحرجني الغصّات
على أهداب الهشاشة
كنتُ "شجرة"
أطفالي الأوراق
والجذور عمري الغارب.
...
لأنّي الشجرة
للتّراب أغفر امتدادي.
إن الشاعرة وهي القادرة على فعل المغفرة، تعود في نصوص أخرى لتتمسك بالظل الملازم للذات، فيحتدم الصراع تشكيلا بالاستفهام حيث الرغبة في محادثة الظل كمونولوج داخلي، لا يترجم غير مشاعر الوحدة والانعزال كحال سلوكية غير مرغوب فيها، هي حال التخبط بين الصعود والنزول والسكون. وكأن شيطان الشعر لا يجد لذاذته إلا في الخبط خبط عشواء، دون تحقيق ذلك التوحد بين الجسد وظله، وهذا يجعل من الذات الثقافية تأويلا لذات الشاعرة وتأسيسا لنموذج تكسير نمطية القراءة الخطية، ويصبح التكرار بنية قرائية على غرار شعر كثير من شعراء الحداثة. وفي قصيدتها "رحيل" يصبح التكرار دليلا على طبيعة التجربة الشعرية التي تجعل منه وسيلة بوح لانكسار داخلي متمرد على الذات الهاربة عن نفسها حيث تنزع نحو التشبه بصفات المشبه به، اختيارا لرحيل يشبه السقوط والانهزام والتفرقع وآخر كلمة، كما في قولها:
أرغب في الرّحيل
كعرجون تمر
تساقط من أعلى النخلة.
أرغب في الرّحيل
كجنديّ مهزوم في الحرب.
أرغب في الرّحيل
كفقاعة صابون
تفرقعت في وجه أحدهم صباحًا.
أرغب في الرّحيل
كآخر كلمة تنوء بثقلها على الورقة.
وفي تنامي المقاطع دليل قوي على مركزية التكرار في بناء النص عبر معان جزئية، على القارئ أن يصففها وفق قدرته وإدراكه. أي أن المعنى يتأسس خارج النص حين يصير وجوده نتاجا لتعدد القراءات التي يؤطرها تنامي النفس النصيّ، كما في المقطع المصدّر بالاستفهام والمنتهي بالنفي، حيث جمعت الشاعرة بينهما بتكرار متنام مضيف لجزئيات المعنى التي تنتظر تجميعا والحصول على المعنى الأكبر، وتقول:
ماذا لو تسلّقت ظلّي،
هل سنكون واحدا أو اثنين؟
ظلٌّ يعلو
ظلٌّ يسقط
ظلٌّ ينحسر
ظلٌّ يتقوّس
ظلٌّ ساكن
ظلٌّ يدور
وما من ظلٍّ نتفيّؤه بمنتهى الاكتمال.
إن ديوان "حسناء بن نويوة"، معبر إلى آخر تخوم المعنى، حيث يشكل مجموع النصوص وحدة من مجموع التشظيات التي تترجم انهيارات ذهنية في مقارعة نقد الحال والثقافة والحياة، وكأن العبء الثقافي يختار شكله التعبيري الشعري حرّا خارج منظور الشكل السياسي الكلاسيكي الذي ترضاه لعبة الكتابة الشعرية، فأصبح النص الشعري عند الشاعرة بنية لخرق الجاهز عبر يقظة الوعي بمخاطر الكتابة ساعة يحدق العذاب، فيصبح الشكل الشعري نافذة تتوق إلى مجابهة العالم، عالم القيم التي هزّت عرش القيم الإنسانية.
ولما كان التقديم غير الدراسة النقدية، يلزمنا أن نخبر قارئ شعر "حسناء بن نويوة" أن لا يهتم سوى بقراءته التأملية الخاصة، والتي نعتبرها امتدادا لتأويل نصوص الديوان، دون توجيه مسبَّقٍ قد يُفسد على القارئ لذته. والقراءة بهذا المعنى هي كتابة جديدة للنص، لا غنى للقارئ المجيد عن التسلح بها، خاصة أن شعر الشاعرة تعززه لغة شعرية سليمة، تعتمد على جميل العبارة التي بدون شك هي الصدمة الأولى التي تشدك للاسترسال في القراءة حتى آخر جملة أو مقطع شعري في الديوان. وهو كما تقول الشاعرة: "الشّعر أن تتعرّى منك، وتطأ أرضًا مليئة بالألغام".
هكذا يكون لغم الشعر مجازا، عليه حجابُ شعرية يدركها السابح في متاهها، فيقف بين الضوء وظله ليشكل مشاهد الروح قبل أن يحاصرها العقل المتمرس على المرافعات أمام استعصاء الكشف.
فهنيئا للشاعرة "حسناء بن نويوة" هذا المنجز الشعري الجميل، وللقارئ رسالة القراءة بذائقة ووعي شعريين لا غنى له عنهما. والله ولي التوفيق.


إدريس زايدي / ناقد وشاعر
مكناس - المغرب





1632922821213.png



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى