د. زهور بن السيد - متعة السفر ولذته ومكنوناته في رحلة "أن تسافر" للعربي بنجلون

يطالعنا كتاب العربي بنجلون، موضوع هذه الدراسة، بعنوان شيق: "أن تسافر"، يحمل هذا الأخير من الدلالات ما لا يمكن تحديده بالقراءة والتحليل، بل بممارسة السفر وركوب سبله، وتذوق لذته ومتعته واكتشاف العالم والناس والحضارات والأشياء...
والعنوان بمعناه المباشر دال على التنقل والترحال، ويحمل بذلك مؤشرات دالة على جنس المؤلف، وهو أدب الرحلة، الشيء الذي يؤكده الكاتب بقوله: "وفي هذه الرحلات، التي عنونتها ب((أن تسافر...)) بمعنى ستشاهد ما لم تراه عيناك، أو تسمعه أذُناك من قبلُ، سيلمس قارئها عناصر مشتركة بينها، هي المكونة لمفهوم الرحلة."
هكذا، وبدورنا سنسافر مع العربي بنجلون عبر كتابه إلى الأماكن الواقعية التي زارها في الشرق والغرب وآسيا وإفريقيا، ونلتقي مع الشخصيات التي التقاها وصاحبته في رحلاته، ونجوب معه دروب مختلف الموضوعات التي أثارها، فالكتاب سفر في المجال الجغرافي والثقافي والحضاري والديني والاجتماعي والسياسي ...
يتكون هذا الكتاب من مقدمة وخاتمة ومتن الرحلة وهو عبارة عن اثنتا عشرة سفرا.
صدَّر العربي بنجلون كتابه بمقدمة تحت عنوان "خطوات أولى"، حدد فيها متن الكتاب وجنسه، ودواعي السفر وكتابة رحلته، وموضوعاتها، وبعض خصائص الخطاب (البناء والأسلوب...)
يحرص العديد من المبدعين على وضع مقدمات لمنجزاتهم، تكون في الغالب بمثابة تأطير، يقدمون فيها إشارات عن المضامين والخصائص الفنية والتجنيس وغير ذلك من مقومات العمل, وكأننا بالكاتب يوجه القارئ إلى وجهة محددة لا ينبغي له أن يحيد عنها. إن النظريات النقدية التي اهتمت بمفهوم القراءة, ومنها جمالية التلقي ترى أن العمل ينفتح على قراءات متعددة, ولا مجال للقراءة الواحدة, يقول علي حرب: "إن القراءة هي، في حقيقتها، نشاط فكري/لغوي مولد للتباين، منتج للاختلاف، فهي تتباين، بطبيعتها، عما تريد بيانه، وتختلف، بذاتها، عما تريد قراءته."
إن مهمة القارئ هي كشف مكنونات العمل الإبداعي، وشحذ الوسائل والممكنات لفك رموزه وقراءة إشاراته، وعليه "أن ينظر إلى النص بكل العيون لا بعين واحدة وأن يتحسس النص بكل الحواس لا بحاسة واحدة، المهم في كل هذا أن هذه القراءة تبصر بعيونها عيون النص، وتدرك بوعيها وعي النص، والأهم أن هذه القراءة تقرأ النص بعيونه وتتعمق في ما تخفيه تلك العيون من أسرار وسرائر لا يعرف قيمتها إلا من يكابد شوق الوصول إليه"
في المقدمة حدد العربي بنجلون متن كتابه بقوله: "يحتضن هذا الكتاب نزرا يسيرا من جملة أسفار ورحلات, قمت بها نحو الدول العربية والغربية والأسيوية, ولم أدرج فيها إلا ما سنحت لي الظروف بكتابته." وقدم إشارات حول محتوى الكتاب، يقول: "وركزت على إقامتي في ديار الغربة، وما لفت نظري، سواء في السلوك البشري، أو في طبيعة البلد المختلفة عن بلدي وحاولت أن لا أفرط في شيء... " . كما قام بالكشف عن موضوعات رحلاته بقوله: "... توظيفي لموضوعات متنوعة منها الديني والثقافي في رحلتي لمصر والسياسي في سفري إلى فرنسا وليبيا وتونس، والاجتماعي لهولندا وألمانيا واليابان.. فضلا عن توسلي بأشكال سردية غير السير الذاتي كالقصة والرسالة والخطابة"
وبعد ذلك انتقل إلى تجنيس منجزه، حيث صنفه ضمن أدب الرحلة، يقول: ".. ففي هذه الكتابة الرحلية، التقطت ما وقفت عليه، وشاهدته بعيني..." . وكذا مناقشة قضية الرحلة وخصائصها وعلاقتها بالأجناس الأدبية المرتبطة بها. فوفر على الناقد جهد الخوض في هذه النقطة الشائكة, فإشكالية التداخل بين الأنواع من القضايا المعقدة التي واجهت التفكير النقدي الغربي والعربي.
وكثيرا ما أثير النقاش حول ما إذا كانت الرحلة تنتمي إلى الأدب أم إلى التاريخ والتسجيل. أما العربي بنجلون فقد حسم المسألة بتصنيفها ضمن النصوص الأدبية، السرد تحديدا، يقول: "ولقد حاولت ما أمكنني ألا أكرر التجارب الماضية في هذا الجنس السردي الأثير" . ويَعتبِر الرحلة جنسا أدبيا جديدا في الأدب العربي، مقارنة مع ما كانت عليه في الماضي البعيد، يقول: "والرحلة وإن عرفت منذ ظهور الإنسان على سطح الأرض، فإنها كجنس أدبي جديد نسبيا، مقارنة بالأجناس الأخرى." . ويؤكد أنها كجنس أدبي، لم تستقل عن الأجناس الأخرى التي تدخل في مجالها وتلتبس بها، كالتاريخ والجغرافيا والسيرة الذاتية، إلا في عصرنا الحديث، ومن ثمة أصبح يطلق عليها أدب الرحلات.
ويعرف العربي بنجلون الرحلة على أنها "فن سردي، يتخذ السفر موضوعا له، وليس تدوينا تاريخيا وجغرافيا صرفا، بعيدا عن الأدبية." "، ويؤكد على أنه تعريف غير شامل، وأن الرحلة تظل عصية على التنظير والتجنيس، "لأنها عالم شاسع لا حدود له". ومن منطلق ممارسته للكتابة الرحلية، لا يوافق الكاتب مطلقا الذين يعتبرون الرحلة مقالة ترتكز على العقل والفكر الخطابي، وتبعدها عن المتخيل السردي، ويرفض اعتبارها خطابا هجينا، ورأى في تبنيها للأجناس السردية "تحررا من قيد الجنس الواحد، فتحتضن كل المضامين والأشكال، ليجد فيها القاص نفسه، وكذا الروائي والناقد والسياسي والجغرافي والمؤرخ وعالم الاجتماع... كل منهم يستقي ما تشتهيه وترغب فيه ذاته. فاسمها ينطبق على خطابها, ومن موضوعة معينة إلى أخرى, جامعا بين خيوطها المتفرقة، وفي ذلك، تظهر لنا براعة الكاتب الرحالة."
وفي نهاية مقدمته، يكشف الكاتب عن العناصر المشتركة في رحلاته، وتتمثل أولا في بنيتها التي تقوم على السير ذاتي، وثانيا واقعية أسماء الأماكن سواء التي انطلق منها أو التي انتهى إليها، وثالثا توظيفه لموضوعات متنوعة، منها الديني والثقافي والسياسي والاجتماعي، إضافة إلى توسله بأشكال سردية كالقصة والرسالة والخطابة إلى جانب السير الذاتي.
وجاءت خاتمة الكتاب تحت عنوان "رحلة حياة.. وكتابة، يستعرض فيها الكاتب رحلته مع الكتابة الأدبية، خاصة أدب الطفل بمختلف أجناسه (القصة والمسرحية والشعر)، ومجالات أخرى كالنقد (مقالات وكتب نقدية)، مشيرا إلى الجوائز التي حاز عليها، وقدم قائمة بمؤلفاته الإبداعية، والنقدية وأعماله الأدبية في التربية غير النظامية، وفي أدب الطفل، وهي قائمة طويلة من الأعمال المنشورة. وتنم على أن الكاتب قامة كبيرة في الكتابة الإبداعية والنقد والمتابعة الأدبية.
ما بين المقدمة والخاتمة، يتمركز متن الرحلة، وهو عبارة عن مجموعة من الرحلات بعناوين مشوقة، تثير فضول السفر فيها لاكتشاف مكنونها، وهي على التوالي: الإسكندرية.. حبي الأول ـ من البحر إلى النهر ـ في ليبيا .. دفنا الماضي ـ الأردن .. أمنا الشاعرة ـ إرهابي في الكويت ـ المغربي البحريني ـ قصتي مع لحيتي ـ أن تُسْرى إلى قطر ـ طوكيو.. جسر الأحلام ـ أمستردام.. امرأة مستباحة ـ برلين.. وردة بلا رائحة ـ العودة إلى النبع.
وهكذا سأقوم في هذه القراءة بالتوقف عند بعض ما اشتمل عليه هذا السفر من محطات جديرة بالاهتمام والتمحيص، ومنها:
ـ القيم الإنسانية الراسخة.
ـ الطبيعة والعمارة.
ـ الثقافة والقراءة والفنون
ـ التوجه النقدي في الكتاب
ـ الخصائص الفنية في رحلة "أن تسافر"
ـ خاتمة
1 ـ القيم الإنسانية الراسخة:
أشاد الكاتب بقيم الأصالة والتعامل الراقي والكرم والسخاء الذي ليس شرطه الغنى، في الإنسان الإسكندراني، هذه القيم التي ظلت راسخة لديه، لم تتغير مع مرور الزمن. فبين رحلة الكاتب الأولى إلى الإسكندية عام 1970 ورحلته الثانية سنة 2011، تغير الكثير من وجه المدينة وملامحها، أما "الإنسان الأسكندراني لم يتغير طبعه، برغم مرور السنين، فمازال سخي اليد، باسم الوجه، عذب اللسان. وسواء كان عاملا بسيطا أو موظفا ساميا..."
ووقف بإكبار أمام قيمة الوفاء، التي وجدها في النصب التذكاري للجندي المجهول على قارعة الطريق على مشارف البحر بالإسكندرية، وتماثيل لأدباء ومفكرين وفنانين في الحدائق العمومية، وقال: "أليس ذلك دليلا على الوفاء لمن طوروا الفكر، وهذبوا الذوق، وأقاموا العمران، وحموا البلاد، ومثالا حيا، يعطى للأجيال، فتقتدي بهم، وتحتذي حذوهم؟" .
ومن القيم الإنسانية العليا التي سجلها الكاتب بإعجاب شديد، قيم التضامن والتعايش، التي وجدها في طوكيو، حيث لكل حي جمعية من سكانه تسهر على نظافته وحراسته وتشجيره، وحمايته من الجرائم، والإشراف على مهرجانات ترفيهية وثقافية, وعلى تدريبات لمواجهة الكوارث الطبيعية، الزلازل على رأسها، يقول: "وهذه الأنشطة المتنوعة, تولد الشعور الإنساني بالتضامن والتعايش بين كل السكان والوافدين من الدول الأخرى" .
ومن القيم النبيلة التي تأثر بها العربي بنجلون، الأخلاق المغربية الأصيلة التي لمسها في المغربيين، بالكويت، مدير فندق (مريديان) وكاتبه، بتآزرهما وتعاملهما الراقي معه خلال إقامته بالفندق عقب زيارته للكويت.
وكذا القيم الوطنية وروح الانتماء والتضامن والحب والاعتزاز بالوطن، وتتمظهر فيما وقف عليه الكاتب في الأردن، يقول "فأينما وليت وجهك، ثمة شعار على الجدران: (الأردن .. أمنا).. هي الأم الحنون، التي أنجبت شعبا متعلما ومتخلقا، وعاملا نشيطا، واحتضنت الفلسطينيين، فأصبحوا فِلْدات كبدها.." من هذا الانتماء الراسخ للوطن، يستمد الأردني الشموخ والاعتزاز بالنفس، يقول الكاتب: "ولهذا ترى الأردني يسير بارز الصدر ((منتصب القامة، مرفوع الهامة)) ويحدثك بصوت جَهْوري، وبلغة تخلو من أي لفظ أجنبي، مما يعزز الانتماء للأرض والوطن واللغة العربية الجميلة والقيم الإنسانية النبيلة." .
وهذه القيم العظيمة لا تأتي من فراغ، بل هناك عوامل متعددة ترسخها، ففي النموذج الأردني تدرج القيم في المناهج التعليمية، "ففي كل صبيحة، تخصص حصة، مدتها ساعة، يلتقي فيها الأطفال بفناء المؤسسة، وهم يرتدون زيا عسكريا، ليرددوا الأناشيد، والأحاديث والآيات والحكم، ويُصغوا إلى كلمة اليوم التوجيهية، ويؤدوا تحية العلم الوطني، والحركات والإشارات العسكرية.. وكل ذلك ينمي فيهم روح الانتماء والتضامن والاعتزاز بالوطن والمثل العليا، ويحفزهم على العمل والبناء."
2 ـ الطبيعة والعمارة:
من محطة القيم إلى محطة الطبيعة والعمارة، حيث يأخذنا الكاتب في رحلات سياحية شيقة، نكتشف معه سحر البلدان والأماكن التي زارها، سواء على مستوى الطبيعة فيها، أو على مستوى العمارة والمنشآت، القديم منها والحديث.
وقد أسعفته آلية الوصف إلى حد كبير في نقل الصور والمشاهد التي تركت في نفسه تأثيرا عميقا، ففي كل رحلة نجد وصفا مشوقا مغريا بالزيارة للمدن والأحياء والشوارع التي ينقل لنا منها تلك المشاهد.
وصف العربي بنجلون الطبيعية المتنوعة والمناظر الخلابة والحدائق التي سحرته، ومن ذلك البساتين والجنائن الكثيرة، والحدائق الجميلة (الأندلس والسليمانية والمائية ومحمية العرين) في البحرين . والصحراء، منطقة (الشحانية) بقطر، والتي تبهر بتشكيلاتها الجيرية المتكلسة، والسهول الرملية التي تحفها منحدرات جيرية بيضاء، ناهيك عن المناظر الطبيعية، في طوكيو وغيرها، جبل (فوجى)، والبحيرات الخمس التي تحيط به.
أما حديث الكاتب عن المدن التي حل بها، فمتعدد الأوجه والمظاهر، غني بفضاءات التنقل، شيق ومفيد بما يركز عليه في وصفه، ويقدمه من قراءات ومواقف حولها. ومن ذلك طابع المدن العربية، المشترك منه والخاص، كإبرازه للتماثل بين الإسكندرية المصرية وطنجة المغربية ، وتشابه المدن في الدول العربية عموما، خاصة المدن العتيقة والغنية بأصالتها وأسواقها التقليدية ، سور الأزبكية مثلا بالقاهرة يشبه أسوار المدن المغربية العتيقة، كفاس ومكناس ومراكش وآسفي وتزنيت وتارودانت... . ووصفه للعمارة الحديثة وأشكال البناء فيها، كناطحات السحاب الضخمة والبنايات العملاقة في قطر، يقول الكاتب: "... الزحف العمراني الذي تخاله ضربا من الخيال العلمي في شريط سينمائي" . وأسواقها، كسوق (واقف). إضافة إلى وقوفه على التغيير الذي طرأ على المدن العربية بين الأمس واليوم، الإسكندرية مثلا عرفت تحولا مهولا في العمارة الحديثة، يقول: "أما اليوم, فما شاء الله، أصبحت قارة سادسة، تفزعني بنمومها المتزايد، حتى أصبحت من أهل الكهف، كأنني لم أرها من قبل، (...)" . وكذلك أبراج الكويت ووصفه لهندستها المعمارية ونظامها ومهامها.
ومن المدن العربية، إلى المدن الأوربية والأسيوية (أمستردام ـ برلين ـ باريس ـ طوكيو). نقل لنا الكاتب منها صورا ومشاهد، كجسر الأحلام في طوكيو، حيث قطعناه معه على عربة تُجر باليد، وانخرطنا في معتقدات اليابانيين، عالم من السحر والأسطورة والحلم والغرابة. ومن هذه الأجواء الروحانية الساحرة، إلى الصخب والمنشآت بنوعيها العتيق والحديث في مدينة طوكيو "إنها مدينة متعايشة مع الثنائيات الضدية" مدينة مثيرة للدهشة والانبهار، يقول الكاتب: "أذكر لحظتي الأولى لنزولي من الطائرة في مطار (ناريتا) (...)، فقد وقعت في دوامة من الدهشة والانبهار الشديدين.. لم أكن أدري أأنا في بلاد عتيقة بآثارها ومعابدها وقصورها ومتاحفها العجيبة، أم في بلاد حديثة بعماراتها الناطحة للسحاب، ومحلاتها الضخمة، التي تعرض آلاتها وأجهزتها التكنولوجية؟... " . والشوارع والأزقة النظيفة والمزينة بالحدائق، والهواء, وكل هذا يبعث الطمأنينة والهدوء والأمان في النفس.
3 ـ الثقافة والقراءة والفنون:
تستحوذ الثقافة والمعرفة والقراءة على حيز كبير من مسرود العربي بنجلون. فهي من أكثر الأشياء التي تستوقفه بالمدن والبلدان التي يزورها، وتبعث السرور في نفسه إذا توفرت بكثرة وتميز. ولا نستغرب حين نجده يوجه مخاطبه القارئ إلى زيارة أماكن محددة مكتظة بمشارب الثقافة والفن والفكر والجمال، يقول في رحلة "أمستردام.. امرأة مستباحة": "وإذا قصدت امستردام ولم تزر شارع دامراك، فكأنك لم تزرها بالمرة.. ذلك أن هذا الشارع، يحتوي تماثيل لشخصيات علمية وسياسية واجتماعية (...). وعلى قصور ودور تاريخية، ومتاحف للوحات تشكيلية ..."
وهكذا يركز العربي بنجلون في ما نقله إلى قرائه، على يوميات حضوره الملتقيات والندوات الأدبية، وعلى زياراته للمنشآت العلمية والثقافية (المتاحف والمكتبات والمسارح والمدارس والمعاهد... ).
تعد رحلة "من البحر إلى النهر" رحلة ثقافية بامتياز، بعثت السرور في نفس الكاتب، لوفرة ما وجده من أسباب المعرفة والثقافة بالقاهرة في أول رحلة له إلى مصر، واعتبر ما صادفه على سور الأزبكية من كتب ومجلات وجرائد، كنوزا
لقد كانت مصر منارة للعلم والفكر والفن والأدب، وقِبلة للمثقفين والأدباء والفنانين، من كل بقاع العالم العربي (المغرب والجزائر وتونس وسورية والسودان وفلسطين...)، يحضرون ويشاركون في الندوات الأدبية بالقراءات الشعرية والقصصية والمناقشات والنقد..
وتحظى الشخصيات الأدبية والفكرية عربية وغربية، روائيين وشعراء ونقاد وغيرهم، بتقدير كبير وتكريم خاص في رحلة العربي بنجلون. فقد ذكر عددا هائلا منها في كتابه.
فلا يحل العربي بنجلون بمدينة إلا ويبحث عن المكتبات فيها، يزورها ويقتني منها ما يحتاجه من الكتب، ومنها مكتبة الاسكندرية التي اعتبرها "هرما آخر من أهرام مصر"، ومكتبة مدبولي بشارع طلعت حرب بمصر، وعدد من المكتبات في الأردن وتونس، وألمانيا وأمستردام (المكتبة المكونة من أربعة طوابق)... وهناك أيضا دور السينما والمسارح، التي اعتبرها العربي بنجلون، في تقييم ارتياده لها وحضور أشهر المسرحيات العالمية في فترة السبعينيات، رافدا من روافد الثقافة والنهل من المعرفة والأساليب الصافية.
ويذكر المتاحف، ويشير إلى محتوياتها النادرة والمدهشة، كالمتحف المصري الذي يوجد في ميدان التحرير، والذي تتطلب زيارته أياما وأسابيع، كما قال الكاتب، و(متحف الحياة) بالبحرين الذي أثار دهشته بما يحتضنه من مخطوطات نادرة, ومكتبة تضم أكثر من أربعين ألف من أمهات الكتب. ومتاحف أخرى بالبحرين مثل (بيت سادي) و(المتحف الوطني) اللذين يحفظان تحفا تجسد الحضارة البحرينية. و"متاحف قطر ومعارضها الفنية التي تنتشر في أحيائها، وفي قريتها الثقافية (كتارا)"، ومنها وأهمها (متحف الفن الإسلامي) و(المتحف العربي للفن الحديث). والمتاحف في ألمانيا، حتى أنه أطلق على شارع طويل كان يرتاده صباح مساء اسم (شارع المتحف), لأنه كان يحتوي على العديد منها. والقصور والآثار والمتاحف "العجيبة" في طوكيو.
ومن المظاهر الثقافية ذات القيمة الكبيرة في المشهد الثقافي في الدول العربية، المقاهي الأدبية التي تحتضن اللقاءات الثقافية، وقد تتضمن مكتبة، وتزين جدرانها بصور شخصيات فكرية وسياسية وفنية عالمية، ومطويات دليل الأشربة والأطعمة تحتوي على قصائد شعرية. ويذكر الكاتب مقهى الفيشاوي ، ومقهى "جفرا" بعمان بالأردن، "المقهى الرومانسي الذي يعود بك إلى عصور الشعر الزاهية. ففي دليله الذي يقدم للزبائن, قصيدة طويلة للشاعر عز الدين المناصرة..." ويضيف أنه مقهى فريد من نوعه.
وعنيت رحلة العربي بنجلون عناية كبيرة بالآثار، الشاهدة على الوجود المادي الإنساني، وتطوره، ومنها الآثار الموجودة في المتاحف، كالمتحف المصري الذي يضم قطعا أثرية "تظهر تطور الفن المعماري المصري عبر العصور." ، والأسواق الشعبية وما تعرضه من تحف نحاسية وحلي كما في خان الخليلي بمصر. والأماكن التاريخية التي تتيح للزائر السفر عبر الزمن، فرحلة نهرية عبر النيل، تتيح للسائح مشاهدة "المراحل التي قطعتها الحضارة المصرية من بزوغها إلى نشوئها في القرية الفرعونية" ، وفي الأردن تتيح المآثر التاريخية "السفر عبر الزمن ليشاهد حضارات سادت ثم بادت، من عمونية، ومنها أتى اسم (عمان) إلى رومانية وبيزنطة وأموية وعباسية..." . ومن الآثار العظيمة التي زارها الكاتب بالأردن مدينة البتراء، والعديد من الأماكن ذات الطابع الثقافي والسياسي والتعليمي والتاريخي.. بالكويت، ومن المعالم التي لم تمح من ذاكرته بها على حد قوله، (بيت القرين) أو(متحف القرين) الذي يسجل واقعة مقتل أحد عشر مقاوما على يد الجيش العراقي. وفي ليبيا تعد المدينة الأثرية صبراتة، "من الآثار الفينيقية الرومانية العظيمة"، و"تجسد التعايش بين الحضارتين، الفينيقية الكنعانية والرومانية، ومازالت تتحدى الدهر، بمسرحها الضخم, وممراتها الفسيحة، وأعمدتها العالية ومدرجاتها وأقواسها الرخامية، وتماثيلها التي تخلد قادتها وأبطالها." .
تكشف أسفار العربي بنجلون عن التفاوتات الثقافية بين الدول العربية، ففي الوقت الذي تزخر فيه مصر والأردن والبحرين وقطر بأشكال ومظاهر الثقافة والأدب والفن، تفتقر دول أخرى، لأسباب سياسية على الأرجح، إلى الحد الأدنى من المنشآت الثقافية والعلمية، كليبيا التي أحس فيها الكاتب بالملل والتذمر بسبب غياب المكتبات، يقول: "لقد أحسست بالقرف والغثيان، وأنا أذرع، يوميا، الساحة الخضراء ذهابا وإيابا، كأنني رقاص ساعة حائطية. لم أجد ما أقرأ إلا الملصقات الطويلة العريضة المعلقة، هنا وهناك، والحاملة لشعارات ضخمة، تفتقت عن عبقرية قائد ليبيا..." . ولم يضمد جرحه النفسي، على حد تعبيره، إلا جولته في المدن الأثرية صبراتة. "فليبيا لا تملك من حطام الدنيا إلا تلك الآثار الباقية، ونضال الشيخ عمر المختار."
وهناك أيضا فرق شاسع بين الدول العربية وبين الدول الغربية حول سياسة المجال العلمي والثقافي، ففي الوقت الذي لا تولي فيه الدول العربية في سياساتها أهمية محورية للبحث العلمي والثقافة، نجد الدول الغربية تضع استراتيجيات واضحة المعالم ومحددة الأهداف، من أجل ترسيخ الفعل الثقافي والعلمي في بلدانها. وفي هذا الصدد، يسجل الكاتب بإعجاب شديد ما عاينه في ألمانيا من أساليب تقريب المعلومات والحقائق التاريخية من الراجلين، وذلك بوجود أرصفة، أرضيتها زجاجية وتتضمن الوثائق والاتفاقيات والمعاهدات التاريخية، والصور والرسوم والخرائط تحت الصفائح الزجاجية، وهم بذلك يتيحون للمارة الاطلاع عليها، فقد لا تتاح لهم الفرصة لزيارة المتاحف .
ومن مؤشرات إعلاء الغرب من شأن الكتاب والقراءة، ما وقف عليه الكاتب بمتحف صغير أثناء تواجده بألمانيا، يحتوي على تمثال لامرأة مع ابنها تقرأ له في كتاب، قصتها أنها أثناء مهاجمة الحلفاء لألمانيا وتدميرها في الحرب العالمية الثانية، وجدها الجنود تحت الأنقاض تمسك كتابا تقرأ لطفلها منه قصة. ويستحضر أيضا ما شاهده لدى اليابانيين في قطار الأنفاق من ولعهم بالقراءة، يقول: "ويستحيل أن تشاهد فيه يابانيا راكبا ولا يقرأ كتابا أو مجلة،..." . وعندما كان يتجول بشارع تجاري بأمستردام، أثاره أن يجد كاتبا "بلحمه وعظمه" كما قال، واقفا في وسط الطريق وأمامه كومة من نسخ كتابه، يوقع النسخة لمن أراد أن يقتنيها. إنه مشهد لن تجد له نظيرا عندنا في الدول العربية. ومن عادات ترسيخ القراءة لدى البلدان الغربية التي زارها العربي بنجلون، ما شاهده بهولندا على متن القطار: مكتبة ضخمة، وشاعر على المنصة يقرأ قصائده على الحاضرين من الركاب، ويوقع لهم نسخا من ديوانه، وعلم أن إدارة الخط الحديدي تنظم لقاءات أدبية خلال رحلاتها، كما بإمكان الراكب أن يستعير من هذه المكتبة أي كتاب يريده، ويرجعه إلى أي مكتبة بمدينته، فالمكتبات الهولندية متصلة مع بعضها عبر الشبكة العنكبوتية. كما أن هذه المكتبات توفر الكتب لمنخرطيها في حالة ما وجد أحدهم بالمستشفى.
هكذا يتدرج العربي بنجلون سالكا الطريقة الحجاجية، فيعرض المقدمة تلو المقدمة ليصل بقرائه إلى النتيجة التي لا تقبل الشك، داعيا إياه إلى الاستنتاج، يقول:"هل تدرك، سيدي القارئ، الآن، كيف تقدمت الدول الأوربية، وكيف تخلفت الدول العربية، ومازالت ترتع في مستنقع التخلف؟..
ولا يذكر الكاتب هذه المظاهر والاستراتيجيات، إلا وهو يتحسر على الواقع العربي الذي لا تحظى فيه القراءة بالاهتمام الفعال. لقد لفت انتباه الكاتب وهو بمكتبة التراث بقطر، أن فعل الأمر يكثر على جدران بعض المتاحف: "أبدعْ، فكرْ، اِكتشفْ، تطورْ، تعلمْ...." لكنه لم يرَ فعل (إقرأ)، والقراءة عنده "هي المدخل الأساسي للتفكير والإبداع والاكتشاف والتطور... ولولا القراءة، منذ الصغر، لما حققت الدول الأوربية هذا التقدم الهائل في كل المجالات." .
ولا تقتصر القراءة في رأيه على إنشاء المؤسسات والمعاهد والكليات، وإنما "هي تعليم ذاتي، يولد الرغبة في التنمية والتطور، ويمنح القارئ طاقة من التفكير والخيال المنتجين، وإن لم يكمل تعليمه". وأن "القراءة، في المنظور التربوي العام، تعزز دور التعليم وتكمله، ليصير ذا فعالية وإنتاجية كبيرتين."
5 ـ التوجه النقدي في رحلة "أن تسافر"
سعى الكاتب من خلال رحلته إلى تعرية بعض السلوكيات السلبية المتفشية في المجتمعات العربية وحتى الأوربية، والدعوة إلى تقويمها. فنجده يقدم انتقاداته في شكل مواقف وآراء، إما بشكل صريح ومباشر، أو عن طريق السخرية، أو المفارقة، أو المقارنة، وجعل المتلقي العربي يستخلص النتائج والعبر بنفسه. ومن ذلك، تحسر الكاتب بعمق عن الهوة الكبيرة بيننا وبين الغرب حول قيمة الكتاب ومكانة القراءة، ففي الوقت الذي يَثْبُتُ أن القراءة هي أحد أسرار تقدم أوروبا وأمريكا واليابان والصين، ندعو نحن العرب إلى محو الأمية "أي إلى معرفة كتابة وقراءة الرسائل والعناوين والبطائق والأسماء والأرقام، وما شابه ذلك، لكننا لا ندعوهم إلى مطالعة أمهات المؤلفات والكتب الموسوعية الأدبية والفلسفية والعلمية والسياسية.."
وبسخرية انتقادية في التعبير، يشجب الكاتب تراجع المد الثقافي في بعض الدول العربية كمصر، ممثلا بمحلات الكتبيين التي تتجه إلى الانقراض، يقول: "وهؤلاء الكتبيون، كما تعلمون، يحسبون على الذين أدركتهم حرفة الأدب لأن الكثير من المكتبات، في العالم العربي، تحولت إلى محلبات وملبنات ومقشدات، أي ما يحشو البطون..."
وينتقد كذلك طرقنا السلبية في التعامل مع الأطفال في موضوع القراءة، من خلال عقد مقارنة بيننا وبين الغرب، ففي أمستردام استوقفته مكتبة كبيرة من أربعة طوابق، خصص الطابق السفلي منها للأطفال، "تجدهم فيه كخلية نحل ممددين على بطونهم أو جالسين على الأرض المفروشة، يطالعون قصصا. فإذا أعجبتهم اشتروها، وإلا بحثوا عن غيرها." . أما تعاملنا نحن مع الأطفال عندما يقتربون من الكتب، فيجسده الكاتب في قوله: "وتخيل معي لو أن طفلا عندنا أراد أن يتصفح كتابا، لا أن يقرأه، ماذا سيكون رد فعل الكتبي؟.. أقل ما سيعمله، أنه سيجذبه من يديه بعصبية، ويخاطبه غاضبا: اذهب لتلعب، واترك عنك الكتاب لأسيادك" . إنه أسلوب منفر للقراءة، فالقراءة عادة يجب أن تترسخ لدى الإنسان منذ طفولته الأولى.
إننا في مجتمعاتنا العربية نعيش فوضى عارمة في العديد من المجالات، الشيء الذي يستدعي الوقوف والتأمل وإعادة النظر.
انتقد العربي بنجلون كذلك مظاهر اجتماعية في المجتمع الغربي، كاشفا عن المفارقة التي يعيشها هذا الأخير. فبالرغم من أنه أشاد بالكثير من العادات والسلوكات التي حظيت بإعجابه ودهشته، كالقراءة والتفوق المعرفي والبناء والالتزام بالنظام... ، لكنه لا يدعو إلى أن نكون نسخة طبق الأصل منهم، ففي مجتمعاتهم مظاهر مرضية لا تتوافق مع القيم الإنسانية النبيلة، ولا تعكس مستوى الفكر والتقدم الهائل الذي وصلوا إليه، وهنا المفارقة الصارخة. ومثل الكاتب لذلك بما وقف عليه في أسفاره من انتشار الدعارة وما يعرف ب"دكاكين الهوى" و كثرة الحانات ومقاهي الحشيش والمخدرات. ويرى الكاتب في هذه المظاهر ترديا للفكر الغربي، "فبقدر ما يمتلك الغرب ترسانة من الحقوق، بقدر ما يوظفها في مجالات حاطة بإنسانيته وكرامته" . ومن ثمة يدعو إلى أن "نأخذ بالوسائل الفعالة للنهضة الحضارية الأوربية، لنكيفها مع أخلاقياتنا وسلوكياتنا العربية الجميلة، واللائقة بالكينونة الإنسانية."
ومن المفارقات في الحضارة الغربية التي استنتجها الكاتب أيضا، الوجوه المتناقضة للمدن الغربية، يقول "..هكذا هي العواصم الغربية، ومنها برلين.. فهي من المدن الحالمة، التي تبهرك بحدائقها الغناء، وتتحفك بآثارها الموغلة في التاريخ، وبنهضتها الصناعية.. غير أنها تصدمك بشحوب وجوهها، وذبول عيونها، وشح كلامها وابتسامتها، فلا تشعر بوجودك الإنساني، وتلك هي معضلة الشعوب الأوروبية برمتها."
الخصائص الفنية والأسلوبية في رحلة "أن تسافر"
تتميز رحلة "أن تسافر" ببناء فني، يستثمر فيه الكاتب مجموعة من التقنيات الأسلوبية والصيغ التعبيرية، والأساليب الفنية والخطابية في تقديم المادة الرحلية والمواقف والأفكار.
يأتي السرد على رأس هذه المقومات، فالكاتب قدم مادته بطريقة سردية، مشوقة وماتعة، تتميز بنمو الأحداث، وتنوع الزمان والمكان وحضور مكوني الوصف والحوار، وغيرها من مظاهر وفنية السرد ما يجعل من هذه الرحلة نصا أدبيا يتخطى البعد التسجيلي التوثيقي.
ارتبطت الأحداث بالسفر والتنقل واللقاءات والأنشطة الثقافية والسياحية في مختلف البلدان والمدن التي سافر الكاتب إليها.
أما المكان الذي أطر الأحداث، فيتمثل بشكل خاص في الأماكن الواقعية التي وطئتها أقدام العربي بنجلون في أسفاره، وكانت متعددة ومتنوعة، من تاريخية وحضارية وتعليمية وطبيعية وسياحية...
ويقوم الزمن في رحلة "أن تسافر" باعتبارها خطابا سرديا لأحداث واقعية، على خطية الزمن التصاعدي، المنسجم مع تسلسل أحداث السفر من بدايته إلى نهايته. إلا أن الكاتب يكسر هذه الخطية من حين لآخر بآليتي الاسترجاع والاستباق. حيث تنطوي الرحلة على وقائع وطرائف حدثت للكاتب في الماضي، أو وقائع تاريخية قديمة أو حكايات، يستحضرها الكاتب لتفسير فكرة أوموقف أو تأطير موضوع ما في سياقه التاريخي والمعرفي العام. وتؤشر على الاسترجاع كلمات وعبارات، مثل: (أذكر ـ للتذكير ـ ذكرني ..)، وأمثل هنا بـ: قصة لحيته مع ابنته، واستحضاره لسلوك تذوق أصناف من الفواكه في الصغر في سوق الرصيف بفاس، على إثر تذوقه الأجبان حد الشبع قبل الاقتناء في أمستردام، . وعن مكتبة الاسكندرية يسترجع تاريخها: "وقبل أن ننعم بهذا الهرم الثقافي، كانت هناك مكتبة أخرى، تحمل الاسم نفسه، تعرضت للتدمير ثلاث مرات. (...)" . أونشأة جماعة أبولو في الشعر العربي: "وللتذكير، فهذه الرابطة، أنشأها الشاعر الدكتور أحمد زكي أبو شادي، صحبة الشاعرين خليل مطران وأحمد محرم، يوم الجمعة 29 أكتوبر 1929..." . واسترجاع زمن الحضارات السابقة: يقول في زيارته لمدينة البتراء: "في هذه اللحظة، أحسست أنني سافرت إلى الماضي البعيد، وأن العصر الحاضر انفلت من قبضة يدي، ولم أعد أتحكم فيه..." ويقول أيضا وهو يصف رمال الشحاينة في قطر: "هل أعادتني آلة الزمن إلى القرن الهجري الأول، أم أصابتني حمى في رأسي فصرت أهذي... " .
أما الاستباق، في هذه الرحلة، فيتمثل في التوقع والتنبؤ بما يمكن أن يصير لو اتبعت المجتمعات أساليب ومناهج مدروسة في التعليم مثلا.
إضافة إلى الزمن النفسي الذي يقاس بانفعالات الذات، حيث يتمطط الزمن أو يتقلص بحسب ما يعيشه الفرد في ظروف معينة وأمام مواضيع متعددة من انفعالات القلق والتوتر أو الفرح والمتعة.. الكاتب مثلا خلال مدة إقامته بطرابلس حيث لا شيء يمتعه ويؤنسه أو يقوم به: "كما لم أجد ما يؤنسني في وحدتي وغربيتي إلا التلفاز الوحيد والبئيس الذي لا تختفي عن شاشته لحظةً (طلعة القائد البهية) ..." (ص:39)
ويتقلص الزمن عندما يكون الكاتب في لحظات متعة واستمتاع بين الكتاب أو في أمسية أدبية أو في رحاب مكتبة تشفي غليله بما تتضمنه من محتوياته أو في منطقة سياحية ساحرة.
إضافة إلى الزمن التاريخي التوثيقي، حيث يخبر الكاتب بتواريخ محدد لأحداث معينة ولزياراته: (في سنة 1970 سنة أول رحلة للكاتب إلى الاسكندرية ـ "الكرم نفسه، لقيته سنة 2011" ـ "وصبيحة اليوم الخامس عشر من شتنبر 1970 حثتني نفسي معاتبة:..." ـ ".. ففي سنة 1992 عندما التقينا في مقهى الريش بشارع طلعت حرب..." ـ "في أكتوبر 2002 توصلت بدعوة من وزارة الإعلام الكويتية لزيارتها..." ـ "وفي الخامسة من صبيحة الغد..." (...)
ومن مقومات السرد أيضا، تقنية توظيف الضمير، وتتميز رحلة "أن تسافر" بحضور ضمائر متعددة، يهيمن عليها السرد بضمير المتكلم، بنوعيه المفرد والدال على الجماعة، ويحيل على الكاتب/ الرحالة/ السارد، هو الذي يخبرنا عن أسفاره ومغامراته، ويعلق ويبدي رأيه الشخصي ومواقفه. وحين يعتمد السرد بضمير المتكلمين (نحن)، فهو يشمل زملاءه ومرافقيه والأدباء الذين قابلهم، [لا أنسى جلساتنا الأدبية وعروضنا ـ شاركنا في ندوة ـ وكان علينا أن نعود ـ فهرعنا ـ وتفاجأنا بالروائي حميدة يهرول نحونا ـ عندما وصلنا ـ كانت السيارة تنهب بنا الطريق الفسيح والروائي الفلسطيني الأردني صبحي فحماوي يطربني.. ـ وبينما نحن الاثنين...]. ويحظى ضمير المخاطب بحضور مهم كذلك، ويحيل على المتلقي، فالكاتب يتحكم في العلاقة التواصلية بين القارئ والنص، ويولي عناية خاصة إلى مخاطبه القارئ، يشد سمعه إلى مسروده، يشوقه ويثير انفعالاته ليشاركه مشاعر الإعجاب والدهشة والاستغراب، ويحفزه على ممارسة السفر: [ "ولم يرقني سيدي القارئ... (ص 41) ـ وستنبهر كثيرا، سيدي، إذا ذكرت لك.. (ص: 49) ـ وتصور معي، سيدي القارئ" (ص: 126) ـ ومرة أخرى لك أن تستغرب بأنني مررت فوق الجسر.. (ص: 126)... ]. وتصل هذه العناية بالقارئ حد التماهي معه، حين يحيل ضمير المخاطب على الذات الكاتبة نفسها وعلى المتلقي أيضا، مثلا عند وصفه لمكتبة الاسكندرية أو المتحف المصري: [يمكنك أن تسحب أي كتاب منها، وأنت قابع في عقر دارك ـ يستحيل أن تشاهدها في زيارة واحدة، وتزور كل أجنحة المتحف...]
إن السارد/ الرحالة هو المتحكم في العملية السردية، بمختلف الضمائر الموظفة، وهو بذلك يمنح الترابط والتتابع والتناسق لأطوار أسفاره في هذا الكتاب، كما يمنح منجزه الخاصية الأدبية بتركيزه على السرد والتحكم فيه.
يعتبر الوصف مقوما أساسيا في الرحلة، ووسيلة مهمة في يد الكاتب للتعريف بالأماكن والشخصيات والناس والأشياء والكشف عن الأحاسيس والانفعالات التي تثيرها الموصوفات في نفسه، وتكسير رتابة السرد وتتابعه، يوظفه الكاتب تارة تصويرا محايدا، وتارة تخييليا إيحائيا.
يحضر الوصف التقريري، بنقل الكاتب لما تشاهده عينه بدقة وأمانة، فوصف المدن التي زارها وشدته مظاهرها وأشكالها العمرانية وحدائقها، ومكتباتها ومتاحفها وذكر محتويات، وأمثل هنا بوصف الأبراج الثلاثة في الكويت وصفا دقيقا، شمل سنة البناء والمكان الذي أقيمت عليه، والقياسات، والطبقات التي تتشكل منها، والأنشطة والوظائف التي خصص لها كل منها، يقول الكاتب: "ولقد بنيت هذه الأبراج الثلاثة سنة 1975 في حي (رأس عجوزة) بمنطقة (الشرق) وأكبرها بقطر أرضي يبلغ عشرين مترا، بعلو مائة وسبعة وثمانين، ويتألف من طبقتين: دائرية عليا متحركة، يسمونها (كرة كاشفة) تدور كل ثلاثين دقيقة، وتتوفر على منظار كبير، ومشربةٍ، تصلها في مصعد يقطع بك مائة وثلاثة وعشرين مترا في نصف دقيقة..." . وفي وصف متحف مصر يقول: "ويضم مئتين وخمسين ألف قطعة يستحيل أن تشاهدها كلها في زيارة واحدة،..." . وفي وصف المناظر الطبيعية، يقول: "وإذا كنت تمتطي القطار من طوكيو إلى أوساكا، فستشاهد (فوجى) أعلى جبل في اليابان، يعلو على الأرض بثلاثة آلاف وسبعمئة وستة وسبعين مترا، وتحيط به خمس بحيرات، قل نظيرها في العالم.." . وفي وصف الشخصيات التي التقاها أمثل بوصفه للإنسان الأردني: "ولهذا ترى الأردني يسير بارز الصدر ((منتصب القامة، مرفوعة الهامة)) ويحدثك بصوت جهوري، وبلغة تخلو من أي لفظ أجنبي،..."
ويهيمن الوصف التخييلي الإيحائي في كتاب "أن تسافر"، يقدم من خلاله الكاتب الحقائق عن طريق التصوير البلاغي (مجاز واستعارة وتشبيه) وأسلوب المبالغة والإيحاء، وينقل للمتلقي عبره وجهة نظره ودهشته وانفعالاته أمام مشاهد تفوق في سحرها الواقع، كالمناظر الطبيعية الساحرة في طوكيو، (جبل فوجى) الذي يمزج في وصفها الواقعي بالأسطوري... ويقول في وصف مدينة البتراء والمدن التاريخية بالأردن أنها: "تسحرك بجمالها الفاتن، وتعرض لك كل العصور على هذه الأرض. (...)" . ووصفه للؤلؤة بقطر قائلا إنها "مكان بحري بين الحقيقة والحلم" . وفي وصفه للتحولات التي طرأت على المدن العربية، ومنها مدينة الاسكندرية بين الأمس واليوم، يقول: "أما اليوم فما شاء الله، أصبحت قارة سادسة، تفزعني بنموها، حتى أصبحت من أهل الكهف". ويقول في تقدير مصر ووصف حضور الإبداع والتنوع الثقافي فيها: "وهكذا ترون أن نهر النيل، لا يجود بالخضر والفواكه الطيبة فقط، وإنما بالنصوص الرفيعة من الشعر والقصة، والخواطر والذكريات والسجال والجدال البناءين والرفقة الحسنة كذلك" ..
لعب الوصف في رحلة "أن تسافر" دورا أساسيا في إيصال الحقائق والمشاهد بطريقة جمالية إلى المتلقي، وجاء مكملا للسرد متناغما معه.
وجاء الحوار، إلى جانب الوصف كمكون أساسي، بوظائف متعددة، منها تكسير رتابة السرد، وعرض الأحداث وبث الحياة والحركة فيها، والتعريف بالشخصيات وتجسيد انفعالاتها والكشف عن بواطنها النفسية وأفكارها ومواقفها. ويحضر الحوار في رحلة "أن تسافر" بمختلف أنواعه، المباشر وغير المباشر والخارجي والداخلي.
يتمثل الحوار الخارجي المباشر في حوارات الكاتب العربي بنجلون مع أصدقائه الكتاب، وشخصيات أخرى التقاها في أسفاره، عابرين، عمال وحراس في المطارات والمحطات، صحفيين، مسؤولين وقيمين على المكتبات والمتاحف وغيرهم. ويأخذ هذا النوع من الحوار حيزا كبيرا من رحلات الكتاب، مثلا الحوار الذي دار بين الكاتب مع الراكب في الحافلة، ومع المراقبين عند الحدود بين تونس وليبيا (ص:34 ـ 35)، والحوار بينه وبين المستشرقة الشابة حول صورة المرأة وطفلها في متحف بألمانيا، بحيث كشف الحوار عن أسرار النهضة الألمانية. وغير ذلك في وضعيات ومواقف متعددة.
وكثيرا ما كان الكاتب يحاور نفسه ويتحاور معها، مثلا حين يجد نفسه وحيدا أو مشمئزا أو فرحا أو مندهشا..، وينقل لنا عبره أحاسيسه وما يجول بخاطره وذهنه من أفكار وصراع .. أمثل بما يلي:
ـ "وصبيحة اليوم الخامس عشر من شهر شتنبر 1970 حدثتني نفسي معاتبة:
- أتوثر الغني على الفقير، وأنت الفتى اليتيم الذي عانى سنوات طويلة من الحرمان والفاقة؟
- اتولت علي الدهشة، فأجبتها بتوتر: (...) .
ـ"وفي لحظة، وأنا وحيد، اتطلع بعيني إلى أعلى قوس رماني، باغتني صوت خافت، يشبه صوتي تماما يُسر في أذني:
غادر هذا البلد إلى مصر، فهناك تجد "ما يستحق الحياة".. وليصر حاضرك ماضيك تدفنه، ولا تترحم عليه.
قلت في نفسي: يستحيل أن يخذلني هذا الصوت، مادام يشبه صوتي."
حوار متخيل بين الكاتب وجمال عبد الناصر، أجراه وهو في زيارته لمكتبه، ليثني عليه ويعترف له بدوره الثقافي في العالم العربي، فقد أسدى له خدمة بإنشاء مركز ثقافي في حي البطحاء بفاس، عبد له طريق العلم على حد اعترافه.
أما أسلوب الرحلة فمتنوع بحسب الموضوع والأهداف، ويتأرجح بين لغة تقريرية مباشرة، ولغة أدبية مرتبطة بمقومات السرد. فبالرغم من أن الرحلة هي سرد لأحداث وشخصيات وأماكن وأزمان واقعية حقيقية، إلا أن التخييل حاضر بقوة من خلال التصوير البلاغي والتشخيص واللغة الإيحائية. والتخييل لا ينفي المصداقية عن المسرود الرحلي، ولا يتعارض مع واقعية أحداثه، وإنما يضفي عليه جمالية في التعبير، وعمقا في المواقف والأفكار.
اعتمد أيضا أسلوب السخرية الانتقادية في التعبير عن رفضه لبعض السلوكات والأوضاع السياسية في المجتمعات العربية، والتي تدل على التخلف والتراجع، من ذلك مثلا ما ورد في رحلة" (في ليبيا.. دفنا الماضي). يقول الكاتب بسخرية في رده على صاحب المكتبة الوحيدة بطرابلس، الذي لم يستسغ عدم اقتناعه بمحتويات المكتبة: "كيف لا تكفيني, وهي أهم مصادر العلم والمعرفة في العالم العربي؟" . وقال ساخرا من برامج تلفاز ليبيا، وسياسة قائدها: "لا تختفي عن شاشته لحظة (طلعة القائد البهية) وهو يلهي الشباب بخطبه العصماء عن (النظرية العالمية الثالثة) التي يعتبرها حلا وسطا بين الثنائية القطبية: الشيوعية والرأسمالية.. أي أن البشرية جمعاء، كانت تنتظر بنفاذ الصبر، عصورا طويلة، من يأتي لينقذها من هذين النظامين, حتى تمخض الكون, فأنجبه" . وعن تربية الصقور في قطر وفي الخليج كله، لاحظ أنها تفوق المتوقع والخيال: "إذ تكلف صاحبها ما يوازي سيارة فارهة، ويكفي أن ركوبه في الطائرة، يفرض مقعدا بين رجال الأعمال الكبار، وعٍلْية القوم، صحبة حارس خاص، فيما يحشر بنو آدم مثلي، في المقاعد الاقتصادية، فيا ليتني كنت صقرا" .
ومن مقومات أسلوب رحلة "أن تسافر" الحكي، ممثلا في القصص والطرائف التي تتخلل متن الرحلات، وتحيل عليها وحدات وعبارات معجمية عديدة: ["ولما كان الشيء بالشيء يذكر، حكي لي ...." (ص: 82) ـ "وليسمح لي الأديب محمد برادة أن أحكي طرفة (ص:92)، "وفي روبنجي حدثت لي قصة طريفة" (ص: 123) ... ـ وما حدث له في المطار (رحلة: إرهابي في الكويت)، وواقعة الطائرة (ص: 72 ـ 72) ـ قصة الكاتب مع لحيته وابنته، وكذا ما حدث له بتونس بسبب لحيته (ص: 92 ـ 93)، واستحضار قصة الخلفية للكاتب العربي بنجلون (ص:91)...
وإلى جانب مقومات السرد وخصائصه الفنية، تحضر في هذه الرحلة مقومات خطابية أخرى، تقوم على الوظيفة الحجاجية الإقناعية، حين يستهدف الكاتب إقناع قارئه بموقفه، أو حمله على استنتاج الخلاصات والدروس بنفسه، لذلك نجده يوظف مجموعة من الأساليب الحجاجية (الإخبار والتعريف والاستشهاد والمقارنة والتمثيل والوصف...)، كالاستشهاد بالقرآن الكريم (ص: 115)، وبالشعر: أحمد شوقي (ص: 36) وأبي الطيب المتنبي (ص: 48)، وعز الدين المناصرة (ص: 50 ـ 51)، وعلال الفاسي (ص: 51 ـ 75)، وجلجامش (ص: 74)، وزهير بن أبي سلمى (ص: 76)، وعلي الجلاوي (شاعر بحريني) (ص: 84 ـ 85).. وببعض الأقوال المأثورة (ص:75)، وبأقوال الكتاب: عبد الجبار السحيمي، وفاطمة المرنيسي، والسيد المسيح، وإبراهيم الكوني وغيرهم. وأسلوب التمثيل، بتقديم أمثلة لكتاب عرب وعالميين، وكتب من مسرحيات وقصص وروايات وجدها الكاتب متوفرة في القاهرة... وأسلوب المقارنة الذي اعتمده العربي بنجلون للكشف عن التفاوت بين العالمين الغربي والعربي، وتعرية قشور الواقع البراقة عندنا، وجعل القارئ يقف على الفجوة العميقة الفاصلة بيننا وبين اللحاق بركب التقدم والإنتاج والتطور.. إضافة إلى الأساليب الإنشائية من استفهام وأمر ونداء وتعجب...
لقد نقل العربي بنجلون في رحلته ما استأثر باهتمامه وإعجابه وتأثره، بأسلوب متنوع جذاب ماتع، تنوعت مقوماته وخصائصه.
خاتمة:
إن كتاب "أن تسافر" للعربي بنجلون، تجربة إبداعية وحياتية غنية، بتسجيل الكاتب لسيرة رحلاته إلى عدد كبير من البلدان والأماكن بالعالم، بمقومات الإبداع الأدبي، السرد تحديدا، وبما انفتح عليه من مجالات الحياة المتنوعة، جغرافية وطبيعية وعمرانية وحضارية وأدبية وثقافية واجتماعية وسياسية ودينية وقيم وعادات وقوانين ولغات.. إضافة إلى أنها رحلات شيقة حافلة بالأحداث والانطباعات والقراءات والمواقف، فالعربي بنجلون لا يخبر بالمعلومات بتقريرية وحيادية، وإنما يعبر عن وجهة نظره وفكره، وتصوره وقراءته للأشياء والأوضاع والشخصيات والعالم.. ويناقش ويعلق وينتقد ويستخلص العبر والقيم، ويقف على الهفوات والسلوكات السلبية في المجتمعات.
وجاء بناء الرحلة متنوعا وشيقا، تتداخل فيه مجموعة من الخطابات، الأدب والتاريخ والحجاج، وتغلب عليه المقومات الأدبية والفنية، السردية تحديدا (السيرة الذاتية والقصة والخطابة..)، وبذلك تتخطى رحلة "أن تسافر" التقريرية والتوثيق والتسجيل، وتتميز بالتشويق ومتعة ولذة القراءة، وتعكس قدرة الكاتب الكبيرة في تأثيث بناء الرحلة الأدبي الجمالي، واتساع ثقافته ومعارفه ومداركه، كيف لا وهو المتعقب دروب المكتبات واللقاءات الأدبية والفكرية والنقدية، والمتمكن من أدوات الكتابة والإبداع.
ولا تغني هذه القراءة، مهما حاولت أن تكون شاملة، عن السفر مع الكاتب في رحلاته.



د. زهور بن السيد
-
مقال نقدي ضمن الكتاب الجماعي: "الأديب العربي بنجلون، الواحد المتعدد









1633696248734.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى