د. يوسف حطيني - مِنْ مَقَامَات طَرِيدِ الزَّمَان الطَّبَرَانِي (10/4) الشَّرَويّ والغَرَويّ في السِّلاحِ النَّوَوِيّ

(4) الشَّرَويّ والغَرَويّ في السِّلاحِ النَّوَوِيّ



إلى أطفال هيروشيما وناغازاكي

أرَدْنَا أنْ نَدخُلَ الليلةَ عَلَى طَرِيدِ الزَّمَان، فَطَلبَ مِنّا الانتِظَار، وحِينَ صِرْنَا داخِلَ الدَّار، عَاتَبْناه عَلَى فَسَادِ الطَّوِيّة، فَتَعَلَّلَ بأنَّه كَانَ يَقْرَأُ في الأربَعِينَ النّوَوِيّة، قُلْنَا وقَدْ أصَابَنَا العَجَبُ العُجَاب: "بَعد مَا شَاب، وَدّوه عَ الكُتَّاب"؟
قَالَ: سَوْفَ يَزُولُ عَجَبُكُم بَعْدَ أنْ أَرْوِيَ الحِكَاية.
قُلْنَا: مَا أَتَيْنا إلا لهذِهِ الغَاية.
فقَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
كُنْتُ في سَالِفِ الأَوَان، قَدْ ضِعْتُ في سُهُولِ حَوْرَان، فَأَصَابَني مَا أصَابني مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ والهلَك،حَتَّى جَاءَ وَقْتُ الدّلَك ، وإذ وَقَبَت الشَّمسُ فَقَدْتُ الإحسَاسَ بالأمَان، واِسْتَبَدَّ بيَ الشَّوْقُ للمَاءِ والخِوَان، وشَعَرْتُ بالرُّعب إذ هَبَطَ عَليَّ الظَّلام، وهَدَّتني الآلام، فَقُلْتُ في نَفْسي بعدَ أنْ عَزَّ المأكَل، وأشغَرَ المَنْهَل: أخْشى أن أبيتَ عَلَى الطَّوَى فأُصْبِح مَعَ أهْلِ الأرمَاس، ثمَّ إنّه غَلَبَني الدُّكاس ، في ليلٍ دَجْدَاج، افترَشْتُ فيه البَسِيطةَ والتَحَفْتُ ذاتَ الأَبْرَاج، وإذ أيقظَتْني الشَّمْسُ، رأيْتُ عَلَى البُعْدِ أطلالاً، حَثَثْتُ نحوَهَا المَسِير، حتّى وصَلْتُ إلى بُيُوتٍ لَيْسَ فِيهَا شَهِيقٌ أو زَفِير، فَخِفْتُ أنْ أكُونَ فَريسَةً لوُحُوشِها، بعدَ أن خَوَتْ عَلَى عُرُوشِها، ومَا زالَ يَرْكَبي الخوفُ الرَّهِيب، حَتَّى وصَلْتُ إلى مَكَانٍ خَصِيب، فقُلْتُ في نَفْسي: لَعَلّي وَاجِدٌ فيهِ مَا أَسْتَوْكِثُ بهِ حتّى أَوَانِ الغَدَاء، وأَضْمَرْتُ أنْ آكُلَ أورَاقَ الشَجَر، وَوَطَّنْتُ نَفْسي عَلى شُرْبِ دَغْرَقِ المَاء الّذي أَصَابَه الكَدَر، غَيْرَ أنَّ السَّعادَةَ غَمَرَتني حِينَ لمحتُ ظِلَّ رَجُلٍ تحتَ إِحْدَى الأشْجَار، وإذ اقتَرَبْتُ رأيتُهُ ذَا هَيْبَةٍ وَوَقَار، فداخَلَتني رِعْدةٌ مُرِيبة، إذ رأَيْتُ هَيْئَتَهُ المَهِيبة، وَخَشِيتُ ألا يَبْتَسِم إذْ تَذَكَّرْتُ قَوْلَ الشَّاعِر:
يُغضِي حَيَاءً ويُغضَى مِنْ مَهابتِهِ فَمَا يُكلَّمُ إلا حِينَ يَبْتَسِمُ
وخِفْتُ أنْ أقَارِفِه، ولولا العَطَشُ والجوعُ لفَضَّلْتُ أن أُجَانِفَه، فَوَقَفَ مُبْتَسِماً وسَأَلَني عَنْ شَأْني، ومَنْ أَكُونُ، فَقُلْتُ: رَجُلٌ هدّه السَّغَب، وأنهَكَهُ العَطَشُ والتَّعَب، فَأَجلَسني ثم تَنَاول قازُوزَة مُغلَقةً كَانَتْ قُرْبَه، فَأطَالَ دِفَاعَها، إلى أنْ نَزَعَ وِفَاعَها ، وأعطَانِيهَا قَائلاً:
- اِشْرَبْ هَنِيئاً مِنْ هَذا المَاء، ثم أحضَرَ لي خُبزاً وحَسِيَّةً مِنْ مَرَقٍ في وِعَاء، فَرَفَعْتُ الوِعَاء في يدي، ودَفَعْتُ مَا فيهِ بسُرعةٍ إلى مَزْرَدي، حتّى أّتّيْتُ عَلَى الحَسِيّة والخُبْزِ جَمِيعاً، وهُوَ يَبْتَسِم، وإذ شَبِعْتُ وحَمِدْتُ البَاري عَلَى نَعْمَائه، قَالَ: كَأنَّكَ غَرِيب، قُلْتُ: أنَا طَرِيدُ الزَّمَان الطَّبَرَاني، وقد تهتُ في اليَهْمَاء ، حَتّى أوصَلَني إِلَيْكَ غَريبُ القَضَاء.
- وهل تُحِبُّ سَمَكَ طَبَريّة؟
قلتُ ضَاحِكاً: تُحَدّثني حَدِيثاً لا يُغْنِي مِنَ الجُوعَ، ولا يسدُّ الرّمَق، ثمّ تُقَدِّمُ لي الخُبْزَ والمَرَق، فَقَال: قَدْ أخرَجْتُ إليكَ حَضِيضَتي وبَضِيضَتي ، ومَا الجُودُ إلا بِالمَوْجُود، وَلَكِنّ الشَّيءَ بالشَّيءِ يُذْكَر.
قُلْتُ: كنّا نَخْرُجُ جميعاً إلى الشَّاطِئ، والِدِي يُخْرِجُ السَّمَكَةَ مِنَ البُحَيرة، فَتَضَعُها أُمِّي مِنْ فَورِها في المِقْلاة، إيه.. إيه.. كُهُولةٌ شَرِيدة، بَعْدَ طُفُولةٍ رَغِيدة.
- أمَّا أنَا فَقَدْ كَانَتْ طُفُولَتي مَلِيئةً بالاجتِهَاد، وكُنْتُ أبكِي حِينَ أُجبَرُ عَلَى اللَّعب مَعَ الأَوْلاد، وفضّلتُ الاِبْتِعادَ عَنِ النَّاس، وَمُعَاشَرَةَ القَلَمِ والقِرطَاس، قُلْتُ لَهُ: مَنْ تَكُونُ، ومَا الَّذِي دَفَعَكَ إلى العيشِ في البَرِّيَّة؟ قَالَ: دَفَعَني إلى مَا تَرَى تَوَجُّسي بسَبَبِ لَقَبي وكُتُبي، قُلْتُ: كَيْف؟ قَالَ: أنَا الإِمَامُ النَّوَوِيّ، صَاحِبُ الأربَعينَ النَّوَوِيّة .
فَقُمْتُ إلَيْهِ في حَمَاسَة، وقبَّلْتُ رَاسَه، وَقُلْتُ: أأنتَ الإِمَامُ النّوَوِيّ؟ أأنتَ رأسُ الزُّهْد وقُدْوَةُ الوَرَع؟ إنَّ الأمَلَ المَأمُول، أنْ أُجَالِسَ فَرْدَ زَمَانِه في الفِقْهِ والحَدِيثِ والأُصُول، ولكِنَّكَ قُلْتَ إنَّ لَقَبَك وَكِتَابَك، قَد أَسْرَجَا إلى التَّوَجُّسِ رِكَابَك.
قَالَ: جَاءَنَا في المَنَام، أنَّ أبنَاءَ العَمّ سَام يَتَّهِمُون الحَضَرِيَّ والبَدَوِيّ، والمَدَنِيَّ والقَرَوِيّ، بالسِّلاحِ النَّوَوِيّ، وحِينَ أبْدَيْتُ لَهُ مَزِيداً مِنَ الاِسْتِفْهَام، قَالَ لِيُزِيلَ الإِبهَام: ألا تَرَى أنَّ لَقَبِي والسِّلاحَ النَّوَوِيّ يَجْمَعُهُمَا الجَذْرُ اللُّغَوِيّ؟
مِنْ هُنا صَارَ لَدَيْنَا تَوَجُّسٌ مِنْ أنْ تَقُودَ مُلاحَقَةُ البَرَامِجِ النَّوَوِيَّة إلى مُلاحَقَةِ بَرْنَامَجِ اللُّغَةِ العُرَبِيَّة، لأنَّه يَحْتَوِي نَوَى ونَوَيْت، ونَخْشَى أن يَنْتَهِيَ الأمْرُ بِنَا في مُدَمَّسِ غوَانتانَامُو، لذَلِكَ أَنْتَشِرُ مَعَ سُكَّانِ بَلْدَتِي مُنْذُ الفَجْرِ في الجِبَالِ والسُّهُولِ والآطَام، ونَعُودُ إلى بُيُوتِنَا مَعَ حُلُولِ الظَّلام، قُلْتُ: فَفِي أيِّ بَلْدَةٍ أَنَا؟
- في نَوَى.
قُلْتُ: لا تَثْرِيْبَ عَلَيْكُم مَا لم تُوَقِّعُوا عَلَى مُعَاهَدةِ الحَدِّ مِنَ اِنْتِشَارِ الأَسْلِحَةِ النّوَوِيّة، فَقَدْ سَمِعْتُ أنَّ رَبِيباً مُدَلّلاً لَدَيْهِ مِئَاتُ الرُّؤوسِ النّوَوِيَّة المُفْزِعَة، وهُوَ يَعْمَلُ عَلَى زِيَادَتها في دَعَة، دونَ أنْ يَلُومُهُ صَاحِبُ البَرْذَعَة، وحُجَّتُهُ أنّه كَثِيْرُ المُوَاعَدَة، وأنَّ الرَّبيبَ لم يوَقِّعْ عَلَى المُعَاهَدة، فَلا يَسْألُهُ سَائِل، ولا يَقُولُ لَهُ قَائِل: "يَا مَايلة تعَدَّلي".
قَالَ: وَا أسَفَاهُ عَلَى الحقِّ الأَبْلَج، حِينَ يُؤْخَذُ في طَرِيقٍ أَعْوَج، وعَلَى القَانُونِ الَّذِي لا يَسِيرُ عَلَى الجَمِيع، إنَّه قَانُونٌ "شَرَويّ غَرَويّ"، يحكُمُ عَلَيْنَا بِقُوَّةِ السَّيْف، وَيَقُولُ لِغَيْرِنَا: لا حَيْف، لذلك دأَصَ الرَّبيبُ المُدَلّلُ وأَشِر، واسبَطَرَّ وبَطِر، وصَارَ يَفْعَل مَايَشَاء في النَّهار، "عَلَى عُيُونِكُم أيُّها التُّجار"، ولا يخْتَبِئ مِثْلَنا مُنْتَظِراً اللَّيلَ الأُدْمُوس، قُلْتُ: إذاً فالأَمْرُ خِيَارٌ وفَقُّوس؟
فَقَالَ: هُوَ ذَاك.
أَلَيْسَ غَرِيباً أنَّ الّذِينَ لم يَسْمَعُوا تَوَسُّلاتِ نهْرُو بِوَقْفِ الاختِبَارَاتِ النَّوَوِيَّة، هُمْ أَنْفُسُهُم مَنْ وَضَعُوا قَوَانينَ حِمَايَةِ البَشَرِيَّة، ألَيْسَ غَرِيباً أيضاً أنَّ مَنْ مَنَعَ الدُّوَلَ اِمْتِلاكَ هّذّا السِّلاحَ الفَتَّاك، ولَبِسَ رِدَاءَ المَلاك، كانَ الأسرَعَ في اِسْتِخدَامِهِ، فَحَوَّلَ الشَّجَرَ والبَشَرَ هَشِيمَا، في نَاغَازَاكِي وهِيرُوشِيمَا، وقَصَّرَ اللِّسَان، وَغَضَّ الأبْصَار عَنْ دُوَلٍٍ تُطَوِّرُهُ في وَضَحِ النَّهَار، ولاحق دُوَلاً إِسْلامِيَّة، تحاوِلُ أنْ تفِيدَ مِنْهُ في الأَغْرَاضِ السِّلْمِيَّة. قُلْتُ: ومَاذَا بَعْد؟
قال: أُرطَبُونُ القَرْيَةِ العَالميّة يحَاسِبُ الجَمَاعَاتِ حَسْبَ المَزَاج، وَهُو رَجُلٌ خَداج ، في سَاعِدِهِ قُوَّةُ عِمْلاق، وفي جَوَانِحِهِ نَفْسٌ خِلوٌ مِنَ الأَخْلاق، فإِذَا لم يُعْجِبْهُ مَصْنَعُ سَمَادٍ دمّرهُ بالقَنَابِلِ الحَمْقَاء، أو أوْعَزَ لأحبَابِهِ أنْ يَذْهَبُوا إليهِ بالكَتَائِب الخَشْنَاء، وإذَا رَأَى جَمَاعَةً أرِيبَة، تُرِيدُ استِخْدَامَ الطَّاقَةِ السِّلْمِيَّةِ حَدَجَهَا بِعَيْنٍ مُسْتَرِيبَة، وَهَدَّدَهَا بِالفَيْلَقِ والكَتِيبَة، إلا إذَا جَاءَهُ الهُدْهُدُ برِسَالَةِ أمِيرِهَا، يُبَلِّغُهُ فِيهَا قبُولَ التَّعْلِيمَاتِ بِحَذَامِيرِهَا ، وهَرَفَ إلى التَّسْبِيحِ بِحَمْدِهِ قَبْلَ أن يَدْعُوَهُ النَّاقُوس، وَسَمَحَ لَهُ بتَفْتِيشِ مَطْبَخِهِ، ومَا فِيْهِ مِنْ كَامِخٍ ومَكْدُوس، وحَمَّامَاتِه وَغُرَفَ نَوْمِهِ وثِيَابَ العَرُوس، وأعطَاهُ البَرْنَامَجَ ومَا أَعَدَّ لَهُ مِنَ الخُطَط، ومَا جَلَبَ له مِنْ مُعِدَّات، شَأنُهُ شَأنُ القِطَط، الَّتي تَتَمَسَّحُ بِأَحْذِيَةِ البَاشَاوَات.
قُلْتُ: لا يْفْعَلُها إلا رِعْدِيدٌ يَعِيشُ في إذْلال، نُخْبَةٌ لا يَسْتَحِقُّ الجُلُوسَ بينَ الرِّجَال.
ثمَّ إنَّ الجَلسَةَ صَفَتْ بينَنَا بَعْدَ ذّلك، حتى كِدْنَا ننسَى غَمَّ القَانُونِ الشَّرَويّ والغَرَويّ الَّذِي يَحْكُمُ السِّلاحَ النَّوَوِي، فَقَامَ وأحضَرَ لي تِيْناً ورُمَاناً، ثمّ سَأَلَني:
- ألا تَشْتَاقُ إلى مَدِينَتِكَ التي كَانَتْ تَنَامُ عَلَى سَفْحِهَا سَيِّدَةُ البُحَيرَات في أَمَان، وتَنْبُتُ عَلَى تَلالِهَا أشْجَارُ التِّينِ والزَّيتُونِ والبَلَحِ والرُّمَان.
- قلتُ: بلى والله، فقلبي بحبّها متبول، والجوانح شَهِيدَةٌ عَلَى مَا أَقُول، ولَكِنَّكَ ذَكَرْتَ الزَّيتُونَ والبَلَحَ والتِّينَ والرُّمَان، فَأَطْعَمتَني اثْنَتَين وَحَرَمْتَني اثْنَتَين، فَقَالَ ضَاحِكاً: فأمّا الزَّيتُونُ والبَّلَحُ فأتحرَّجُ مِنْ بَلْوَاهَا، وأَخْشَى أن يَأتِيَ التَّفْتِيشُ عَلَى نُوَاهَا.
ثمَّ أَخَذَنَا صَفَاءُ الحَالُ إلى حَدِيثٍ طَوِيل، فصَارَ يحدِّثُني عَن القُدْسِ والخَلِيل، فَقَد زَارَهُمَا في خِلالِ حَيَاته، وَقَضَى فِيْهِمَا أجْمَلَ ذِكرَيَاتِه.. وإذ ذَاكَ عَادَ إليّ الهمُّ والغمّ، فاستَأْذَنْتُ وأَسْرَجْتُ حُزْني، وفي قَلْبي شَوْقٌ للبَلَدِ والخِلَّان، وفي ذَاكِرَتِي "عَبّادُ شَمْسٍ يُحَدّقُ في مَا وَرَاءَ المَكَانْ، وَنَحْلٌ أَلِيفٌ يُعدُّ الفُطُورَ لجَدّي، عَلَى طَبَقِ الخَيْزُرَانْ، وفي بَاحَةِ البَيْتِ بِئْرٌ وصَفْصَافةٌ وحِصَانْ ".
وإذْ سَكَتَ طَرِيدُ الزَّمَان، رُحْنَا نَتَذَاكَرُ أيَّامَنا في اللدِّ والنَّاصِرَةِ وبَيْسَان، وإذْ خَرَجْنا مِنَ الدِّيوَان، ليُوَدّعَنا تودِيعَ الخِلّان، سَأَلْنَاه مَوْعِداً جَدِيْدَا، يُحَدِّثُنا فِيْهِ حَدِيثاً فَرِيدَا، فَقَالَ: سَأُحَدِّثُكُم في قُابِلِ الأيَّام، عَنْ "وِرْد الحِمَام في مُفَاوَضَات السَّلام".

د. يوسف حطيني
1/11/2008

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى