الزجل المغربي بين الغنائية والالتزام – من الجفرية إلى قصيدة جيل جيلالة

الزجل المغربي بين الغنائية والالتزام – من الجفرية إلى قصيدة جيل جيلالة / Laila Elkhal ـ Khouribga Multidisciplinary Faculty ـ Sultan Moulay Slimane University ـMorocco
admin
2019-01-09
دراسات أدبية وفكرية
Comments

الزجل المغربي بين الغنائية والالتزام – من الجفرية إلى قصيدة جيل جيلالة

Moroccan Zajal between lyricism and commitment – from Jafriya to the poem of Gil Jilala

د. ليلى الخلفي – جامعة السلطان المولى سليمان – الكلية المتعددة التخصصات ـ خريبكةـ المغرب

Laila Elkhal ـ Khouribga Multidisciplinary Faculty ـ Sultan Moulay Slimane University ـMorocco

مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 51 الصفحة 9.


Abstract:

One of the aspects of the national creative script scene is the Moroccan Zajal, which knew how to impose its presence through the influence of national textual practices and to prove its presence and development through other Andalusian texts; the development of simultaneous interdependence with the changing historical condition, hence contructed for substitution and privacy:

- At the level of the term that showed multiplicity, haunted by the fever of fascination by this creative art, in which ancestors created with love.

-At the level of construction, which is always better listening to the self.

-At the level of performance which changed its direction from narrative to lyric, preparing art to progress towards itself and identify the essence which is singing.

- At the level of significance, which expanded to include a variety of purposes, we focused on the realistic commited act which was established previously by some – creative Gefry models and chose as a topic contemporary issues, nationally and in the Arab world, accompanied by copying, criticism, interpretation and vision. In the seventies of the last century, it could reconstruct itself according to substitutions and began to recreate itself with some of the musical groups, including the Gil Jilala group, which gave it a special characteristic.



الملخص:

يمثل الزجل المغربي، أحد أوجه المشهد النصي الإبداعي الوطني، عرف كيف يكتب حضوره بتأثير ممارسات نصية وطنية ويثبت وجوده وتطوره بفعل نصوص أخرى أندلسية؛ تطور ترابط في الوقت نفسه بالشرط التاريخي المتحول، فأسس لإبدال ولخصوصية:

-على مستوى المصطلح الذي سجل التعدد، المسكون بحمى الافتتان بهذا الفن الإبداعي، مع شيوخ أبدعوا فيه بعشق

-على مستوى البناء الذي أحسن الإصغاء باستمرار للوينات الذات.

-على مستوى الأداء الذي غير وجهة سفره من السردي إلى الغنائي، مهيئا الفن للتقدم نحو ذاته والتماهي بجوهره الذي هو الغناء.

-على مستوى الدلالة التي اتسعت لتشمل أغراضا متنوعة، وجهنا اهتمامنا فيها إلى الفعل الواقعي الملتزم الذي رسخته –قديما-بعض النماذج الإبداعية –الجفرية- تختار لها موضوعا قضايا العصر، وطنيا وعربيا ،صاحبتها بالنقل والنقد والتفسير والرؤيا، مسجلة بذلك، تجربة متميزة استطاعت وفق إبدالات أن تعيد نفسها، حديثا – في السبعينات من القرن الماضي- مع بعض الفرق الغنائية منها مجموعة جيل جيلالة التي أعطتها إمضاء خاصا نقرأه مع مجموعة قضايا.

الكلمات المفتاحية: الزجل؛ الشعر؛ الغناء؛ الالتزام؛ الجفرية، جيل جيلالة.

يقارب المقال القصيدة الزجلية بالمغرب وهي تختبر، منذ القديم، إمكانات مختلفة لوجودها ، ترحل داخل وخارج ذاتها لتنخرط مع بعض النماذج في وعي للعالم ،تتلاشى في الجمهور وتترجم نبضه في تجربة، ترى إلى الفعل النصي وجودا يستطيع منح نفسه هوية، يستطيع تحقيق الممكن أو تهييئ السبيل إليه، ترشح بمجموعة إشكالات، حاولنا ملامستها من خلال عينتين قديمة وحديثة هما الجفرية وقصيدة جيل جيلالة منطلقين في البداية من رصد تاريخي، تصاحبه بعض قضايا تتعالق بالموضوع منها الغنائية في التصور النقدي وعلاقة الفنون بالالتزام كما حددت نفسها في الفكر الحديث.

المتنوع الإبداعي القديم وتأسيس الذاكرة النصية:

اجتمعت في تأسيس الفعل النصي القديم بالمغرب أنماط إبداعية مختلفة منها:

– شعر العرب الوافدين إلى المغرب بالعربية الفصحى.

– فن الموشح وقد أبدع فيه إلى جانب ابن غزلة عدد من الوشاحين الوافدين إلى المغرب ك: ابن زهر، ابن حزمون المرسي، سهل بن مالك الغرناطي، ابن الخطيب.

– عروض البلد، وهو فن شعري استحدث في المغرب كما يقول ابن خلدون (في أعاريض مزدوجة كالموشح نظموا فيه بلغتهم الحضرية. وكان أول من استحدثه هو رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بـــابن عمير)[1].

– الزجل وقد ترابط التأريخ لبدايته بتصورات مختلفة يحضر منها تصور عباس الجراري[2] الذي أثبت وجود رصيد منه في عهد الموحدين، ساهمت فيه أسماء أبرزها ابن غزلة. كما تسجل اسما السلطان الموحدي عبد المومن وأخته رميلة في هذا المجال الإبداعي.

يذهب الناقد إلى ترجيح أن تكون الأغاني والمرددات الشعبية المحلية إضافة إلى عروض البلد، النواة الأولى التي هيأت لظهور هذا التوجه الشعري، لكن الذي ساعد على تطوره هو الزجل الأندلسي حيث نقرأ بعض الأسماء المهمة التي شقت طريقها إلى المغرب، منها الأندلسي أبو الحسن الششتري بأزجاله التي حظيت باهتمام المغاربة، فتم نسخها وشرحها كما فعل ابن زروق المتوفى سنة 899 ه، وابن عجيبة المتوفى سنة 1311 ه. وقد ساهم كل هذا في انتشار هذا الفن الذي كان الزجال يتنقل به في المدن وينشده في الأسواق.

استقبلت الممارسة الزجلية بالمغرب مرحلة جديدة في عهد بني مرين مع مبدعي تافيلالت، كعبد الله بن احساين الذي أسس مسارا إبداعيا لهذا الفن امتد في أنحاء مغربية مختلفة مع تلامذته، ومنهم: ابنه محمد بن عبد الله، محمد بن علي بوعمر، الحاج اعمارة، ادريس المريني، عبد العزيز المغاوري.

أما العتبة العليا لهذا الإبداع والتي أرخت لما سمي الصّْابا دْ الشّْياخ أي موسم الأشياخ فقد شهدها النصف الثاني من القرن الثاني عشر على عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله والربع الأخير من القرن الثالث عشر. تسجلت نهايتها في عهد السلطان المولى عبد الحفيظ.

نذكر من شيوخ هذا العهد، الجيلالي امتيرد الذي أطلق عليه في مراكش فاكْية الشّْياخ وفي فاس (عرَصْتْ الشّْياخْ) كما عرف بــــ الشّْعالَة؛ إلى جانبه نذكر الحاج محمد النجار، عبد القادر بوخريص، محمد بن علي الغمراوي، الفقيه لعميري.

حصيلة إبداعية مهمة وإن لم تصلنا كاملة فقد رسخت جذور هذا الفن بخصيصاته المغربية، ورافدا من روافد الإبداع الزجلي الحديث، إذ أسست للغة راقية بليغة كما أسست للمصطلح المغربي لهذا الفن، متجاوزة لفظة الزجل المرتبطة بالأرض الأندلسية، مصطلح تعدد ورد في نصوصهم الإبداعية نقرأ منها كما جاء في كتاب القصيدة[3]، ما يلي:

– “الملحُونْ”، يقول بوعمرو:

مْلحُونا اقْنادْلْ تْضْوِي فْالدَّاجْ ما خْطا سْرادقْ

وْالنَّاسْ رايْدا تْطفِي نورْ اقنادْلُو فْكُلّْ اغْسيقْ

- “العلمْ المُوهُوبْ”، يقول التلمساني يرثي المغاوري:

بُستانْ الزّْهرْ صاحْبْ السِرّْ مْكْنونْ عْلمْ المُوهوبْ ماتْنهيهْ قْراطسْ

– “السْجيّة”، يقول حسون وتير:

مْلِّيتْ مْن السْجيَّا وْلَّى فيها العارْ والشّْنارْ

- “النَّظَمْ أو النظام”، يقول بنعلي المسفيوي:

يالْحافْظْ نْظْمي بِينْ لمْحافْل تْصولْ كْررُّو بْلْسانْكْ بُكْرا مْعَ لْصلا

- “لْقريضْ”، يقول الحاج اعمارة:

يا راوي لْبياتْ عَنّي غَنّي وْصولْ لا تْخشى مْنْ عْديَاني

انْظَامِي وْقرْيضْ وْزني شْلاَّ يْطيقْ عَنُّو مْطموسْ اعْدْياني

– “لوْزانْ”، بقول ابن علي المسفيوي:

والحَاضْرينْ رَحمُو ناظمْ لوزانْ فْي بابْكُم ديمَا مْسؤولّْ

-“اللّْغا”، يقول بن علي الشريف:

يْستغْربْ مْن لا تْحدثُو بْخطابْكْ لْغريمْ فِي اللّْغا يْسْطابْكْ

– “العلمْ الرّْقيقْ”، يقول المدغري:

نْهيتْ حْلتي لْارْبابْ العْلم الرقيقْ

- “لكْلامْ”، يقول محمد بن عل بن ريسون:

اللِّي يْحفظْ هاذْ لْكلامْ يْنجَا مْنْ كُلّْ عْذابْ

القصيدة الزجلية فن غنائي:

أ‌- الغنائية داخل الوعي النظري:

ارتبط مصطلح ليرا في الموروث الإغريقي بدلالة واسعة تمتد لتشمل القيثارة، الغناء، الشعر. فكان الشعر الغنائي مع هذا الموروث، كل شعر يغنى مصحوبا بالقيثارة أو بدونها.

انحفرت لهذا النموذج الإبداعي مكانة قوية مع الرومانسية الأوربية، لكن حضوره المتميز تسجل أيضا مع حضارات إبداعية غير أوربا، منها العربية وكمفهوم أجناسي، تتقدم الغنائية من خصيصات الخطاب الشعري، تترابط بمرتكز مهم في بناء هذا الخطاب، يتعلق الأمر بـــالإيقاع بمفهومه النقدي الحديث الذي يتجاوز البنى الوزنية والعروضية، إلى بنية أكبر، تتفاعل داخلها كل الدوال النصية لبناء دلالية الخطاب.

حددت شعريتنا العربية القديمة تصورها للغنائية فرأت إليها عنصرا مهما بوظيفتين: تواصلية وبنائية حيث الإلقاء كما يقول محمد بنيس (يتدخل في بناء النص الشعري فيكون الصوتي حاضرا في الكتابي)[4] لهذا السبب رأى الشاعريون العرب إلى الإنشاد كما يذكر أدونيس (شكلا من أشكال الغناء موهبة أخرى تضاف إلى موهبة قوله) فقالوا (مقود الشعر الغناء) و(الغناء ميزان الشعر)[5]

ب‌- القصيدة الزجلية المغربية وتجربة السرد/ الغناء:

شيد الزجل المغربي مكانته في العصور الأولى على أرضية متعالية تحتمي بالديني موجها أساسا وبالطول عنصرا بانيا نلتقي فيه مع قصائد تنفرد بخصيصاتها مثل “هول القيامة” للشاعر عبد العزيز المغراوي و”الجمهور” لعبد القادر العلمي، و”لخلوق” لابن علي، احتمت بطقوس أداء معينة عرفت بـ السرادة وهي براعة إلقاء تهتدي بقوانين اشتغال وتختار مكانها الخاص[6] ومتلقيها؛ لكن قوة الإبداع التي ترفض هيمنة الواحد المتكرر ستكتب داخل هذا الفضاء الزجلي تطورا انفتح فيه الأداء على طرائق أخرى هي الإنشاد والغناء حيث تسجل الزجال محمد بوعمر في الربع الثاني من القرن العاشر وشما غائرا على جسد هذا الفن وعهدا آخر في تاريخه بإبداع، شكل ثورة عل مستوى الدلالة والبناء انحفر معها مكان للغزل وقصائد خفيفة وجهت للغناء.

رحلة تحديث للمارسة النصية الزجلية تلتقي فيها بماهيتها من خلال مكونين منظمين قدمهما الخطاب النظري الواصف، هما الصوت والغناء الموجهين لوظيفتين تواصلية “تحقيق الإفهام” وجمالية تطريبية “تحقيق المتعة”.

تحديد نقرأه مع أبي بكر حجة الحموي، ينطلق من اللغوي لرصد الكلمة فيقول:(الزجل في اللغة هو الصوت، يقال سحاب زاجل، إذا كان فيه الرعد، ويقال لصوت الأحجار والحديد والجماد)[7] ثم يضيف أهمية بالنسبة لهذا الابداعي (…إنما سمي هذا الفن زجلا لأنه لا يلتذ به وتفهم مقاطع أوزانه حتى يغنى به ويصوت)[8].

مفهوم لا شك، وجد صداه عند شيوخ هذا الفن، الذين استوعبوا أهمية الصوت والغناء، فرأوا إلى المشهد الإبداعي، لا يكتمل، إلا بلقاء سعيد بين الكلام والصوت. يقول بوعمر:

انْظمْ وانْغنِّي سَعْدي اسْكَامْ لي ونقولْ احْلْتي وشعري واسْجالي

فِي مْحرابْ الغرامْ هِيَ القْبلَة[9]

هذا النظم الذي يجعل موضوعا له المرأة والذي لايلذ إلا متعالقا بالغناء هو ماردده الحاج اعمارة، فيما بعد، قائلا:

يَاراوي لْبياتْ عَني غَنِّي وْصُولُ لا تْخشَى مْنْ عْديانِي[10]

لقد ارتبطت القصيدة الزجلية بالغناء، على غرار الشعر الفصيح. هو الارتباط الذي يعيدنا إلى ذاكرتنا الشعرية حيث نقرأ مع حسان بن ثابت هذا البيت الرائع:

تغنَّ في كلِّ شعرِ أنت قائلُهُ إن الغِناءَ لهذا الشِّعر مِضمارُ[11]

وإذا كانت الحاجة إلى الغناء، عند العرب، هي التي أنتجت هذا الإبداع المتميز، كما يذكر ابن رشيق القيرواني (وكان الكلام كله منثورا، فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها وطيب أعراقها وذكر أيامها الصالحة، فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعرا)[12]

فإن الأغنية أيضا –بشكلها الجماعي- هي التي هيأت لظهور فن الزجل كإبداع فردي بقوانين اشتغاله كما يذكر الأهواني[13] الذي أثبت أهمية الزجل في الرقص والغناء والموسيقى بين الأندلسيين وأن أصله هو الأغنية الشعبية وأنه موجود قبل ابن قزمان.

لقد شكل الغناء إذن، البداية المؤسسة لظهور هذا النمط الإبداعي وحفر أثره -إلى جانب وظيفتيه التواصلية/ التطريبية – عنصرا بنائيا مهما. حين تحول إلى (فن غنائي يسير في وزنه على حسب ما يتفق مع الغناء)[14] حيث أصبح الزجال يستدعي من العناصر البنائية ما يهيئ إبداعه للغناء.

إن التجربة الغنائية لهذا النمط الإبداعي التي أرخت لبدايتها مع الزجال محمد بن علي بوعمر، والتي اصطدمت داخل فضاء محافظ، بأصوات الرفض، التي أنكرت جرأة المضمون الغزلي، ستأخذ مكانها مع مستمع يراهن على التجديد، فتحظى بقبول المجموع، منبهة الوعي الابداعي إلى الغناء، الذي أفاد من تجارب تحديثية مختلفة كما نلاحظ نرى إلى اثنثين منها مهمتين:

- تجربة عبد الله احساين التي أرخت لنمط آخر من البناء النصي الزجلي يرتكز على الأوزان. وقد كان لهذا البناء أهميته في تلحين قصائد الزجل وإثراء الحقل الغنائي.

-تجربة ادريس المريني التي غيرت وجهة القصيدة الزجلية برفض البناء النصي السابق، الذي يحبس اندفاق المعنى بحرية، تتباهى في الوقت نفسه بدوال نصية أخرى قوة إحساس، جمال معنى وقدرة كلمات على النفاذ إلى أذن المستمع وإطرابه. يقول المريني:

أنَا ابْغيتْ نْنظَمْ والحَرفْ بْدا يْغورْ

اعْلاهْ ما يْكونْ الشعْرْ ابلْا حرفْ

غِيرْ حْسّْ وقُولْ الكْلماتْ

ولُودْنْ تْسمعْ ما قُلتْ

وْلقْلوبْ اتْغنىَّ بْغْناكْ

تَابْعَا تْلذيذْ المعْنى وْلا اعْناتْ بْشي قْافِيَّاتْ[15]

تجارب، على اختلافها، فعلت في المسار التجريبي الذي لا نعرف تطوره، لغياب المادة التاريخية. لكن، لا شك، أنه ترك رصيدا اغترف من حوض ثري هو طبقات من إنتاج غنائي متعدد يعود بجذوره إلى الهوية المتعددة التي فعلت في تأسيس ذاتنا الوطنية وذاكرتنا الغنائية.

الفن والالتزام أي علاقة؟

يؤرخ مفهوم الالتزام لبدايته، كمفهوم فلسفي مع الجهد الفكري لــــ جون بول سارتر الذي رأى إلى الكاتب يكون ملتزما، إذا وجه اختياره إلى كشف العالم[16] وتقتضي رسالته الاهتمام بإظهار المعاني. وإذا تساءلنا عن امبراطورية هذه المعاني أو العلامات الدالة نجد المفكر قد حددها في النثر الذي رأى إلى الكلمات فيه ليست موضوعات بل تسميات للموضوعات[17]، إن الناثر يستخدم اللغة. ولأنه كذلك يستطيع (حين يعرض عواطفه) أن يظهرها. [18]

لكن إذا سألنا المفكر، ما حظ الشعر من هذا التوجه الفاعل والمسؤول؟

يجيبنا، بأنه من بين فنون الإبداع الأخرى-الرسم والنحت والموسيقى-التي لا يمكن أن تجسد موقفا فكريا. فالشعراء أناس يرفضون استعمال اللغة، ولا يمكن أن نتخيلهم يسعون إلى كشف الحقيقة ولا إلى عرضها، لا يفكرون في تسمية العالم …لأن هذه التسمية تستلزم تضحية دائمة بالاسم في سبيل االمسمى.[19]

إن حقيقة العملية الإبداعية إذن، أن (تتجمع الكلمات-الأشياء بواسطة ترابطات سحرية للانسجام والتنافر مثل الأصوات والألوان –تتجاذب تتدافع وتحترق وتؤسس الوحدة الشعرية الحقيقية التي هي الجملة-الموضوع). [20]

يتضح من هذا الكلام أن الشعر ينفرد بعالمه، تبنينه بعيدا عن البنيات الذهنية المشتركة، تداعيات سحرية للألفاظ والأشيإء، حيث تتجاوز معه اللغة وجودها المألوف إلى آخر متحول غريب يمارس الإدهاش والتأثير، إن الشعر تشكيل لغوي خاص يوجه اهتمامه إلى الحقائق اللفظية وليس إلى الفكر.

نستنتج مع المفكر إذن، أنه لطبيعة هذا الجنس الإبداعي لا يمكن قبوله ضمن فضاء الكتابة الملتزمة. لكن هذا الإقصاء لم يستطع الصمود أمام الزمن الذي أثبت عبر التاريخ جبروت القوة الإبداعية ومآزق التصور الفكري، وبرهن عن قدرتها في الانغراس في قضايا المجتمع بتقنيات بانية كان لها التنوع والاختلاف.

قدرة فقهها حديثا النقد الإيديولوجي الذي رسم منعطفا آخر للفعل الإبداعي حين ربطه بالإيديولوجيا باعتبار أن الأدب برمته هو جزء من النظام الاجتماعي، إنه ظاهرة اجتماعية، تتحدد في علاقتها الجدلية بالمجتمع، إذ يقدم الأديب رؤيته الفكرية بتأثير المجتمع سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا ويستطيع هو الآخر –بانغراسه في المجتمع والتزامه موقفا يحقق صداه في المجموع- أن يفعل في هذا المجتمع بإصلاحه وتطويره.

ضمن خانة هذا الاتجاه النقدي نقرأ محمد مندور الذي يقول (انقضى الزمن الذي كان ينظر فيه إلى الأدباء والفنانين على أنهم طائفة من الفردانيين الآبقين الشذاذ أو المنطوين على أنفسهم أو المجترين لأحلامهم وآمالهم الخاصة وحان الوقت لكي يلتزم الأدباء والفنانون بمعارك شعوبهم وقضايا عصرهم ومصير الإنسانية كلها…)[21]

انطلاقا من هذا التصور الإيديولوجي يستطيع المبدع أن يرسم مكانته ويسجل قيمته فلا يكتفي بالمشاهدة فقط، بل يشارك الفكر قضاياه. فدوره يكمن في وظيفته الاجتماعية، هي الوظيفة التي استأثرث باهتمام المجال الثقافي العربي، مشرقه ومغربه، فكرا نقدا وإبداعا.

الزجل المغربي وهوس الكلمة الهادفة:

أ-عودة إلى الذاكرة:

يساعدنا الحفر في أنفاق الذاكرة الإبداعية الوطنية على الإنصات لمنتوج زجلي متنوع لم ينكر الزمن، حين قدم مختلفا، يفتتن بتجريب أشكال بنائية وارتياد مجالات دلالية، تنظمها أغراض متنوعة أرخت لمكانتها مع الشعر الفصيح هي الغزل، الخمر، الطبيعة، الهجاء، الرثاء، المدح والمديح النبوي ترسم أيضا، مساحة مهمة لنوع آخر متميز، ترابط بشرطه السوسيوتاريخي هو القصيدة-الجفرية كنواة لتوجه واقعي ملتزم، عرفه قديم شعرنا الزجلي، اهتم معه المبدع بعكس الواقع في كل جوانبه، بتقديم صورة للعصر والمجتمع استطاعت أن تمثل وثيقة تاريخية اجتماعية. وتصوير لا يقف عند حدود النقل فقط، بل يتجاوزه إلى النقد بالتزام تصور، هو ماجسده نتاج على قلته، فقد ترابط بأسماء متعددة منها: الفقيه لعميري، محمد بن عمر، احمد الغرابلي، الكفيف الزرهوني، ابن الكبير المراكشي، حيث نلتقي بالقصيدة-الجفرية وفق فضاء دلالي، يمكن قراءته من أمكنة مختلفة:

=لوحة تصويرية موجهة لكشف الجوانب السلبية في الواقع كما يتبدى في هذه الأبيات للمؤقت:

سُبْحانَ الله صَيْفْنَا وْلَّى شْتوَا وارجَعْ فَصْلْ الرّْبيعْ فالبُلدَانْ اخْريفْ

مْلِّي فالغَرْبْ عَنْدْنَا طَنْبُورْ ادْوَا والنَّاسْ افْضيقْ حَالْ مْلّْغلْاَ والصَّيفْ

وادْراهْمنَاضْحَاتْ فِيدِينَا رَغْوَا لَابرَكَا بْقاتْ لا شْتوَا لا صَيْف[22]

هي مشاهد متناثرة من الواقع استعان الشاعر بها لمعاينة بؤس واقع، حيث تتبع مجموعة من المرئيات في تقديمه للمكان، ينظمها السردي ودوال أخرى بانية كـ الرمزي والكنائي نقرأ معها مجموعة من الظواهر الطبيعية الغريبة نتاج ظرف تاريخي معين (حول الصيف إلى شتاء والربيع إلى خريف،سطع معه نجم السفلة فعلوا، تراجعت قيمة الدراهم وتقلص الإنتاج فسادت المحنة.

إن الشاعر بهذا التصوير يضعنا أمام تعبير رؤيوي، لإنتاج حمولة دلالية عميقة. وهو التعبير الذي وجد مكانته –وفق خصوصية إبداعية متعددة – عند شعراء الحداثة يحضر معه تصوير مثل هذه الأرض الجدبة ومعها صراع الموت والحياة كما نقرأ في أشعار السياب مثل (مدينة بلا مطر) أو كما نجد في (الأرض اليباب) للشاعر الإنجليزي إليوت وفق رمزية حديثة تحتفل بدوالها المتميزة.

=رؤية إصلاحية تهتم بإظهار فساد الواقع ورصد مآسيه رابطة في نفس الوقت الأسباب بالمسببات، حيث ضمور الجانب الديني يعبد الطريق لهيمنة الجور والطغيان،كما يقول الغرابلي:

لُولاَ ضَعْفْ الإيمَانْ مَا يْضْعَافْ ازْمَانْ

وْيْولوا الطّغْيانْ بْالقهْرْ جَايْرين[23]

=امتداد التصور الملتزم ليشمل أيضا قضايا الذات العامة، كما نقرأ في كلام ابن الكبير المراكشي:

النّْـــزَعْ دْهَانَا مْعَ بَعْضْنَا بَعْض، العْدو افْجْنْبنَا يْتْسْناَّنَا…وامْعَاهْ لْخُوتْ سْلْحُوه بْقْنَابْل للتّْخرَابْ

لَازْمْ الصَّفْ انْوَحْدُوهْ حْسّْ امعنا نتَّاحْدُو لَا مْنْ يْقوانَا…غْذا كْنَّا مْتوافْقينْ ما يْلحَقْنَا كْذَّاب[24]

تمثل هزيمة العرب أمام العدو الصهيوني أبرز النكبات التي جابهت العرب. ولاشك أن شعرهم قد قدم حصيلة إبداعية في وصف المأساة كان أكثر تفهما لأسبابها، وضع العربي أمام نفسه، قدمت صورته الحقيقية كما يتضح من الأبيات السابقة، أشار إليها شاعر حداثي مثل البياتي في كلمته:

طحنتنا في مقاهي الشرق حرب الكلمات

والسيوف الخشبية

والأكاذيب وفرسان الهواء[25]

لقد أنهك ذاتنا شرودها، فانقسمت على نفسها والداء القاتل يتغلغل داخلها ويتكتل، تسانده قوى خارجية حليفة بالعدة والعتاد. ولو استطاعت هذه الذات أن تجمع أطرافها بالوحدة، لمنعت عنها كل بلاء.

=اتساع الموقف الملتزم ليصل إلى مستوى النبوءة أو الكشف، وهو مستوى آخرمن الرؤيا ومفهوم حديث للشعر، جسده السياب بقوله (لو أردت أن أتمثل الشاعر الحديث لما وجدت أقرب إلى صورته من الصورة التي انطبعت في ذهني للقديس يوحنا وقد افترست عينه رؤياه وهو يبصر الخطايا السبع تطبق على العالم كأنها أخطبوط هائل)[26]. من هذه الرؤيا قول سيدي لحسن:

نَاسْ الرّْفعَا تْعُودْ خَافْضَا بَعْضْ الشَّأنْ تْضْحَى قَومْ لْفْجُورْ في إِقرارْ التَّمكِينْ

خَبّْروُا بِهْ لْجفارْ لَامْ وْفَا وْرا ونُونْ وصَادْ وسِيْن[27]

يتنبأ الزجال بأحداث قادمة ومجتمع تسيطر فيه المفارقات الذي يضع شخصا ويرفع آخر فيجور كما يتضح من خلال الأبيات الزجلية ، التي تشير –بواسطة- حروف مقطعة (ل-ف-ر-ن-ص-س) إلى احتلال فرنسا للمغرب، وهو ما رأته الأجفار التي تستعين في قراءة الوقائع بالحرف :

لقد أثبت هذا النمط الزجلي قدرته إذن، كنشاط اجتماعي يجعل الواقع ضمن مسؤوليات المبدع الزجال ويسعى إلى إصلاحه عبر واقعية نقدية تهتدي بلغة رمزية إيحائية.

ب-القصيدة الزجلية للعصر الحديث، إبداع اختار مساره:

استفاق المغرب بعد الهيمنة الاستعمارية على واقع متردي، يرسف في أغلال الجهل، الفقر، المرض، التخلف ثم تفاوت طبقي صاحبه صراع فكري، هيأ الفضاء الثقافي لاحتضان الواقعي الإيديولوجي إطارا فلسفيا موجها، في رؤية –وإن اختلفت- فقد كشفت وطنيا وعربيا “عن منعرج تاريخي خطير حرك سؤال الفكر، النقد والابداع، كان منه سؤال القصيدة الزجلية، الذي وجد جوابه في الإنصات العميق لروح العصر، يؤرخ بذلك لمسار متميز، تبنته فرق موسيقية منها جيل جيلالة. واختيار واع قدم نفسه خلال الفترة السبعينية،كضرورة فرضها السياق السوسيو تاريخي:

ما بْقا يْنفْعْ داهْ صْبْر

لازْمْ الحدّ لهْادْ الضَّرّ

قْبْل مَا العْدوَى تْنتاشْر”[28]

ينطلق اختيار هذا التوجه الزجلي لأهميته في إعانة المجموع على الرؤية الصادقة لقضاياه، توعيته وحشد همته للنهوض بهذا البلد الذي يمتد تاريخه قرونا. إن الداء قد عرف طريقه إلى الذات ولابد له من مواجهة جماعية وجدية قبل انتشاره.

هو التوجه أيضا الذي يعي منذ البداية مآزق الفعل الملتزم:

حيث القلق والتوتر مستمران:

الَّليلْ مْشاتْ راحْتو

وْتبدّْلْ سْقام[29]

حيث الخوف من فراق الأحبة والأصدقاء:

وا كُولو لْخْليلي إلَا مْشيتْ بْاللِّيلْ

ما بْقا لي لَيلْ نزورْ فيهْ الخْليلْ[30]

حيث الانخراط في الواقع هو مهمة سامية ورحلة مجد ، لكن محفوفة بالمخاطر ولا بد لها من القرابين الكثيرة:

السّْفَرْ طْويلْ وْالمرْكبْ غَالِي

والنّْفسْ تْميلْ مْعَ السِّيلْ وْالمَطلبْ عَالِي [31]

بناء إذن على هذا الاختيار الواعي الذي يبتهج بطقوسه ومآسيه، ولأن هذا الاختيار يراهن على مشاركة الفكر هموم الذات في امتدادها الواسع –الأنا ، الذات الوطنية والذات الحضارية_ فقد حفر على جسد القصيدة الزجلية الموجهة للغناء، نتوءات عميقة، أعطته هويته الخاصة التي تتمثل في:

الرقي بالزجل الغنائي:

هْمومْكْ غَنينا حْسْبُوه جْدْبَة وْشْطيحْ[32]

إن من بين مهام هذا التوجه الإبداعي، إخراج الزجل من سياج التسلية والرقص والفرجة (الجدبة والشطيح) ثم الرحيل به إلى عتبة أخرى، أعلى وأنبل، وهي الانصهار في دواخل المجموع والالتحام بوجدانه

العودة به إلى المفهوم القديم يتعلق الأمر بإعادة المعنى للكلام[33] بإحياء مكانته القديمة وتقديمه رسالة هادفة، لكن إحياء يترابط بضرورة انعتاق المجموع من شرنقة الأوهام والتحلي بالعزيمة والإصرار واكتساب المعرفة:

وننَّادِي بْالحالْ فِينْكُمْ يارْجالْ

لا ترْكْبوا لهْبالْ وْلا تْسْكنوا لْخيالْ

تْسْلّْحُوا بالإقدام

قاوموا لْوهامء

هْزْموا الجَهلْ وْهزْموا الظّْلام

يعودْ لمْعنى لْلكْلام[34]

تحويل الكلمة إلى مسكن مهووس بالإنسان وهمومه:

يا الكَلْبْ لمْسْكونْ ساكْنْ جُوفي يانا

راهْ اليُومْ سْكنكْ الهَم[35]

القصيدة الزجلية لمجموعة جيل جيلالة-التزام اختار إمكاناته:

يمكن الرؤية إلى أهمية هذه التجربة في صدورها عن عصرها، تفهمته وتفاعلت مع أحداثه، يوجهها بذلك الإحساس بالمسؤولية التاريخية التي تقع على عاتق الإبداع.

تنظم المشهد النصي للقصيدة دلالية تمتد بين حركتين متلازمتين: نقل الواقع وإبداعه، تحضر معهما الصورة والتعبير بالرؤيا وسيلتان بانيتان.

تهتم الصورة بنقل التجربة الإبداعية وتفعل فيها صور جزئية للحياة والناس، أبطالها: الذات/الأنا، الآخر/ فردا ومجموعا، وكلها أطراف في صراع مع الواقع، اهتمت القصيدة الزجلية بوصفها اجتماعيا، نفسيا وفكريا.

-الذات/ الأنا :

=ترفض واقعها وتسعى إلى تغييره فيكن لها العداء والكراهية، تختبر معهما معاناة النفي داخل الوطن، التشرد والضياع:

(شْلَّا حْروبْ قاسِينَا/عْيِينا عيينَا عْيينَا/شلَّا عْداوة عَانِينَا)[36]

=تواصل في متاهات الغربة ودون كلل، البحث عن عشيقتها، (عشتار) واهبة الحياة فتصطدم بنفسها ظلا سرعان ما يختفي:

مَالي يَا مَالي أَوَّاهْ يا مَالي شَاينْ جْرَى لِي هَذي غُربَة قَتَّالَة

نْجرِي ونْسوّْلْ صَيفْ ولْيالِي عَنْ ظْلّْ خْيالِي وَاشْ أَنا نيِّتْ ولَّالَّا

بْنْهارْ وْلِيلْ نْطاردْ في غْزالِي

حَالي يَا حالِي وْلَا حَالْ صْفَى لِي[37]

-الآخر/ الفرد:

يكابد وحيدا قسوة الحياة وبؤسها، منفي في ذاته لا يملك سوى الفقر(بصلة وزيتونة) كما يقول النص الزجلي:

بَصْلَة وْزْيتُونَة في قْرابْ وْراسْ مَالكْ الصَّدقْ والفْقَرْ

وْحالكْ يْشيّْبْ لْغْرابْ وْلا مْقالْ باْلوَصْفْ يْعَبّْرْ[38]

-المجموع أو ذاتنا الجماعية الكبرى الممتدة عربيا وإسلاميا:

يحمل أكبر قضاياها إذ يعاني سقوط المكان(فلسطين) والصراع مع عدوان شرس-اختبرت الذات مع هذا الظرف الحرج مأساة الهزيمة التي تركت جرحا كبيرا لدى كل عربي ومسلم، لم يفت القصيدة الزجلية للمجموعة الوقوف عنده بتأمل يضع اليد على أهم أسبابه، يتعلق الأمر بتمزق الذات هو ما جعلها تتجرد من القدرة على الفعل، تعيش حالة الضعف، الجمود والسقوط، مستسلمة لوجودها الملغى:

يا لْعربي فينْ ايَّامْك مْاكْ اجْمدْ في الرُّكبَة

العَربي غَيّْرْ حالْكْ قبْلْ ماتجورْ النّْكبَة[39]

كما يتضح من الحركة الدلالية الأولى التي توجه اهتمامها إلى نقل الواقع، أنها تحتفي بالمشاهدة، إذ تصدر عن العين الفاحصة التي التصقت بالواقع لتصوير الجوانب السلبية فيه وتقديم لوحات صادقة تنعكس فيها مجموعة من العلل. وتصوير لا يخلو من أثر تصور وجودي نعاين معه قضايا من أهمها:

– انفصال الفرد عن المجموع. يمكن قراءته من حوضين دلاليين:

كتجسيد للعلاقات الاجتماعية المتصدعة، وتصدع يحركه المادي البراكماتي، جسدته القصيدة بالاستناد إلى اللغة المقارنة حيث يحضر زمنان- قديم سعيد وآخر حديث هو زمن التشظي حيث الكلية تتشذر ويسعى الإبداع إلى استعادتها فيكون الماضي وفق هذا التصور معيارا لما ينبغي أن يكون. تقول القصيدة:

هَكذا صَار بْنادم

العَشْرة والخَاوة والدّْم

عْليكْ ياَ الدَّرهْم

تْفارقوا وعليكْ تْلمُّو

كانتْ لِيَّام هَانيَة بِخيْر وكان لْجارْ يْسَالْ عْلَى جَارُو

واليُومْ شْكونْ يْسوّْلْ عْلْ لْغيرْ يموُتْ لْجارْ وْلاَ مْنْ يْجيبْ خْبارُو [40]

كترجمة للفردانية واللانتماء. واللامنتمي في تصور كولن ويلسون هو (إنسان استيقظ على الفوضى ولم يجد شيئا يدفعه إلى الاعتقاد بأن الفوضى إيجابية بالنسبة للحياة)[41]

استفاق على عالم مجزأ، مخيف، توجهه سلطة الآلة ونظم سياسية اجتماعية فكرية تفعل فيها معارف مادية، رسخت في إنسان الأزمنة الحديثة الشعور بالقلق والحيرة بين ذاته-الأنا ووجوده الخارجي، فتاه بين سراديب هذا الوجود، ينخر كيانه اتساع المسافة بين الحياة والمعنى، هو ما جعل التمركز حول الذات اختيارا قاسيا أسقط كل انتماء وسقط معه وجوده، الذي أصبح وجودا دون هدف، وهوما عمق غياب الإحساس بإراداته الناتج من تم، عن إحساسه بعبثية هذا العالم. هو ما أشارت إليه القصيدة الزجلية للمجموعة بلغة موحية جميلة:

وْعلاشْ زْمانكْ باكيَة ايَّامُو

وعْلاشْ وَقتْ ما وقْتكْ

كَيلقاكْ بْلا إرادَة

شاردْ مْغفّْلْ غادي لْهاويَة

ولامْنْ يَأخذْ بِيديكْ[42]

يترجم اللانتماء، بناء على هذا التصور، مجموعة من أخطر علل هذا المجتمع. لم يفت هذا التوجه الإبداعي الزجلي التنبيه إليها:

- الغربة النفسية يجسدها الإحساس باليأس والحزن:

تْعالى شُوفْ ليَأسْ لْوانْ

فْ عْيونْ شْبابْنا

كاتْمْ الدّْمْعة

وْلقْلوبْ زايْدَة نِيرانْ[43]

– الهوية المفقودة والاغتراب. إن قرأناه بمفهوم إيريك فروم[44] حيث الذات تفقد (نفسها الأصيلة) وتصبح (ذاتا زائفة) لكن لانقصد بالوجود الزائف، الذي فقد التفرد والاستقلال كما يرى المفكر بل نعني به الوجود الذي أقصى مسؤوليته في اختيار إمكانياته. وهو ما نعاينه في بعض أبيات القصيدة الزجلية وهي تتبع متسائلة في مرارة، عن حركة الذات -المجموع في رحلة توجهها رياح معادية تسير بها نحو حتفها:

لله يا سْفينا فِينْ غادْية بينا

وْحْنايا فيكْ رْهينا للصَّايْقينْ بينا؟

وحْتَّى لينْ وْحْنا تابعينْ؟

فينْ راحُوا مْعاهمْ رْحْنا

ولا حْيالْ بِدينَا

هُما يْرتاحُوا واحْنا فْالمحنة[45]

لقد اغتربت ذاتنا حين احتضنت الجاهز من الفكر المتعدد للآخر بطرفيه الغربي /الأوربي والشرقي/الروسي، خضعت لهذا الفكر فابتلعها وتمزقت وهي التي صنعت التاريخ عصورا طويلة وأفادت العالم فكانت ذاتها المتماهية بخصوصيتها. لكنها اليوم تسلم قيادة سفينتها لأياد أخرى تأخذها إلى الهاوية.

ب-إذا تحولنا إلى الحركة الدلالية الثانية نقرأ التعبير بالرؤيا من حيث هي حلم يتجاوز الكائن في اتجاه الممكن، أي في اتجاه مجتمع المستقبل ، جسدت معه القصيدة الزجلية الملتزمة الموجهة للغناء- على غرار القصيدة التموزية لعهد الخمسينات في الشعر العربي الحديث- إيمانا بالحياة والأمل يصر-مع الدموع والألم-على الانتصار كما تقول (فاضت بالدمع لماحي/ باقي طامح في نجاحي)[46] فقدمت حلمها :

بوطن مستقل موحد ينعم كل شبر منه بعبق الانتماء كما تجسد على لسان الأقاليم الشمالية المحتلة في قصيدة (السبتية)
بعروبة موحدة أيضا تسحق العدو وترفع الأذى عن الذات:

لمّْ الكلمة جمع شمل العرب

اسهَّالْ عْلينا ما صْعابْ[47]

هو الحلم أيضا بــ إنسان جديد:

يهتدي بأسلافه، الذين تعلقوا بالعلم وصاحبوا المعرفة مصاحبة صادقة وعاشقة ومتذوقة فنعمت معها الذات والمجتمع بفائدتها:

النَّاسْ قراتْ غِيرْ عْلْ لْحْصيرْ ذاقتْ عْلْمْ النّْجا وعَرْفاتْ اسْرارُو[48]

يحسن الإنصات إلى الكلمة الدالة الهادفة في (الخطب، الالمحاضرات، الأغنية، الشعر) من خلال حسن تدبر هذا الشعر وروايته. وكأن القصيدة الزجلية تعيد إلى الأذهان تقاليد الشعرية العربية القديمة حيث يحضر الحفظ ومعه الرواية تقول القصيدة:

شْحالْ مْنْ حْكمَة

وفْضايلْ اهْلْ ْلمَنابرْ

اصْغي لْلنَّغمَة

وذُوقْ سْر لْكَلمَة

وْارْوي وكُونْ حاضْرْ[49]

يدعو إلى المحبة والحنان لأنهما سبيلا السلام والأمان:

جِينا نْغنِّيوْ السَّلامْ

نْعزفوا لحَنْ المحبَّة

نجنحُو لجْناحْ الحْنانْ

نْغنيوْ لحنْ الحُبّْ

فْ سْما وْلادْ اليومْ[50]

لقد كان منتوج السبعينات الزجلي لمجموعة جيل جيلالة نموذجا إبداعيا متميزا، يرشح بمادة غنائية، تجاوزت السائد الغنائي وقتئذ، بابتهاجها بالإيديولوجي مضمونا.

رحلت المجموعة بهذا المضمون إلى وجدان المجموع، فاهتزت لوقعه ذاتنا الوطنية، وانحفرت له سلطة امتدت خارج حدود هذه الذات، ساهمت فيها منظومة بنائية شاملة هي إيقاع الذات وصوت الذات والذات التي تحتفل باختبار وجودها وتعيه باعتباره فاعلية تنطلق من رفض الكائن وتنزع باستمرار نحو الممكن.

مختلف جدي هادف وصادق مس أوجاع المجموع، مفعم بتطلعات وآمال وطموحات، حطم العادة الغنائية بفرقة تقليدية ، اختارت أدوات اشتغالها ، التي تصنف ضمن الآلات الإيقاعية وتعرف باسم “الصدمية” [51]. أما الذي وطد تميز هذا النسيج من العناصر البنائية فهو براعة أداء المنشد (المغني) التي تذكرنا بكلمة واحد من شيوخ فن الزجل اسماعيل المراكشي (الكلام عسل والصوت شهدة)[52]. إنه الصوت القيثارة الطبيعية، مع بعض الأفراد، كعنصر بنائي تفاعل مع العناصر الأخرى -كلام وآلات وطريقة آداء-فمنح المجموعة ذاتها، توقيعها. هو إيقاع الذات وخصوصيتها بلغة الناقد الفرنسي هنري ميشونيك استطاعت وفق هذه الخصوصية أن تحقق وهَجا وصدى، متجاوزة بذلك الحيز الزماني والمكاني لتفعل في التلقي مقربة فن الملحون إلى المجموع بكل طبقاته بإبداله الطريقة التي كان يؤدى بها من طرف مبدعيه ومنشديه الرواد.



خلاصـــــــــــــة:

تلك هي القصيدة الزجلية لجيل جيلالة، ببعض من قضاياها الكثيرة، امتداد للجفرية القديمة من حيث ارتكازها على أساس إيديولوجي هو الإيمان بإنسانية الفن، أكثر التصاقا بالشرط السوسيوتاريخي الذي ظهرت فيه. تلمع في الذاكرة الغنائية المغربية، شاهدة على عصرها أو جيلها الذي وصفته بهذه الكلمة وغيرها:

خُويَا العَرْبي وْجيلْ واحْدْ قاهْراه الغُربة[53]

احتضنت بين كلماتها جسدا متهالكا لذات ممتدة من غرب الإسلام إلى مشرقه، فبكت وتحسرت نادت، دعت، أمرت، وعظت، حذرت، ولم تمتنع عن الغناء كما فعل شاعر اليونان منلاوس لاودمس حين قال: (لن نضحك إذا لم نضحك معا/ لن نغني إذا لم تنته دموع العالم) منطلقا من المفهوم الشائع للغناء كتسلية واستمتاع، بل غنت دموع الإنسان وأحزانَه وآماله، بلغة لا تنفصل عما تقوله، لغة تطفح بالإحساس والفكر، استطاعت أن ترسم مكانها بين المعرب والعامي فخضعت للفنية التي تجاوزت بها الكلام المنمق أو “المرصع”-(بلغة الشيوخ الأوائل، وهو الذي يأتي، في الجودة، بعد الكلام “البالغ” أي البليغ) – لأن هذا الكلام، كما تقول:

فقد المذاق

والحرف البراق ضيع الحدة[54]

لقد كان لهذه اللغة عموما وقع كبير على المتلقي فاستطاعت أن تنفذ إلى كل الفئات الاجتماعية بل وتتجاوز حدودنا الإقليمية فتغلغل قوية في وجدان شعوبنا العربية، حيث نظمت حفلات ولقاءات كان للمجموعة مكان متميز فيها.

[1] ابن خلدون، المقدمة – مطبوعات مكتبة ومطبعة الحاج عبد السلام بن محمد بن شقرون، شارع بيبرس بالحمزاوي مصر، ص 466.

[2] عباس الجراري، القصيدة – الزجل في المغرب، هبة-خزانة عبد الحق المريني، ص 538.

[3] عباس الجراري : مرجع مذكور- صفحات 57-58-59-60

[4] محمد بنيس: الشعر العربي الحديث-بنياته وإبدالاتها الجزء 4، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 1991، صفحة 46.

[5] ن م: صفحة 45

[6] مسجد أو زاوية

[7] أبو بكر حجة الحموي: بلوغ الأمل في فن الزجل، تحقيق رضا محسن القري، مطبعة وزارة الثقافة دمشق 1974 صفحة 128.

[8] ن م: ن ص

[9] الأبيات مأخوذة من كتاب القصيدة –مرجع مذكور، صفحة 575.

[10] ن م: صفحة 60

[11] الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها- الجزء الرابع ، صفحة 45.

[12] ابن رشيق القيرواني: العمدة في محاسن أهل الشعر وآدابه باب في فضل الشعر، تحقيق محمد قرقزان، دار المعرفة بيروت-لبنان.

[13] مجدي محمد شمس الدين: ابن قزمان والزجل في الأندلس، القاهرة 2001 صفحة 63.

[14] أحمد صادق جمال: الأدب العامي في مصر في العصر المملوكي، الدار القومية للطباعة والنشر القاهرة 1966،صفحة 119.

[15] الأبيات مأخوذة من كتاب القصيدة صفحة 585-586

[16] Jean-Paul Sartre : Qu’est-ce que la littérature ? Edition Gallimard 1948, p 29

[17] ن م: صفحة 25

[18] ن م: صفحة 24

[19] سارتر: مرجع مذكور صفحة 18

[20] ن م صفحة 22

[21] محمد مندور: النقد والنقاد المعاصرون دار نهضة مصر القاهرة صفحة 188

[22] الأبيات مأخوذة من كتاب القصيدة ، مرجع مذكور صفحة 349

[23] الأبيات مأخوذة من كتاب القصيدة، مرجع مذكور صفحة 352

[24] الأبيات من نفس الكتاب، صفحة 368

[25] من (ديوان عيون الكلاب الميتة) الجزء الثاني من المجموعة الشعرية الكاملة –دار العودة، بيروت الطبعة الثالثة 1979

[26] عيسى بلاطة: بدر شاكر السياب، دار النهار للنشر الطبعة 3، الصفحة 175-176

[27] الأبيات من كتاب القصيدة : صفحة 351

[28] (داويوه) من مجموعة أغاني جيل جيلالة . يمكن العودة إليها مكتوبة – منتدى ناس الغيوان،الموقع: nas.elghiwane.ba 7r.org

[29] (قولوا لخليلي) من مجموعة أغاني جيل جيلالة

[30] من نفس القصيدة/الأغنية

[31] مالي يا مالي من نفس مجموعة الأغاني ويمكن العودة إليها مكتوبة – موقع مجموعة الشهاب: Chihab.kif.fr/-c431358

[32] (حقوقك نادينا) من نفس مجموعة الأغاني ومكتوبة من موقع ناس الغيوان

[33] مصطلح أطلق على هذا الفن من طرف الرواد الأوائل ورد في الصفحة 3، ويشير الجراري إلى (أنهم باستعمال هذه التسمية على صيغة التعريف المطلق لا يعتبرون ما سواه من الكلام) القصيدة الصفحة 58.

[34] (إلى ضاق الحال) من مجموعة أغائي جيل جيلالة

[35] القلب المسكون من نفس مجموعة الأغاني ومكتوبة – موقع مجموعة الشهاب

[36] السلام لجيل جيلالة ، من نفس مجموعة الأغاني

[37] القصيدة / الأغنية- ما لي يا مالي- من مجموعة أغاني جيل جيلالة

[38] القصيدة / الأغنية -بابا عدي- من نفس مجموعة الأغاني

[39] فلسطين- من نفس مجموعة الأغاني

[40] القصيدة / الأغنية (كنا وكنتو)-من مجموعة أغاني جيل جيلالة

[41] كولن ويلسون: اللامنتمي،ترجمة أنيس زكي حسن .دار العلم للملايين، بيروت 1958 .صفحة 18

[42] القصيدة / الأغنية (وا اسفا عليك)-من مجموعة أغاني جيل جيلالة

[43] القصيدة / الأغنية (فين احنا)-من نفس مجموعة الأغاني ومكتوبة – موقع ناس الغيوان السابق

[44] حسن محمد حسن: الاغتراب عند إيريك فروم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،بيروت 1995، صفحة 72.

[45] القصيدة / الأغنية (السفينة) – من نفس مجموعة الأغاني

[46] القصيدة الأغنية –(يا من نرجاك)- من مجموعة أغاني جيل جيلالة ومكتوبة –موقع مجموعة الشهاب

[47] القصيدة / الأغنية (مصاب)- من نفس مجموعة الأغاني

[48] القصيدة الأغنية (كنا وكنتو)- من نفس مجموعة الأغاني ومكتوبة -موقع مجموعة الشهاب

[49] (ريح البارح) من نفس مجموعة الأغاني

[50] القصيدة / الأغنية (السلام لجيل جيلالة)- من مجموعة أغاني جيل جيلالة

[51] منها -كما يذكر الجراري-(اطبيلة – التعريجة –البندير –الهرازي(تعريجة كبيرة) من كتاب القصيدة :صفحة 27

[52] عبد الرحمن الملحوني: كتابة الشعر المغربي الملحون -الكتاب 4-المحور2شركة بابل للطباعة والنشر، الرباط 1990 صفحة 85

[53] (فلسطين) –من مجموعة أغاني جيل جيلالة
[54] القصيدة / الأغنية، (لكلام المرصع) من نفس مجموعة الأغاني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى