عبد الرحمان أهري - مقاربة دلالية للحُلم و الوطن في شعر محمد جعفر

يختلف مفهوم كل من الحلم و الوطن من شاعر إلى آخر ، و قد يتعدد عند شاعر واحد، حسب موقفه في لحظة من اللحظات أو فترة من الفترات .و يمكن القول إن الحلم و الوطن في الشعر مجاز يصعب على اللغة تحديد معناه . و لذا فالحلم والوطن حاضران بكثرة في المجموعتين الشعريتين للشاعر محمد جعفر ، الصادرتين عن مطبعة الرباط نت ، و يتعلق الأمر بديوان ( في هفوة الليل أول أسفاري ) الذي صدرت طبعته الأولى في ماي2011، و بديوان ( ابتهالات في مقام التيه ) الذي صدرت طبعته الأولى في فبراير 2017. إن القارئ لهذين الديوانين سيتبين له أن الشاعر محمد جعفر يحلم بوطن ، فيحاول أن يجعل ذاته الشاعرة تتوحد مع الحلم و الوطن ، أي تتشبث بالحلم و تبحث عن وطن له . و يتبين له أيضا أن الحلم و الوطن عند الشاعر متعددان بتعدد الأمكنة ( مكناس، بوذنيب ، الرباط، گرسيف...، ) و الأزمنة التي كتبت فيها القصائد ، و مراحل عمر الشاعر ( العزوبة ، الزواج، الأبوة ).
و لعل الأسئلة التي تراود قارئ هذه السطور أذكر مثلا :
- ما هو الحلم الذي يداعب الشاعر و يتشبت به ؟
- و ما هو وطن حلم الشاعر ؟
- و هل حقق الشاعر حلمه و ظفر بوطنه ؟.
و سأقوم بتسليط الضوء على هذه الأسئلة من خلال المحاور التالية :
المحور الأول : مقاربة الحلم الذي يداعب الشاعر و يتشبث به :
إذا كان حلم الشاعر متعددا بتعدد الأمكنة و الأزمنة و مراحل عمره ، فإنه متنوع بتنوع التشبيهات و المجازات و الاستعارات. فنجد مثلا المشابهة بين الحلم / و العبق والأريج، و الصهوة، و الضحكة، و الأنشودة، و العصافير ، و الذهب، و الشموع، ....
و الغالب في هذا التنوع هو الاستعارات فالشاعر محمد جعفر استعاراتي بامتياز ، لأنه يصوغ شعره على إبداع استعاراته بكلمات قوية و جميلة و قاموس لغوي يكشف عن سعة إطلاعه بفنون الشعر . فهو لا يدعي قول الشعر بل يبدعه .
يقول مثلا في قصيدة ( هذا ظلي ) من ديوانه ( في هفوة الليل أول أسفاري ، ص : 11) :
هَذَا ظِلِّي
وَ أَنَا الْمَهْوُوسُ بِتَرْنِيمِ الْمَوْجِ
أَهُشُّ عَلَى حُلُمِي
مَا شِئْتُ
وَ أُبْقِي أَشْرِعَةَ الْقَلْبِ الأخْضَرِ
جَذْلَى تَحْتَرِفُ الصَّمْتَ الأبَدِيَّ
وَ أَحْسَبُنِي كَرَذَاذِ الْعِشْقِ يُلَمْلِمُ أَشْجَانَ
الْوَلِهِينْ
فَأَرْكَبُ سَهْوِي كَيْ
أَسْلُو عَبَثَ الأَوهَامْ.....
فهذا المقطع الشعري يحيلنا إلى قوله تعالى : { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَ أَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي } [ طه 18 ] .فإذا قرأنا المقطع الشعري على ضوء الآية الكريمة سيتبين لنا أن الشاعر وظف بطريقة جميلة الاستعارة خاصة المكنية حيث أن المستعار منه( عصاي و غنمي ) حذف و ذكر ما يرمز له من لوازمه و هو فعل ( أَهُشُّ ) الذي يعني عند المفسرين : أهز بعصاي الشجرة ليسقط ورقها لترعاها غنمي. و بذلك يكون الشاعر يهش على حُلُمه بترنيم الموج من بحر العشق الذي يلامس رذاذه قلبا أخضرا هادئا و ساكنا. و يقيم حدا فاصلا بين الحلْم و الوهم .
و في بعض المقاطع يشبه الشاعر الحلم بالغرق في دموع عيني الأنثى ، فيقول مثلا في ديوان ( هفوة الليل أول أسفاري ، ص : 41) :
أَتَوَارَى نَسِيمًا
يُدَاعِبُ جَفْنَيْكِ ،
فَأَحْلُمُ أَنِّي تَلَاشَيْتُ فِي عَبَرَاتٍ
لَكَمْ ذَرَفَتْهَا عَينَاكِ ...
( من قصيدة : تَأهُّب ..)
و يقول أيضا في مقطع من قصيدة ( هِيَ مَالِكَتِي .. ) في ديوان ( ابتهالات في مقام التيه ، ص : 37) :
هِيَ أَحْلَامِي
تَنْمُو في لَيليِ أَنْهَارًا
مِنْ عِشْقٍ أَحْمَرْ
يُغْرِقُنِي فِي عَيْنَيْهَا عَبَقًا أَخْضَرْ...
هذه الأنثى قد تكون إمرأة أو قصيدة فهما شبيهتان في الحب لأنهما حبيبتان إلى قلب الشاعر.
و في مقاطع أخرى وصف الشاعر الحلم بأوصاف و مشبَّهات أذكر مثلا بعض الجمل المستأصلة من ديوان ( ابتهالات في مقام التيه ) :
- يَغْتَالُونَ الْحُلْمَ الْأْبْهَى ( ص: 25)
- تُثِير (أي صحبة ) حُلْمِي شُمُوعًا مِنْ سَنَا الْمَطَرِ ( ص: 43 ).
- تَمُرِّينَ جَفْلَى بِحُلْمٍ وَدِيعٍ ( ص: 65).
- يَجِيئُكِ حُلْمِي عَصَافِيرَ.. ( ص: 67 ).
- وَ جِئْتُكِ بِأَحْلَامٍ مِنْ ذَهَبٍ..( ص : 73 ).
و بذلك يكون حلم الشاعر مرادفا للعشق، و الحب، و الأمل، و الحياة ، النور ، و لكل ما هو نفيس ...
و الشيء الجميل الملفت للإنتباه في شعر محمد جعفر هو أن لهذا الحلم لونا أخضرا .
يقول الشاعر مثلا : من قصيدة ( بَيْنَ الْإِغْفَاءَةِ وَ الْأُخْرَى..) في ديوان ( ابتهالات في مقام التيه ، ص : 22 ) :
لَا تُثْقِلْ كَاهِلَ هَذَا الَّليلِ
فَمَا بَيْنَ الْإِغْفَاءَةِ وَ الْأُخْرَى
قَدْ يَكْبُرُ حُلْمٌ أخْضَرْ
قَدْ تُورِقُ أَوْجَاعٌ رَعْنَاءْ..
و يقول أيضا في قصيدة ( شهد..) من نفس الديوان ( 91) :
هِيَ كَالْعَادَةِ - مُذْ كُنَّا حُلْمَيْنْ -
تَبْنِي سِرًّا
وَطَنًا لِلْعَاشِقِ وَ فِي
الْجَهْرِ تُخَبِّئ شَوْقًا يَكْبُرُ كَالْحُلْمِ
الْأَخْضَرْ...
اختار الشاعر اللون الأخضر لحلمه لأنه يعتبره سر الحياة و اللون المناسب لحلمه . ففي علم النفس يعتبر اللون الأخضر من الألوان المهدئة ، حيث يبعث على الطمأنينة و الهدوء و السكون ، والأمل . و يساعد على وضوح الرؤيا .فالتشبث بالحلم و البحث عن الوطن يلزم وضوح الرؤيا . و لن يكون هذا الوضوح إلا إذا كان القلب يتناغم مع الحلم ، و بذلك اختار الشاعر اللون الأخضر لقلبه . يقول في مقطع من قصيدة ( عيناك مدن للحلم ...) في ديوان ( في هفوة الليل أول أسفاري ص : 34 ) :
يَا سَاكِنَةَ الْقَلْبِ الأخْضَرْ
مُدِّي شَوْقَيْنَا لِلرِّيحْ
سَيِّجِي الأحلَامَ الجَفْلَى
فَأَنَا لَمْ أَدْخُلْ فِي التَّارِيخِ الْأَغْبَرْ
قَلْباً يَشْدُو لِلأشْجَانْ.
و قد كرَّر الشاعر الجملة ( يَا سَاكِنَةَ الْقَلْبِ الأخْضَرْ ) في المقطع الأخير من نفس القصيدة ( ص 35) لإثارة القارئ و لغرض إيحائي و هو أن سيدة أحلامه و مشاعره و آماله تسكن قلبه الأخضر الهادئ .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى