فاروق وادي - طوق الحمامة: في ألفة الشّيخ الجليل وأُلّافـه

شاءت هذه الكلمات أن تستبق صدور كتاب "أوراق من مذكّرات الشيخ القرضاوي"، الذي يروى فيه بالتّفصيل حكاية غرامه بزوجته الثّانية (من غير أن تعنينا هنا التّفاصيل والمآلات)، لنسأل عن رأي الشّريعة الإسلاميّة، ومدى إباحتها للذّكر، في بناء "علاقة" ما، مع امرأة أخرى غير زوجته، مهما كانت العلاقة الثانية عفيفة، نظيفة، طاهرة، لا تتعدّى حدود القلب المُّلوّع والنّظرة اللّهفى، وتباريح القلم السيّال!
ملخّص ما تسرّب إلينا من الحكاية، وهو ما يكفينا منها هنا، أن الشيخ يوسف القرضاوي، الذي كان قد بلغ، حينذاك، من الكبر عتيًّا، وعبر سنواتٍ في العقد السّابع من عُمره المديد، لفتت إنتباهه صبيّة جامعيّة جميلة، قدّمت مداخلةً في إحدى النّدوات، دافعت فيها عن الحجاب، ففُتن الشّيخ بها. ولم يتردّد من كسر حجاب العُمر وحجاب الزّمن، ليسعي، كما قال، من أجل التّعرف عليها. وقد تطوّر الأمر بالشّيخ العائد إلى صباه، حتّى تحوّل الإعجاب إلى "عاطفة دافقة وحبٍّ عميق"، قاداه إلى الوقوع في عشقٍ للصّبية لا رادّ لجبروته، فدبّج لها رسالةً، بثّها فيها عواطفه وأشواقه ولواعج قلبه، ولهيب مشاعره المتأجِّجة تجاهها.
أن يقع شيخٌ جليل في عشق فتاة قد تكون في عُمر بناته، فتلك حادثة متكرِّرة، وقصّة ليست نادرة الحدوث، إذ سبق وأن عرفنا أمثالها في الفنّ والأدب والحياة. أمّا أن يقع الأمر مع رجل دينٍ متعمِّق في الشّريعة والحياة، فإن الأمر يثير الأسئلة، كون الشّيخ القرضاوي لا يمارس حياته عن هوى، وإنما اتكاءً على علمٍ وفيرٍ في شؤون الدّين والدُّنيا، وهو يُمثّل قدوة لرجال الأمّة الإسلاميّة، بشبابها النّاهض.. وحتّى شيوخها الذين بلغوا أرذل العُمر والشّهوات!
ربما يعيد الشّيخ علينا بعضًا مما قاله جدّنا "ابن حزم الأندلسي" في "طوق الحمامة: في الألفة والألّاف" حين أكّد أن الحُبّ ".. ليس بمنكرٍ في الدّيانة ولا بمحظورٍ في الشّريعة، إذ القلوب بيد الله عزّ وجلّ".
ولا شكّ في أن شيخنا يؤمن إيمانًا راسخًا بأن قلبه بيد الله، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي ألقى به في يّم الحبّ المضطرب. ومع ذلك، فإننا نستبق ما سيرويه لنا في تفاصيل الكتاب، لنسأل الشّيخ عن مفهومه لـ "الخيانة الزوجيّة" في الإسلام، معناها وحدودها. فهل أباح الإسلام للرّجل المتزوِّج قدرٍا من العلاقة مع امرأة أخرى، غير زوجته، أثارت إعجابه، حتّى لو اقتصر أمر الإعجاب على العين والأذن والقلب، وعلى بثّ التّباريح المجرّحة عبر الكلمات المكتوبة على الورق وأجنحة القلبٍ الخافق الملوّع؟!
دعنا نعيد طرح السّؤال بطريقة "هل ترضاها لأختك؟!"، رغم فجاجتها وسهولتها ومباشرتها، فنسأل الشّيخ: هل القلوب الذّكورية فقط هي التي بيد الله، أم أن الأمر ينطبق أيضاً على قلب الأنثى؟! وهل يجوز لأنثى متزوِّجة أن تمارس ما أحلّه الشيخ لنفسه، فتُعجب بفتى أفتى في شؤون الدّين، وقدّم مداخلةً تألّق فيها؟! وأن تسعى للتّعرف عليه ـ كما سعى شيخنا الجليل ـ لتبثّه عواطفها الجيّاشة، في رسالةٍ تكتبها بعيدًا عن عيون زوجها الغافل عمّا يدور حوله. أو بصيغة أخرى: هل يرضاها الرّجل لزوجته، خاصّةً إذا تسبّب فارق العُمر بينهما إلى تقصيره في أداء واجباته الزّوجية؟!
أوليس " الحبّ جنون والجنون فنون والحياة شجون ولله في خلقه شؤون"، وهي عبارة لم يقلها ابن حزم الأندلسي، وإنما الشّيخ القرضاوي نفسه. وهل الحُبّ جنون ذكوريّ يحقّ للرّجل ولا يمسّ المرأة؟! أم أن المطلوب من المرأة "الناقصة عقلاً ودينًا" أن تكون عاقلة في هذه النُّقطة بالتّحديد من العلاقات بين بني البشر؟!
وحتّى يبيح الشّيخ لنفسه ما لا يبيحه لغيره، فإنه يُفتي بحقِّه الشّخصي في بناء علاقة (عاطفيّة) مع أنثى أخرى أعجب بها، موحيًا بأنه يختلف عن بقيّة البشر. فالإعجاب تطوّر لديه إلى عاطفةٍ دافقةٍ وحبٍّ عميقٍ "لا يدور حول الجسد والحسّ كما هو عند كثير من النّاس". ولأن شيخنا يتسامى عن هؤلاء الكثيرين من خلق الله الجسديين الحسيين، فإن من حقِّه أن يستجيب للوعة القلب، ويُقدِم على الزّواج من "شابّة جميلة ومثقّفة ومتحدِّثة لبقة"، مهما واجه من شرّ حاسدٍ إذا حسد!
ثمّ، إذا كان الحبّ أفلاطونيًّا ولا يدور حول الجسد، فلماذا الزّواج من المرأة نفسها، الذي نعلم ويعلم شيخنا الجليل أنه في جزء منه علاقة حسّية جسديّة!؟
ولا شكّ في أن من حقّ المدافعين عن حقوق المرأة، أن يسألوا عمّا ألحقه هذا الجنون ـ حسب وصف الشّيخ القرضاوي نفسه لنفسه ـ بالمرأة الأولى، وبألأسرة التي عكفت على بنائها، وبمشاعرها الإنسانيّة، وهي تعلم أن زوجها كان يعيش معها ويُمارس حياته الزّوجية، في الوقت الذي كان يحمل فيه مشاعر متأجِّجة لأخرى أصغر منها سنًّا، ويخطِّط للزّواج منها، مُعتقدًا أن عبارة "ولن تعدلوا" لا تنطبق على سماحته!؟
أمّا الصّبية الجميلة، المثقّفة، والمتحدِّثة اللّبقة، المُدافعة عن الحجاب دفاعًا يجعل القلوب تتهاوى وتعيد الشّيخ إلى صباه، فلا ندري إن كانت، بعلمها الوفير ودينها الرّاسخ وثقافتها العميقة، قد طرحت على نفسها السّؤال (قبل أن تقول أمام المأذون الشّرعي لشيخ قلبها "أنكحتُك نفسي"!)، أيّة طعنة كانت تُسهم في توجيهها، في تلك اللّحظة، لامرأة أخرى من بنات جنسها، المضّهدات إجتماعيًّا، وأي خرابٍ هي مُزمعة على إحداثه في أسرة تلك المرأة الأولى، لا لشيء سوى لأن "لوليتا" ذات الحجاب، لم تُطق صدًّا للواعج القلب التي بثّها لها شيخ جليل، أسقطه الهوى في جنون الحبّ.. وفنونه!؟
أعلى